اجتماعيةدراسات

الحكامة القيادية: تجربة كون 25 ومعالم النظام العالمي الاجتماعي الجديد

نقد التجربة ووضع تصور بديل من خلال أسس الأمن الاجتماعي الثلاثة: الروحي، الغذائي، السيادي

الدكتور سمير الوصبي مدير وحدة الدراسات الاجتماعية  لمركز العرب للابحاث والدراسات

 

المقال يضع تفسيرات للتغيرات الآنية والقادمة والتي يروم النظام أسس الأمن الروحي، الأمن الغذائي، الأمن السيادي والاجتماعي العالمي الجديد تنزيلها وإقرارها من خلال مخرجات تجربة كون 25 والتي مفادها أن العيش في المجتمع المثالي أو ما يسمى يوتوبيا (Utopia) مكان خيالي يعيش فيه مجتمع في ظروف مثالية نتيجة العدالة والمساواة في نظام الحكم والمعيشة الاجتماعية والاقتصادية والإجابة على فرضية كيف ستكون الحياة في الاكتظاظ السكاني والظروف المثالية؟

كاتب المقال يريد عبر نقد التجربة كون الأمنية الاجتماعية للنظام الاجتماعي الجديد تبني رؤية قوامها أن النظام الاجتماعي يبنى على ثلاثة أسس: الأمن الروحي، الأمن الغذائي، الأمن السيادي (في جانب تقوية القدرات الدفاعية والهجومية العسكرية للمجتمع) وبخصوص منهجية المقال تتحدد بعرض تجربة كون 25 ونقدها وعرض أهم الخلاصات التوجيهية نحو تأسيس نظام اجتماعي ينسجم والهوية العربية والإسلامية.

تجربة جون كالهون (John Calhoun) المستوى المعيشي الأول تحديات البقاء:

نشر جون كالهون عام 1973 دراسة يشرح فيها التجارب التي قام بها في الخمسينيات والستينيات وما تقود إليه فيما لو توفرت الظروف المثالية للكائن الحي يوتوبيا (Utopia) مع الاكتظاظ السكاني وزوال التحديات مثل نقص الموارد والافتراس والأمراض مسببات الهجرة فضلاً عن الطقس. كثير من التجارب التي تجرى على الكائنات الحية تختبر حياة الأفراد في ظل نقص عامل ما من الغذاء أو في ظل الخوف أو زيادة درجة الحرارة، لكن التجربة المعروفة بـ “كون 25” اختبرت ما هو عكس ذلك، وعلى مستوى اجتماعي، كيف ستكون الحياة في الاكتظاظ السكاني والظروف المثالية؟

أول تحدٍّ يواجهه الكائن هو الهجرة، حيث إن الأفراد الذين يفشلون في الحصول على حق البقاء في الموطن الذي ولدوا فيه يضطرون إلى النزوح إلى أماكن أقل من المستوى المطلوب، وبالتالي يصبحون عرضة أكثر للموت.

ثم نقص الموارد ممثلاً بقلة الطعام أو الشراب التي تهدد بالموت، لأن نقصهما يؤدي إلى المرض ونقص في تكاثر الأنواع. أما الطقس فقد طور كل نوع من أنواع الحيوانات تكيفًا جينيًا مع مجموعة معينة من الظروف الخارجية التي تؤثر على فسيولوجيا هذا الحيوان. أي أن ظروف الرياح أو المطر أو الرطوبة أو درجة الحرارة التي تتجاوز الحدود المعتادة تؤدي إلى الوفاة على الفور أو تزيد من خطر الوفاة. ولا ننسى تأثير الفيضانات والحرائق التي تؤدي إلى تغيرات كارثية لها تأثيرات واسعة النطاق وطويلة الأمد على أعداد السكان.

الخلاصة: مبدأ العيش والبقاء دافع لتصرفات الكائن الحي سواء أكان بشرا أم حيوانا، في غياب الوسط المناسب للعيش يضطر الكائن إلى الهجرة والتنقل والترحال، وهذا أمر بديهي ولازم، والتجمعات البشرية الأولى كانت تتنقل من وسط إلى آخر بحثا عن الأمن الغذائي على اعتبار أن الغذاء يعادل الحياة، والمجتمعات التي كانت تمتلك قيادة راشدة كان قائدها وحكماؤها يلتفون حول ينبوع الماء فهو المورد الأساس في بناء الدولة الاجتماعية.

 

التجربة الثانية: المستوى المعيشي الثاني أزال جون كالهون جميع تحديات البقاء التي يمكن أن يواجهها الفئران، حتى أطلق على المكان الذي يعيش فيه الفئران تسمية الجنة

المرض: على الرغم من أن معظم الحيوانات تكتسب بعض القدرة على تحمل الطفيليات والبكتيريا والفيروسات التي تغزو أجسامها، إلا أن معظم الأنواع لا تزال عرضة للهلاك الوبائي بالإضافة إلى الاستنزاف الطبيعي من المرض. كما أن الكثافة العالية بشكل غير طبيعي تزيد من احتمالية انتشار المرض. ثم يأتي الافتراس؛ في كل الأنواع، خلال مسيرة التطور، توجد حيوانات مفترسة مهددة لها قادرة على قتل بعض أفرادها.

رغم الموت نتيجة العوامل السابقة إلّا أن بعض الأفراد ثابر على البقاء، نتيجة تطوير استراتيجيات جديدة للتكاثر ولتعويض الخسائر.

ما قام به كالهون بناء على ذلك في العديد من التجارب على الفئران والجرذان هو خلق بيئة مثالية مثبطة لعوامل الوفاة وللمصاعب السابقة. لمنع الهجرة مثلاً صنع مسكنا مثاليا للفئران مؤلفا من جدران يصعب على الفئران تسلقها وتتوفر فيه مساحة كافية للعدد المستخدم في التجربة بالإضافة إلى توفير الكثير من موارد الطعام والشراب مع إمكانية الوصول إليها بسهولة. ثم ضبط كالهون البيئة من خلال التحكم بدرجات الحرارة خلال أوقات الشتاء والصيف وإبقائها مناسبة مثالية بما يناسب حياة الفئران. كما قام كالهون بالسيطرة على الأمراض من خلال التغيير المستمر للطعام وإجراء الفحوصات الدورية المستمرة واتباع الاحتياطات القصوى لمنع انتشار الأمراض الوبائية بين الفئران. أما الفئران التي اختارها للتجربة فقد كانت عبارة عن نخبة خالية من الأمراض أُخذت من مستعمرة التكاثر التابعة للمعاهد الوطنية للصحة. وبالتأكيد لم يكن هناك حيوانات مفترسة. أطلق كالهون على هذا المكان (الجنة).

بعد 104 أيام من الاضطرابات لحين تعرّف الفئران على عالمها الجديد، بدأت بالتكاثر. في جنتهم المجهزة بالكامل، ازداد عدد السكان بشكل كبير، حيث تضاعف كل خمسة وخمسين يوماً. عاشت أعداد كبيرة من الفئران حتى عمر 800 يوم، أي ما يعادل 80 عاماً للإنسان. كانت تلك هي الأوقات الجيدة. لكن بعد فترة بدأت الأمور تأخذ منحى آخر؛ وجدت الفئران نفسها في عالم أكثر ازدحاماً كل يوم، ومع وجود المزيد والمزيد من الأقران، وجد الذكور صعوبة مرهقة في الدفاع عن مساكنهم، لذلك تخلوا عن هذا النشاط.

انهار السلوك الاجتماعي الطبيعي داخل مجتمع الفئران، وانهارت معه قدرة الفئران على تكوين روابط اجتماعية. ضحايا هذه الهجمات العشوائية تحولوا إلى مهاجمين. تُركت الإناث بمفردهن في أعشاش معرضة للغزو، وتخلت الإناث عن صغارهن. تراجعت معدلات الإنجاب، وارتفع معدل الوفيات. ارتفعت حالات الاعتداء والاعتداء الجنسي وأكل الفئران الأخرى، انخفضت رغبة الذكور في ممارسة الجنس. ونظرًا لأن السكان توقفوا عن تجديد أنفسهم، كان طريقهم إلى الانقراض واضحًا.

أيضاً يذكر كالهون: لم تستطع العديد من الإناث تحمل الحمل حتى النهاية أو البقاء على قيد الحياة عند الولادة هذا لو وصلن إلى ذلك. وإذا ما تمت الولادة بنجاح فإن عدداً أكبر من الإناث كن مقصرات في واجبات الأمومة. أما الاضطرابات السلوكية بين الذكور فقد تراوحت من الانحراف الجنسي [كما يصطلح كالهون] إلى سلوك أكل لحوم الفئران الأخرى ومن النشاط المفرط إلى الانسحاب حيث يخرج الأفراد للتنقل وتناول الطعام والشراب فقط عندما يكون أفراد المجتمع الآخرون نائمين. كما أظهر النظام الاجتماعي اضطرابًا مماثلاً.

أصبح المصدر المشترك لهذه الاضطرابات أكثر وضوحاً في المجموعات السكانية في سلسلة تجاربنا الأولى المكونة من ثلاث تجارب، والتي لاحظنا فيها تطور ما نسميه بالبؤرة السلوكية. كانت الحيوانات تتجمع معًا بعدد كبير في إحدى الحظائر الأربع المترابطة التي تم تشكيل المستعمرة فيها. ما يصل إلى 60 من 80 من الفئران في كل مجموعة تجريبية كانت تتجمع في حظيرة واحدة خلال فترات التغذية. نادرًا ما كانت تأكل الفئران إلا بصحبة فئران أخرى. ونتيجة لذلك، نشأت كثافات سكانية شديدة قائمة على الأكل، تاركة مجموعات أخرى متفرقة.

في التجارب التي تطورت فيها البؤرة السلوكية، وصل معدل وفيات الرضع إلى 96 في المائة بين الفئات الأقل انضباطاً من السكان.

مخرجات التجربة: يعتبر كالهون أن فقدان الفئران رغبتها في تنفيذ السلوكيات الطبيعية المتعلقة بالبقاء الفسيولوجي والتكاثر هو بمثابة الموت الأول (الموت الروحي) الذي أدى بدوره إلى العنف وبالتالي إلى الموت الثاني (الجسدي). وبرأيه يمكن أن تنطبق هذه النتائج على أي نوع من الثدييات التي تعيش ضمن مجموعات عند تقليص العوامل المميتة. التي تؤدي إلى زيادة مفرطة في عدد الأفراد. الأمر الذي يخلق جواً من التنافس بين الأفراد الجدد مع الأفراد الأكبر سناً في المجموعة. تتطور المنافسة لتصبح عنفاً يؤدي إلى الموت. وبالنسبة لحيوان شديد التعقيد مثل الإنسان، يرى البعض أنه لا يوجد سبب لعدم تسبب تسلسل مماثل للأحداث في انقراض البشر. سيؤدي فقدان هذه السلوكيات المعقدة عند البشر، كما كان عند فئران التجربة، في مجتمع ما بعد الصناعي والثقافي والمفاهيمي والتكنولوجي، إلى انقراضهم.

 

أثر نتائج التجربة في خلق نظام اجتماعي جديد: من المعلوم أن تبرير القرارات الإجرائية المؤثرة في رسم معالم النظام العالمي الجديد مستند على التوصيات العلمية الاجتماعية فكولن أبلغ القيادة العليا أن الجنة دائما تتحول إلى جحيم. ما قد يهدد المصالح الذاتية للنخبة، وعليه وجب اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة خطر الانفلات الاجتماعي والسيطرة. كانت تجاربه بمثابة تحذير من ارتفاع عدد السكان في الولايات المتحدة والعالم. حذر علماء البيئة الرائدون مثل وليام فوكت (William Vogt) وفيرفيلد أوسبورن (Fairfield Osborn) من أن تزايد عدد السكان سيضغط على الغذاء والموارد الطبيعية الأخرى، وكلاهما نشر أكثر الكتب مبيعًا حول هذا الموضوع. كما نشر بول إيرليش (Paul Ehrlich) كتاب القنبلة السكانية، وهو عمل مثير للقلق يشير إلى أن العالم المكتظ على وشك أن تجتاحه المجاعات وحروب الموارد. بحلول عام 1972، وصلت القضية إلى ذروتها الرئيسية مع تقرير لجنة روكفلر حول السكان في الولايات المتحدة، الذي أوصى بإبطاء النمو السكاني أو حتى عكسه. المعتقد الذي يراد ترسيخه أن الاكتظاظ يساوي انفلاتا اجتماعيا وتولد أزمات اجتماعية الجوع الأوبئة ارتفاع معدلات الجريمة، غير أن واقع الحال أظهر أنه في كثير من الحالات لا يمكن أن نرى نفس التطابق بين معدلات الجريمة والاكتظاظ السكاني لدى البشر، فنرى مدنا غير مكتظة ترتفع فيها معدلات الجريمة والعكس صحيح. وبقصد توجيه الوعي الجماعي للقبول بمخرجات كالهون: ألهمت تجارب كالهون مجموعة كبيرة من أعمال الخيال العلمي مثل Soylent Green وComics، وأيضاً كتاب الأطفال لعام 1971 السيدة فريسبي والجرذان، والذي حُوّل إلى فيلم عام 1982.

نقد التجربة: في كثير من التجارب يتم توجيهها لبلوع أهداف ونتائج مسطرة ومحددة سلفا لكن من أجل أخذ المشروعية والمصداقية للإجراءات ذات الطابع الإقراري لابد من السند العلمي والسند هو التجارب العلمية الاجتماعية الموجهة، فقد أوضحت إنجليس آركيل (Inglis-Arkell) أن المساكن التي أنشأها لم تكن مزدحمة بالفعل، لكن هذه العزلة مكنت الفئران العدوانية من السيطرة. وأضافت إن “جنة كالهون لديها مشكلة توزيع عادل. وبالتالي ليست المشكلة بعدد السكان”. يمكننا أن نشعر بالراحة لأن البشر ليسوا فئراناً بطبيعة الحال.

يقول رامدسن (Ramdsen): “يمكن للبشر التأقلم. لم يُنظر إلى بحث كالهون على أنه مشكوك فيه فحسب، بل على أنه خطير أيضاً”. يذكر عالم الرئيسيات فرانس دي وال في سلسلة مقالات بموقع ساينتفك أمريكان أن الحالات المشابهة لدى الرئيسيات كالبشر والقردة العليا الأخرى لا تعطي نفس الاقتران بين الكثافة السكانية والجريمة، بعض المناطق في الولايات المتحدة ترتفع فيها الجريمة بمعدلات كبيرة، لكنها ليست مكتظة على الإطلاق والعكس صحيح في مناطق أخرى.

ومن التجارب التي تأثرت بهذه الدراسة تجربة بارك الفئران (Rat Park) الذي اختبر استهلاك المخدرات لصنفين من أصناف السكن للفئران، العيش بأقفاص منفصلة أم بمستعمرة، حيث وصل استهلاك الفئران المنعزلة لمخدر المورفين الممزوج مع الماء 16 مرة أكثر مما هو عليه لدى فئران المستعمرة، وللإناث أكثر من الذكور، وذلك بعد أن منح العلماء الفئران الخيار بين تناول الماء لوحده أو الماء المخلوط بالمورفين.

أجمع الباحثون على أن “عمل كالهون لم يكن يتعلق فقط بالكثافة بالمعنى المادي، كعدد الأفراد في كل وحدة مربعة من المساحة، ولكن كان حول درجات التفاعل الاجتماعي”. يضيف رامسدن أن الانحلال الأخلاقي لا يمكن أن ينشأ من “الكثافة، ولكن من التفاعل الاجتماعي المفرط”. لم يكن هناك ندرة في الطعام والماء في عالم كالهون. الشيء الوحيد الذي كان ينقصه هو المساحة.

إن ميزان العدالة الاجتماعية والنظام الاجتماعي الحديث يجب أن ينظر إليه بما يشبع مكونات الإنسان وهي الروح والجسد فتوازن الشخصية ومنه توازن المجتمع يقوم على التوازن بين مطالب الروح والجسد، فالأمن الروحي إشباعه من خلال منظومة تربوية أخلاقية، فاليوم لم نعد نحترم الطبيعة الإنسانية والحفاظ على خصائص كل نوع، فالرجل يملك خصائص محددة والمرأة تمتلك خصائص محددة، والخروج عن هذه الهوية الذاتية سيؤدي إلى خلخلة النظم الاجتماعية، والأمن الغذائي تحقيقه ليس بالأمر الصعب، فالبلدان العربية والإسلامية قادرة بما لها من موارد وكفاءات أن تخلق تكتلا اقتصاديا قويا يحقق أمنها الغذائي والسيادي.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى