رأي

د. محمد جبريل العرفي يكتب.. العمالة وسوء الإدارة والنهب تُضيِّع الوطن وتُفقر الشعب

زوبعة الضريبة المضافة على شراء النقد الأجنبي، هي أعراض جانبية لأمراض أشرس، أولها العمالة، فالسفراء الأجانب وتحديدًا (الغربيين والتركي والإماراتي)، يتحكمون بموظفين كبار ينفذون في إراداتهم، للتصرف في النقد الأجنبي بالمخالفة للقوانين، وباستخدام ما يسمى بالترتيبات المالية.

أما الضلع الثاني فهو سوء الإدارة، ليبيا تعيش أسوأ حالات إهدار المال العام، فالملاك الوظيفي يشكل ثلث السكان، (غير أصحاب المعاشات التقاعدية والضمانية)، لكن لنعتبر تضخم الملاك في ظل حالة النهب بمثابة (توزيع للثروة) المشكلة في تضخم البعثات بالخارج، التي تنفق بالعملة الأجنبية، عام 2010 كان ملاك الخارجية 2000 موظف، نصفهم في ديوان الأمانة ونصفهم في الخارج، واليوم تجاوز 40 ألفا بسفارات بعضها بدون رعايا ليبيين كسفارتنا في جزيرة (سانت لوسيا) سكانها 165 ألفا، وموظفو سفارتنا مقيمون في ليببا ويقبضون رواتبهم بالدولار، وشاهدنا 5 ملحقين عسكريين بجزر القمر، وكذلك تضخم الملاك التعليمي بمعلم لكل ثلاثة طلاب، جلهم لا يداوم بعمله، فهناك المقيم في مدينة ومحسوب على الملاك التعليمي في أخرى تبعد عنها بمئات الكيلومترات، ونخر سوء الإدارة القطاع الصحي، وتغولت ضرته القطاع الخاص، كما أن هناك موظفين حددوا لأنفسهم بأنفسهم مرتبات تبلغ عشرات الآلاف، بالمخالفة للقانون رقم 18 لسنة 2023، تغولت الميليشيات فتحولت إلى مافيات تتودد إليها الإدارة طلبًا لحمايتها، ودرءًا لابتزازها، لأنها تمتلك المستندات والمقاطع المسموعة والمرئية، أما التنمية الصناعية والزراعية والعمرانية فمتوقفة تماما، وصيانة المرافق العامة متردية.

حفاظًا على حقوق الأجيال القادمة في ثروة المجتمع، فقانون التخطيط يحتم تخصيص ما لا يقل عن 70% من دخل النفط لميزانية التنمية، والآن كل الدخل تستنفده الميزانية التسييرية وبعجز 15.5 مليار دولار سيلتهم خلال عامين الاحتياطي المتاح البالغ 29 مليارا وسنُستدرج إلى الاقتراض من المصرف الدولي بشروط مذلة تسحق المواطن.

العجز بين الإيرادات والإنفاق راكم الدين العام إلى 84 مليار دينار وسيتضاعف هذا العام، وسيتم سداده من جيوب المواطنين في شكل ضريبة مضافة على بيع النقد الأجنبي، وستتفاقم مشكلة السيولة ليطبعوا مزيدا من الأوراق التي كانت 7 مليارات دينار قبل 2010 وقد تصل إلى 160 مليارا 2024.

العنصر الثالث النهب، فقد فُتحت أبواب خزينة النقد الأجنبي ليتم نهبها باعتمادات وهمية كمستورد التبن والطوب، وخاصة أن القطاع الخاص يمتهن المضاربة والتجارة بدون قيمة مضافة.

وسينصب النهابون شباكهم ليستولوا على العملة الأجنبية من الضعفاء بفارق سعر زهيد. فعلاوة على نهب الاعتمادات الوهمية للمتنفذين اتجه النهابون إلى جيوب الشعب ليفرغوها، فاصبح المواطن يتضرر مرتين الأولى عندما اضطر لشراء عملة بسعر مرتفع وباعها للنهاب بفرق رمزي، والثانية عندما أعادها النهاب في شكل سلع، ترتفع أسعارها طرديا مع أسعار العملة بالسوق السوداء.

مافيا نهب الاعتمادات والاستيلاء على مخصصات المواطن، تحول العملة الاجنبية إلى مافيا دولية في الخارج تتبع الدول المسيطرة على القرار الليبي، ستستنزف المخصصات بسرعة، فتشح العملة الأجنبية من السوق فتعيد المافيا طرح ما اشترته سابقًا بأسعار مضاعفة، مما يرفع أسعار السلع والخدمات، وستستمر هذه الدائرة المفرغة التي تسحق المواطن.
الليبيون أصبحوا بدون حماية قانونية أو عدالة اجتماعية، فلا خدمات مجانية ولا تموين مدعوم، بينما في السابق كانت الصحة والتعليم مجانا والسلع الأساسية الثماني مدعومة، والسكن شبه مجانا … بعد انهيار التعليم العام اضطر الناس إلى تنسيب أبنائهم للتعليم الخاص، هذا الإنفاق يقوى عليه ميسورو الحال فقط، مما سيولد مع الزمن فروقا طبقية، كما أن التعليم العالي الخاص مؤسسات تجارية تسعى إلى الربح على حساب الجودة، وبيع إفادات بمؤهلات مزورة، مما سيخرّج أفواجا من حملة مؤهلات شكلية غير مؤهلة، ونتيجة لانهيار منظومة الخدمات الصحية أصبحت فاتورة العلاج تثقل كاهل المواطن….وبعد توقف برنامج الاسكان العام والتخلي عن مقولة “البيت لساكنه” اصبحت فاتورة الايجار تشكل ارق للمواطن الكادح.

يمكن التخفيف من الأزمة بإجراءات منها: إقرار الميزانية والتوقف عن الإنفاق بموجب الترتيبات المالية، وترشيد الاستيراد وتقليص الإنفاق وخاصة على البعثات الدبلوماسية والحد من المهمات الخارجية، ودراسة حل لمشكلة التهريب القائمة على فروق الأسعار الناتجة من الدعم، وسيطرة الميليشيات على المصافي ومواني التصدير، ونبذ فتاوى الزنادقة المخالفة لمقاصد الشريعة السمحاء كتحريم الفوائد المصرفية، التي أدت إلى عزوف الناس عن إيداع أموالهم بالمصارف، لأنها أصبحت لا تدر عوائد، بل مكلفة بالرسوم والخدمات المصرفية. واستئناف التنمية واحترام حرمة المال العام.

لا يختلف اثنان عاقلان على أن الليبيين يعيشون أحلك أوقاتهم فقرًا وإذلالا ومستقبلًا غامضًا، وقد يقعون في جرف هار، وإيماننا بمقولة “إن الأشياء المتعلقة بحاجات الإنسان من العبث معالجتها بإجراءات قانونية أو إدارية أو ما إليها، إنما يؤسس عليها المجتمع جذريا”، فإن هذا العبث لن يتوقف إلا بحل جذري يحقق العدالة الاجتماعية ويحرر الحاجات الأساسية للإنسان، بفعل استثنائي ثوري، لا تقوى عليه ولا ترغب فيه الإدارة الحالية بمختلف انتماءاتها، مما يتطلب أبطال تاريخ يضحون، فلا بد من أداة وطنية قوية حازمة وواعية.

القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، هي المسؤولة والمكَلفة والقادرة على القضاء على حالة التوحش والانفلات، فلنؤجل الديموقراطية إلى ما بعد إجلاء هذه الغمة، فأهلا بالدكتاتورية العادلة، التي تغل يد الأجنبي عن التدخل السلبي في الشأن الليبي، وتهيئ البيئة الملائمة لكل الليبيين ليجتمعوا في مؤتمر تأسيسي ليحددوا معالم دولتهم، ويقرروا مصيرهم بحرية، لإقامة دولة النزاهة والعدل لإدارة شؤونهم، وليقتصوا من كل من أجرم في حقهم وحق أجيالهم، ويكافئوا كل من أحسن إليهم، ويعيدوا الاعتبار لتاريخهم ورموزهم.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى