رأي

د. سمير الوصبي يكتب.. «فلسفةالتربية»

التربية: دلالة المفهوم وعراقة المبادئ الثلاث.

ارتبط مفهوم التربية تداولا ومزاولة تنظيرا وتنزيلا، بالنشأة الأولى والوجود البشري؛ لأنها تعكس القول والفعل الحسن للانسان، وهذا ما نص عليه “تشسترفيلد ”   بالقول: ” أحسن توصية يحملها الانسان للناس هي التربية الحسنة”؛ فهي “عملية” على حد تعبير مفكري علوم التربية، أي سلوك اجتماعي ظاهر للعيان، فكان السعي المعرفي هو انتاج نظريات تجعل هذه العملية (التربية) سلوك صحيحا، وذا فاعلية وانتاجية، لقتناعهم أن الحياة البشرية لا تصل إلى السعادة إلا من خلال وحدة النظام والانتظام، لهذا كانت التربية في محتواها المعرفي إلتزام بالواجبات وأداء للحقوق المتبادلة، حفظ للنظام سواء كان نظاما كونيا أو نظاما اجتماعيا أو نظاما عائليا أو نظاما ذاتيا؛ فشكل المنهج الاستدلالي لرصد السلوك الأحسن والأمثل من خلال مجموع التصورات محورا دلاليا سموه فلسفة التربية، لفهم السلوك الانساني أولا، وتعديله تاليا؛ فالتربية مرادها بناء الإنسان، ونهضة العمران، والعيش بأمان، ضمن وحدة النظام والانتظام.

المفهوم الدلالي للتربية كغيره من المفاهيم له معنى لغوي واصطلاحي هما عنوانه ومحتواه، ومبادئ هي مساره وطريقه، ومجالات هي موضوعاته وانشغلاته، وخواص هي ذاته وحياته، وتطوره هو ديمومته واستمراره.

جرت العادة في منهجية البحث عن المفهوم بالرجوع إلى المعاجم للتعرف على المعنى الأصلي والولادة للمفهوم، ومع مفهوم التربية سنعود إلى المعاجم الثلاث: المعجم الاغريقي، معجم العلوم السلوكية، المعجم العربي، لنحاول بعدها استخلاص النسق الدال والذي يجمع بين المعاجم الثلاث في تحديد انتقال المعنى، والفائدة المعرفية المستقاة عند تناول هذه المعاجم لمفهوم التربية لنتحقق من صحة فرضية الانتقال الدلالي ومدى تطوره وتكامله.

معنى التربية لغة (المعجم الاغريقي؛ معجم العلوم السلوكية؛ المعجم العربي)

المعجم الاغريقي: يشار إلى التربية بالبدغوجيا Pedagogy التي ترجع إلى أصلها

الاغريقي الذي يعني توجيه الأولاد، تتكون هذه الكلمة من مقطعين   Pais وتعني ولد و  Ogogé  توجيه.

معجم العلوم السلوكية: التربية تعني التغييرات المتتابعة التي تحدث للفرد، والتي تؤثر في معرفته واتجاهاته وسلوكه، تعني نمو الفرد الناتج عن الخبرة أكثر من كونه ناتجا عن النضج.

المعجم العربي: ورد في  ” الصحاح”  التربية هي: ” تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية كي تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف”.

اختيارنا للمعجم الاغريقي منطقي لأن التناول المنهجي والدراسة الاكاديمية انطلقت مع الفكر الفلسفي اليوناني، والذي أعطانا معنى أولى للتربية ” توجيه الأولاد” أي العمل على القول والفعل الحسن، التربية الصحيحة على حد تعبير “ميلتون”، ليأتي بعدها معجم العلوم السلوكية ليجيب عن سؤال طرح على المعجم الاغريقي هو ” كيف” نوجه الأولاد، فكانت الإجابة أن الانسان بطبيعته تعتريه تغييرات أو ما يمكن أن نسميه المتقابلات المتناقضات (فرح حزن- ضحك بكاء- سكون حركة- ……)

والتي تؤثر في معرفته واتجاهاته وسلوكه، ايجابا أو سلبا، والميدان هنا ودائرة العمل والاشتغال هي الخبرة التي تتشكل عن طريق التجارب التي يخوضها كل واحد منا في مساره وطريقه، فالخلاصة عند علماء السلوك الانساني والتي قررت بمعجم العلوم السلوكية أن التربية هي نمو الفرد الناتج عن الخبرة، لينشأ سؤال آخر هو “ماذا” ننمي، ليجيب المعجم العربي، أن التربية ” تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية كي تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف”. أي تنمية الوظائف الست الأساس المكونة لجوانب الانسان: العقلية؛ النفسية؛ السلوكية؛ الاجتماعية؛ الروحية؛ الصحية. ليتقرر لدينا أن المعجم العربي لم يكتفي بتحديد العناصر المطلوبة في تنمية الانسان بل عين معها الوسائل الكفيلية لتنمية الوظائف عن طريق “التدريب والتثقيف”.

وهكذا يتبين أن المعاجم الثلاث تكاملت فالمعجم الاغريقي اعطانا سؤال الماهية” توجيه الأولاد”، ومعجم العلوم السلوكية أحالنا على سؤال الذاتية، ” التغييرات المتتابعة”، وبقي سؤال الكيفية قرره المعجم العربي” التدريب والتثقيف”.

معنى التربية اصطلاحا

تفتقر التربيّة إلى تعريف واحد موحد، ويعود ذلك إلى تباين منطلقات أصحابها الفكرية والنظرية وإلى تصوراتهم للحقل التربوي المتشعب المكونات، وبناءا على ذلك نرجع إلى الاستنتاج الذي خرجنا به عند تناول التربية في المعاجم اللغوية، فالتربية مادمت توجيه فلابد لها من وسائل وهي تدريب وتثقيف فهي تتحقق وجودا من خلال الغايات، لتنقسم الى التربية على هذا الاعتبار الى معنى خاص (وسيلة) ومعنى عام (غاية).

التربية بالمعنى الخاص (وسيلة )

التربية عملية هادفة لها أغراضها  وأهدافها وغايتها، وهي تقتضي  خططا ووسائل تنتقل مع الناشئ من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة أخرى.

التربية بالمعنى العام (غاية)

تتضمن كل عملية تساعد على تشكيل عقل الفرد وخلقه وجسمه باستثناء ما قد تٌدخل في هذا التشكيل من عمليات تكون وراثية.

ولتحقق الوسائل والغايات التربوية وجب الالتزام الواعي بالمبادئ الثلاث، فهي المنهج الاستدلالي لمفهوم التربية، وخطة طريق لتنزيل أمثل للمعنى الخاص والعام للتربية .

المبادئ التربوية: مبدأ النشأة، مبدأ المعاش، مبدأ المعاد.

مبدأ النشأة: يرى أفلاطون ( 427 ق.م – 347 ق.م)  بأن ” التربية تدريب الفطرة الأولى للطفل على الفضيلة من خلال اكتسابه العادات المناسب”. وكمثال على تدريب الفطرة، السعي إلى نقاء الذات، بتزكية النفس وسمو الروح، وجعلها على الدوام في جانب الخير، والتركيز على كل ما هو ايجابي، فالشخصية المتزنة هي التي تربت على تقبل الآخر، ومقياس عملها وفعلها تمثل الفضائل والمسابقة إلى عمل الخيرات.

مبدأ المعاش: يقرر جون ميلتون(1608- 1674م) هذا المبدأ بالقول : ” التربية الصحيحة هي التي تساعد الفرد على تأدية واجباته العامة والخاصة في السلم والحرب بصورة مناسبة وماهرة”. فالعيش ضمن الجماعات البشرية يقتضي الالتزام بالواجبات وأداء الحقوق وفي هذا احداث لوحدة النظام، الضامن للأمن والاستقرار. ويرى ميلتون أن العقل الذي منحه الله للإنسان تظهر آثاره في قدرة الإنسان على الاختيار، ومن هنا فإن الفضيلة تعتمد على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة. ويعتقد ميلتون أن الفرد الصالح قادر على أن يقوم باتخاذ قرار منطقي وعقلاني في كل لحظة وفي أي موقف يتعرض له في حياته اليومية. ويتضح ذلك جليا أيضا في قصيدته  الفردوس المفقود. ومن الطبيعي أن تكون معظم شخصياته تعكس نجاحا منقطع النظير في مقاومة الإغراءات بنجاح، والقدرة على تبني اختيار بين اتجاهين متناقضين ـ الخير والشر.

مبدأ المعاد: يحدد توماس الاكويني (1225-1274م)  الهدف من التربية  “هو تحقيق السعادة من خلال غرس الفضائل العقلية والخلقية”. فالسعادة الحقة يعيشها أصحاب الفضيلة وهذا ما يؤكده

أفلاطون، في الجمهورية، أن أولئك الأخلاقيون وحدهم من يكونون سعداء بحق. وبذلك، فعلى المرء أن يفهم الفضائل الأساسية، وبخاصة العدالة. وصل أفلاطون إلى استنتاج، من خلال التجربة الذهنية لخاتم غايجيز، بأن من يسيء استعمال السلطة يصبح عبدا عند شهواته، بينما من يحجم عن فعل ذلك يظل متحكما بنفسه بشكل عقلاني، ومن ثم يكون سعيدا.يرى أفلاطون أيضا أن هناك نوع من السعادة ينبع من العدالة الاجتماعية الناتجة عن قيام المرء بوظيفته الاجتماعية، وبما أن هذا الواجب يشكل السعادة، فإن مصادر السعادة الأخرى التي عادة ما نراها –كالراحة، الثراء، والمتعة– تعتبر أقل أشكال السعادة منزلة، إن لم تكن زائفة بالكامل.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى