رأي

فيلابورتو عبد الكبير يكتب.. الحياد الجنساني حقيقةٌ أم وهم؟

قبل فترة لمَّا فرضت الجهات المختصة في إحدى المدارس الحكومية في منطقة “بالوشيري” في كيرالا (الهند) على طالباتها ملابس البنطلونات والقمصان مثل ما يرتدي زملاؤهن الذكور، بعض الطالبات رحبن بهذا التغيير على أنّ تلك الملابس أكثر راحة لحركاتهن. لمَّا غرَّدت وزيرة التربية العالية ترحيبًا بهذا الإجراء واصفة إيَّاه بالتحرك التقدُّمي نحو الحياد الجندري العصراني ارتفعت أصوات الاحتجاج من المجتمع المحافظ وخاصة من المسلمين، لأنَّ الوزيرة ألمحت في تغريدها أنَّ حكومتها بصدد بناء ولاية كيرالا من جديد، “تتمتع بالعدالة الجنسية والحس المرهف لاستيعاب جميع أنواع الجنس، ولتحقيق هذا الهدف علينا منح طلابنا فرصة للحصول على التعليم في بيئة حرة، دون عوائق من عبء المعيارية المتغايرة (Hetronormetive) الموجودة في المجتمع”.

تصريح الوزيرة هذا، وهي عضو ناشط في الحزب الشيوعي الذي يقود التحالف اليساريَّ الحاكم في الولاية، كشف عن الأجندة الخفية وراء هذا التحرك، مما أثار جدلًا ساخنًا في الوسائل الإعلامية والقنوات التلفزيونية. الغريب في الأمر كيف أنَّ حكومة يساريَّة تستطيع أن تتبنى فكرة ليبرالية غربية رأسمالية مثل الحياد الجنساني الذي يُسبب فوضى جنسية في المجتمع. والأغرب من ذلك أن كثيرًا ممَّن شاركوا من اليساريين في النقاش حول الموضوع كانوا غير مُلِمِّين بخطورة النظرية التي تمثل فكرة الحياد الجنساني. وأكثرهم كانوا يعانون من إفلاس علم الفَرْق والتميز بين المساواة الجنسانية والعدل الجنساني. فالمسألة ليست مسألة تنحصر على نوع من الملابس فقط، بل كانت تمتد إلى وجهات نظر، إلى الحياة والثوابت الأخلاقية والقيمية اللازمة لمجتمع سليم.

إذَن ماذا تعني المعيارية المتغايرة (Hetronormativity)؟ وهي القائلة بأنَّ الأشخاص متغايرون جنسيًّا، وأن نوع الجنس وممارسة الجنس ثنائية الطبيعية. يؤكد هذا المصطلح أن الشخص الغيري جنسيًّا هو الطبيعي، وأنَّ المجموعة من السحاقيات والمثليين والمتحوِّلين جنسيًّا وثنائيي الميل الجنسي المعروفة بـ LGBTQ+ كلها غير طبيعية. فالحياد الجنساني نظرية تُعبِّر عن الهوية الجندرية وتعطيها تفسيرًا جديدًا، خلافًا للمفهوم السائد منذ قرون في العرف العام. الجندر أو الجنس بموجب هذا المفهوم هو ما نختاره نحن ليس ما تُحدِّده الفطرة أو الولادة. ومن الشعار الذي يرفعه أصحاب هذه النظرية “أنَّ جسدي من خياري أنا” (My body is my choice).

إنَّ علامات الأنوثة والذكورة التي ترسمها الفطرة على أجسادنا والتي تُبرَز عند ولادتنا لا تعتبرها حركة الحياد الجنساني معيارًا لتحديد نوع الجنس. والهدف وراء هذه الحركة تدمير الشعور العام المبنيِّ على ثنائية الجنس الموجودة في المجتمع. ووزيرة التربية في تغريدها المذكور أعلاه كانت تريد من خلاله أن تُدمِّر هذا الشعور، بحيث يتِمُّ تمهيد الطريق إلى جواز زواج المثليين والسحاقيات وممارسة الجنس كيفما يشاؤون، حتى ممارسة الجنس مع الأطفال والحيوانات وجثمان الموتى. هذا يعني أن سياسة الجندر قد بدأت تُحكِم قبضتها على المجتمع في كيرالا. ما دام بناء المجتمع لم يكن على أساس ثنائية الجنس فلا بد من أن يكون على أساس معيارية كوير (َQueer normative).

يبدو من تصريح الوزيرة أن الحكومة تخطو خطوات لصالح مثل هذا المجتمع بعد تدمير “المجتمع الهيتورنورميتيف”، وتترتب هذه الخطوات على إجراءات قانونية وسياسية واجتماعية. وفي كثير من الدول الديمقراطية بما فيه الهند قد غدا القانون على أساس “معيارية كوير”. تبدأ السياسة الجندرية أن ترسخ جذورها في المجتمع بعد أن يُصبِح المجتمع معيارية كوير إلى حد كبير. وفرْضُ الملابس الموحّدة الحيادي الجنساني على الطلاب مرحلة أولى في الطريق إلى مجتمع ذي “معيارية كوير”.

الدراسة عن المعارك القانونية بهذا الصدد تُوضِّح كيف استقوت السياسة الجندرية في الهند. كانت ممارسة الجنس بين المثليين جريمةً في الهند حتى العهد القريب. وكان لمؤسسة “ناس” (Nas) وغيرها من المؤسسات والمنظمات دور كبير في رفع العقوبات عنها. ثنائية الجنس هي الأصل والطبيعية. وأمَّا أنواعها الأخرى المختلفة فهي شذوذ واستثناء وغير طبيعية. هذا هو المعترَف به طوال تاريخ الإنسان. أمَّا نظرية الحياد الجنساني فتزعم أنْ لا فرق بين هذه الأنواع من الجنس، وأنّ جميعها طبيعية، لا يجوز لمجتمع أن يفرض شعوره الجنساني على قاصري السن، بل يجب أن يُتركوا حتى يبلغوا الرشد ليختاروا جنسهم كما يشاؤون.

ويجدر هنا نقل فقرات من كتاب “21 درسًا للقرن الواحد والعشرين” للمؤرِّخ الإسرائيلي “يوفال نوح هراري” التي تشير إلى أزمة الديمقراطية الليبرالية. يقول هراري في كتابه المذكور “إن الليبرالية، بعد انهيار الفاشية والشيوعية، على شفا حفرة من المشاكل، وإن أزمة الديمقراطية الليبرالية ليس مصدرها البرلمان أو صناديق الاقتراع، بل الخلايا العصبية والتشابك العصبي (Synapse)”، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على عمق هذه الأزمة اجتماعيًّا وبيولوجيًّا. فما الحل لهذه الأزمة العصيبة؟ إن أمثال هراري من المفكرين المادِّيين إنما يبحثون عن حل يُعطي الفرد مزيدًا من الحرية، ويَنصب هؤلاء كلَّ آمالهم على “معجزات” يأتي بها العلم الحديث والتكنولوجيا المتطوِّرة. ولكن مقترحات هراري فيما يخص الحل عن تلك المشاكل إنما تضيف إليها مزيدًا من المشاكل وتُضاعفها. حين يتشدَّق هراري عن إنجازات العلم الحديث وقدراتِ التكنولوجيا الخلاقة التي قد تؤدي إلى خلق “إله إنساني” (Homo Deus) ليس غيرَ واع بنتائجها الحتميَّة التي تهوي في مهاوي المآزق. إنّ المفكرين أمثال هراري الذين يحاولون أن يحلّلوا الليبرالية ومفهومها متمسكين بالليبرالية إنما يكرِّرون نفس الأخطاء التي وقع فيها أمثال ماركس وفرويد الذين حاولوا أن يحللوا الأشياء مادية فقط حتى لفهم معيار النظم القيمية التي يجب أن يختارها الإنسان. هذه الأخطاء هي التي دفعت النظريات المادّية إلى الانهيار. وهي نفسها تدفع الليبرالية أيضًا إلى مصيرها المحتوم.

كانت حركة “مجتمع ميم عين” (LGBTQ+) تحفةً قدمتها الليبرالية في نهاية الألفية الماضية. المثلية والسحاقة والمحوَّلون جنسيًّا كلهم كانوا موجودين في كل زمان. ولكنَّ نظريةً سياسيةً ترتكز على هذا المجتمع إنما ظهرت أوَّل مرة في عصرنا الحديث. ترفرف الليبرالية أجنحتها بنصب آمالها على العِلم البحت، إلَّا أن قبعة العِلم لا تليق لرأس ليبرالية السياسة الجندرية. الليبرالية التي ترفع هتافها “الدنيا حلوة خضرة استمتعوا بالحياة قبل فوات الفرصة” لا تحتاج لبقائها إلى تأييد من العلم ولا من أيِّ فلسفة. لأن الفرد هو السلطان في مملكة الليبرالية. فبالنسبة إلى الفرد الاستمتاع بأي شيء بما فيه ممارسة الجنس لا يحتاج إلى تبرير إلَّا أن يكون قابلًا للاستمتاع في نظره. ولكنّ ناشطي “مجتمع ميم عين” إنَّما يحاولون أن يَفرضوا مبادئهم على الحكومات والمؤسسات القانونية مدَّعِين بأن علم البيولوجيا وعلم الوراثة يؤيدان مزاعمهم. ولذلك لا بد من التدقيق عن مصداقية هذه المزاعم علميًّا، وإلَّا سيتعرَّض حتى المتدينون السذَّج لغسيل أدمغتهم.

إن الصحفيَّ المجريَّ كارلوي ماريا كيرتبيني هو الذي استعمل اللفظ الإنجليزي Homoswxuality أول مرة للشذوذ الجنسي. كان ذلك في رسالة أرسلها إلى كارل هينريش أولريش رائد حركة حقوق المثليّين. اللجنة العلمية الإنسانية (Scientific Humanitarian Committe) هي كانت أوّل منظمة في العالم التي رفعت صوتها لحقوق الشواذ. تقدمت هذه اللجنة في مايو 1897 بطلب لرفع المادة رقم 175 من قانون الجريمة في ألمانيا التي تجعل الشذوذ الجنسي وممارسة الجنس مع الحيوانات جريمة تستحق العقوبة. الفيلم الألماني Anders als die Andern الذي تم عرضه في 1919 طالب جميع المثليين في العالم بأن يتَّحدوا ويرفعوا أصواتهم للحصول على حقوقهم، وأن يفتخروا بتوجهاتهم الشهوانية الجنسية. لمَّا انتهت الحرب العالمية الثانية انتشرت منظمات كثيرة للمثليِّين في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وهولندا والدنمارك والدول الإسكندنافية.

الفوضويّون هم كانوا في مقدمة تشكيل هذه المنظمات. وصدرت مجلات مثل Der Keries وOne وThe Ladder وغيرها لترويج أفكارهم الفوضوية المنحرفة. وفي 28 يونيو عام 1969 اندلعت اضطرابات امتدت إلى خمسة أيام إثر حملة قامت بها الشرطة على نادي المثليين المعروف باسم Stone wall In، وأدّت هذه الاضطرابات إلى خسائر فادحة. وكانت هذه رسالة تهديد للحكومات والمؤسَّسات القانونية تخبرها بأن أي إجراءات ضد المثليِّين ستكون نتائجها مُرعِبة. جعل المثليُّون هذا الواقع تذكارًا تاريخيًّا حيث احتفلوا به كل سنة. من هنا كانت بداية “مسيرة فخر المثليِّين”، جرت هذه المسيرة في شيكاجو ونيويورك ولوس أنجلوس وسان فرانسيسكو من المدن الأمريكية. أوَّل مسيرة فخر للمثليِّين في الهند كانت في نيو دلهي عام 2008 اشترك فيها خمسمائة شخص تقريبًا، وكان هتافهم: “ارحل يا 377 من الهند”. وبعد سنة من هذه المسيرة أصدرت المحكمة العليا أمرها في نيو دلهي بإلغاء المادة رقم 377 من قانون العقوبات التي تمنع ممارسة الجنس بين المثليِّين. وقبل هذا الحكم كانت محاولات المنظَّمات غير الحكوميَّة في قدم وساق لتدمير المعياريَّة المتغايرة باستخدام الوسائل الإعلاميَّة والمسلسلات التلفزيونيَّة والسينما والأعمال الروائيَّة. مواكب فخر المثليِّين التي تجري في احتفالاتهم السنويَّة مليئة بالمشاهد العارية الفوضوية مما يؤدي بالأجيال الناشئة إلى الانحطاط الأخلاقي. ومن ثمرات هذه الفوضى انتشار مرض الإيدز.

وقد حاولتْ منظمات المثليين التغلغل أيضًا في أوساط الديانات بما فيه الديانة اليهوديَّة والنصرانيَّة والهندوسيَّة حتى الإسلاميَّة التي اتخذت موقفًا صارمًا من الشذوذ الجنسي، وذلك بتحريف النصوص الدينيَّة. ولكن هذه النظريات نظريات واهية ليس لها أي أساس علميٍّ، لا يُؤيِّد مزاعمَهم العلمُ البيولوجي ولا العلم الفسيولوجي ولا العلم السيكولوجي ولا علم الأعصاب ولا علم الوراثة.

النظرية الجندرية مبنيَّة على أفكار سيمون دي بوفوار التي عبَّرت عنها في مجموعة مقالاتها النسوية المعنونة بـ”الجنس الثاني” (Second Sex). وقولها المشهور “لا تولد امرأةٌ امرأةً، بل تُصبح كذلك” هو المبدأ الأساس للسياسة الجندرية. وصياغة بوفوار هذه تُميِّز بين الجنس والجندر (النوع الاجتماعي) وتقترح أن الجندر إنما هو أحد جوانب الهوية التي يتم اكتسابها تدريجيًّا، فالجندر ما يختاره الإنسان ليس ما تحدده العلامات الظاهرة على الجسد مثل الذَّكر والفرج. الجنس (Sex) والنوع الاجتماعي (Gender) والجنسانية (Sexuality) ثلاث ذوات مستقلة. الرجل أو المرأة مهما كان عضوه/ها الجنسي فإن جندره/ها ما يحسّه في داخله/ تحسه في داخلها لا ما يظهر على جسده/ها. وما يجذبه/ها جنسيا هو جنسانيته/ها. وليس من الضروري أن يجتذب رجل إلى امرأة أو أن تجتذب امرأة إلى رجل. العكس أيضا ممكن والجميع طبيعي.

وليس في عالم الجندر شيء يُعدُّ غير طبيعي. الحياد هو الأصل في الجندر. هذه هي النظرية الفلسفية وراء الحياد الجندري. وهناك نظرية ثانية تعرف “نظرية كوير” (Quire Theory). وبموجب هذه النظرية، الجندر مثل قوس قزح ذي ألوان متعددة، ولكل لون داخل حلقة هذه الألوان حق الحرية لتحقيق توجهاته الجنسية. ويزعمون أنه ما دامت فكرة المعيارية المتغايرة مهيمنة على المجتمع تُمنع هذه الحرية لمجتمع ميم عين، فلا بد من تدمير هذه الهيمنة حتى ينشأ مجتمع يتفكر أن جميع التوجهات الجنسية طبيعية. ولتحقيق هذا الهدف يجب أن يتم تربية الأطفال دون تميُّز في شعورهم الجنسي. فالتميز في الملابس والألعاب في زمن الطفولة يمنعهم من اختيار توجهاتهم الجنسية عند بلوغ سِنّهم. ثم إن أي شخص يُمكِن أن تكون له عدة توجهات جنسية. هذه الحالة تسمى السيولية الجنسية (Sexual Fluidity). فلا مانع من أن يكون الواحد الذي كان رجلًا في الصباح أن يكون في المساء امرأة، لأنّ الجنس والجندر إن يختلفا بيولوجيا فالجندر من المنتجات الاجتماعية، فهو كما يهوى هو، أو تهوى هي، ليس سابق التحديد. هذه هي نقطتهم المنطقية. ومن البديهيِّ أن مثل هذه المزاعم عارية من الدلائل العلمية الثبوتية، هي مجرد مغالطات مبنية على أوهام أهوائهم.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى