دراساتسياسية

 د. عبدالرحمن الأشعاري يكتب.. الغربُ وعُقدة الحضارة العربية الإسلامية

الكاتب مدير مركز العرب للأبحاث والدراسات بالمغرب

بالنظر إلى ما يعتملُ في عددٍ من دول العالم الإسلامي، وعلى وجه التحديد في فلسطين، فإنه يمكن القول وبالجهر أنَّ ثمَّة عقدةٍ تلازم الغرب وتصاحبه أينما حلَّ وارتحل، اسمها (عقدة الحضارة العربية الإسلامية)، فعلى الرغم من أن الغرب متقدمٌ علمياً وتكنولوجياً ومعرفياً بالمقارنة مع دول العالم الإسلامي، إلا أنه لم يستطع أن ينشىء حضارةً كتلك التي أنشأها العرب والمسلمون منذ أربعة عشر قرناً، فإذا كانت حضارة الغرب قائمةً على التوسع الاستعماري والسطو والقتل وسفك الدماء، فإنَّ حضارة المسلمين، وبشهادة التاريخ، مؤسسةٌ على الأخلاق والعدل والسلم والسلام والأمن والأمان وحُسن الجوار.

حربٌ حضارية

ولذلك ظلَّ الغرب في كل مواقفه وحركاته وسكناته يعادي الحضارة العربية الإسلامية، لا لشيءٍ سوى لأنها متفوقةٌ عليه حضارياً، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على أن كل الحروب التي خاضها الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، ضد الإسلام والمسلمين لم تكن حروباً عادية، بل كانت على حدِّ تعبير المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة في كتابه “الإهانة في عهـد الميغـا إمبريالية”، حرباً حضارية.

يقول الراحل المهدي المنجرة: “كان هانتنغتون هو الذي تبنَّى مفهوم “صراع الحضارات” في مقالةٍ له صدرت في إبريل/نيسان 1993، وقبل ذلك، كنت قد استعملت تعبير “الحرب الحضارية” في حوارٍ مع المجلة الألمانية (دير شبيغل) يوم 15 فبراير/شباط 1991، التي جعلت منه عنواناً على صدر غلافها المخصص لحرب الخليج”.

الغربُ وعُقدة الحضارة العربية

وهي حربٌ ضد كلَّ ما هو عربي مسلم، وإذا شئنا فهي ضد كل ما هو لا ينتمي لطائفتهم، والحرب على فلسطين والعراق وأفغانستان جزءٌ منها، فالخوف من الدين الذي ارتضاه الله للناس، والذي هو الإسلام، على حد تعبير المفكر الراحل المهدي المنجرة “يعتبر إحدى أكبر حالات الهَوس التي يعيشها الغرب والعالم الأوروبي”.

لقد ظلَّ الغربيون يتحدثون عن الإسلام وكأنه عدوٌ يتربص بهم، ويعتبرونه أكبر خطرٍ يتهدد الحضارة الغربية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي (المعسكر الشيوعي)، أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ولذلك كثَّفوا من عملياتهم البحثية والسياسية والعسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية والإعلامية، يعقدون المؤتمرات والندوات، ويصدرون الدراسات والأبحاث والكتب والمجلات، ويقدمون البرامج المسموعة والمرئية لتشويه صورة الإسلام وصورة الحضارة العربية الإسلامية، وتأكيد أنهما يشكلَّان خطراً ليس فقط عليهم، ولكن على البشرية جمعاء.

وذلك على الرغم من أن عدد “المنتسبين إلى الإسلام ،أقل بكثيرٍ من عدد غير المسلمين، بل هو كما يقولون أقلُّ من عدد المنتسبين إلى النصرانية، وعدد الملتزمين من هؤلاء بدينهم توحيداً وصلاةً وصياماً وحجاً وزكاةً، أقل بكثيرٍ من المنتسبين إليه، والمهتمون من هؤلاء بأمر الدعوة إلى الإسلام في البلاد الغربية، إنما هم طائفةٌ قليلة”، دون الحديث عن حالة الضعف والهوان التي أصابت الأمة العربية والإسلامية على السواء، فالفرق بينها وبين الدول الغربية على المستوى الاقتصادي والعلمي والعسكري شاسعٌ جداً.

الغربُ وعُقدة الحضارة العربية

ثم إن الحضارات، وفي كل العصور، تقوم على مرتكزين: الأول هو منظومة القيم
والدين والمعتقدات، والثاني مرتبطٌ بالجانب المادي، أي الجانب المرئي من الحضارة، وإذا ما تهدَّمت المعالم المادية لأي حضارةٍ كانت، وسلُمَ المرتكز القيمي والعقائدي، فإن الحضارة من الممكن أن تعيد بناء نفسها من جديد، أما إذا ما حدث العكس فإن هذه الحضارة تكون قد تحطَّمت وسقطت واختفت كل آثارها سواء المادية أو العقدية.

والغرب من هذا المنطلق، لا يخاف على الشق المادي من حضارته، لأنه على علمٍ بأن العرب والمسلمين ليس بمقدورهم ضرب هذا الجانب، ولكن يخاف على شقها المعنوي، أي الشقَّ المرتبط بالعقيدة والدين والقيم، ولهذا اختلق مجموعةً من صكوك الاتهام أبرزها صك الإرهاب وصك ما يُعرف بـ (معاداة السامية).

يقول برنار لويس، المعروف بعدائه الشديد للإسلام والمسلمين، في هذا الصدد: “لمدة أكثر من ألف عام، قدم الإسلام المجموعة الوحيدة من القواعد والمبادئ المقبولة عالمياً لتنظيم الحياة الاجتماعية، وحتى في الفترة التي بلغ فيها النفوذ الأوروبي الغاية في البلاد التي سيطر عليها، أو حكمتها القوات الأوروبية الإمــبريالية، أو تلك التي ظلت مستقلةً، فإن الأفكار والاتجاهات الإسلامية السياسية بقيت ذات أثرٍ عميق وشامل”.

 

مشاهدُ من ذاكرة التاريخ

ثم إنَّ الغرب لا يمكنه أبداً أن يمحو من ذاكرته المعارك التاريخية، التي انهزم فيها أمام الجيوش العربية والإسلامية في مؤته واليرموك وعين جالوت وحطين، بكلٍّ من الأردن وفلسطين، وفتح الأندلس وبواتييه (بلاط الشهداء)، والزلاقة ووادي المخازن، وكوسوفو، بكل من المغرب وإسبانيا وفرنسا والبرتغال ومنطقة البلقان، فهو ما يزال يذكر كيف انتشرت جيوش المسلمين وتوسعت في العالم كله، بما فيه أوروبا الغربية، حتى بلغت فرنسا على يد القائد عبدالرحمن الغافقي، الذي دخل هذه البلاد عبر جبال ألبرت، وفتح مدينة “آرل” المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ثم وجَّه جيشه عبر جبال “البرانس” (البيرينيه)، بين فرنسا وإسبانيا، وفتح مدن جنوب بلاد الغال منها مدينة ليون (لودون) وسانس، وصولاً إلى مدينة بوردو، حيث لاقى دوق أقطانيا أودو وهزمه هزيمةً ساحقة ومدوية.

وهذا هو ما يفسر الهجوم الوحشي والهمجي الجوي والبري والبحري، الذي تشنه الجيوش الأمريكية الصهيونية الإمبريالية الغربية على سكان غزة والضفة الغربية الآمنين، حيث يستهدفون حتى الأطفال الرُّضع والخذج والنساء والعجزة وذوي الاحتياجات الخاصة أيضاً بترسانةٍ عسكرية هي الأكثر تقدماً وتطوراً على مستوى العالم.

ويفسر أيضا الهجوم الوحشي الذي شنته قبل ذلك الجيوش الأمريكية الغربية الإمبريالية على كلٍّ من العراق وأفغانستان، حيث قُدِّر عدد من قضوا في العراق وحدها في الفترة الممتدة ما بين شهري مارس/آذار من عام 2003 ويونيو/حزيران من عام 2006 بـ150 ألف شخصٍ، أما مجلة “لانسيت” الطبية، فقد نشرت في سنة 2006 دراسةً قدرت عدد العراقيين الذين قضوا جراء العدوان الأمريكي الغربي الاستعماري بـ654965 مواطناً عراقياً، ناهيك عن التدمير الشامل لكل معالم الحضارة العربية الإسلامية في كلٍ من بغداد والبصرة والموصل، أحد أبرز العناوين الكبرى لهذه الحضارة، وتم كل ذلك تحت ذريعتين: الأولى هي التهديد المزعوم الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل العراقية، والثانية هي مزاعم بوجود علاقةٍ بين صدام حسين والقاعدة، التي كانت قبل العدوان على العراق بسنتين قد تورطت في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ولم يكن أي منهما حقيقياً، إذ لم يتم العثور على أسلحة دمار شاملٍ في العراق بعد الغزو، وثبت أن الدلائل على ارتباط الرئيس صدام حسين بـ11أيلول/ سبتمبر دلائل كاذبة، كان الهدف منها هو تبرير العدوان الأمريكي على بلاد الرافدين.

يقول ستيفن والت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد في مقابلة مع DW بهذا الخصوص: “إنَّ المعلومات الاستخباراتية الخاطئة كانت السبب في ذلك”، مضيفاً: “لقد اتخذوا القرار بالفعل، وكانوا يبحثون فقط عن الحجج، القرارات كانت مبنيةً على معلوماتٍ كاذبة، لقد تلاعبوا بالمعلومات من أجل تبرير ما قرروه بالفعل”.

أما في أفغانستان، ووفقاً لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون، فإن الحرب قتلت ما يزيد على 176 ألف شخص، منهم 46319 مدنياً و69095 عسكرياً وشُرطياً، وما لا يقل عن 52893 مقاتلاً من طالبان، وفقاً لهيئة الأمم المتحدة، وهناك مصادر أخرى تشير إلى أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، وتقول بأنه يتراوح بين المليونين والثلاثة ملايين مواطن أفغاني.

 

الغربُ ومشكلة الهُويَّة

ولم يكتف الغربيون بشنِّ الحروب والحرق والتدمير والقتل وسفك دماء الأبرياء، بل قرروا أيضاً إعادة النظر في حضارتهم، ليحاولوا تخليصها من الجوانب السلبية التي تضعفها وتجعل الإسلام متفوقاً عليها، ومن ذلك وضع أسسٍ تحدد هويتهم الثقافية والدينية، ومن ثم شرعوا في تهميش ومضايقة كل المهاجرين من ذوي الأصول العربية والإسلامية، واتهامهم باتهاماتٍ مختلفة، وهو ما أدى إلى انتشار ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، يقول الكاتب الأمريكي المشهور (فوكوياما): “إنَّ مشكلة هجرة المسلمين إلى أوروبا تفرض علينا أن نحدد هويتنا، لكن المشكلة هي أن رجل ما بعد الحداثة لم يعد يؤمن بهويةٍ تعتمد على دينٍ أو وطنٍ، بل إن النسبية جعلت الناس، ولا سيما في أوروبا، عاجزين عن أن يتفقوا على شيءٍ مشترك بينهم يقولون إنه يمثل هويتهم”.

ويضيف: “إذا أرادت مجتمعات ما بعد الحداثة أن تتحرك نحو مناقشةٍ جادة للهوية، فإن عليهم أن يكشفوا عن تلك الفضائل الإيجابية التي تحدد ما معنى أن تكون عضواً في جماعةٍ أكبر، وإذا لم يستطيعوا فمما لا شك فيه أنه سيسيطر عليهم قومٌ هم على يقينٍ من هويتهم”.

إنَّ الهاجس الذي يؤرق الغرب والغربيين، على الرغم من تفوقهم ـ كما سبق الذكر ـ اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً وعسكرياً، هو شدة تماسك منظومة القيم والدين والعقيدة في الحضارة العربية الإسلامية، وهو الشقُّ الأهم في كل حضارة، ما يعني أن هذه الحضارة من الممكن أن تعود وتتوهَّجُ من جديد، وما يجري في العدوان الذي تشنه القوات الصهيونية الأمريكية الغربية على قطاع غزة حالياً دليلٌ على ذلك، فسكان غزة، وتحديداً المقاومة الفلسطينية، تقاوم هذا المحتلَّ من منطلق هذه المنظومة العقدية، وهو السر في تفوقها ميدانياً وعسكرياً، على الرغم من قلة العدد والعتاد والعدة، وغياب الدعم المادي والمعنوي من الجهات التي من المفترض أن تقوم بذلك، بدافع الهوية والدين واللغة والتاريخ المشترك، مع بعض الاستثناءات القليلة جداً.

 

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى