اجتماعيةالرئيسيةدراسات

أ.د. هاني جرجس عياد يكتب.. المعاني الدلالية للصمت في لغة الجسد

الكاتب أستاذ ورئيس قسم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة الأفروآسيوية

إن الباحثين في لغة الجسد قد اختلفوا، فيما يخص لغة الصمت، فمنهم من يعتبرها جزءا من التواصل غير اللفظي، ومنهم من لا يدرجها ضمن هذا النوع من التواصل، ومعظم الكتب التي تناولت دراسة لغة الجسد لم تتطرق إلى لغة الصمت، بل لم تجعل لها ولو جزءا يسيرا ضمن المباحث والقضايا التي تطرقت لها. والحق أننا إذا تأملنا جليا، سوف ندرك أن للصمت حضورا كبيرا في حياتنا، ووجودا يوميا في علاقاتنا بالآخرين، وما نزال نستعمل القول المعروف “السكوت من علامات الرضا”، وهو ما يعطي للصمت طابعا لغويا وتواصليا، وإن لم يكن لفظيا، حيث يفهم من صمت أحدهم قبوله الشيء ورضاه بما قدم له. ولعل هذا المثال قيل في حالة الزواج كما بلغنا، إذ تكتفي المرأة بالصمت، عندما يعرض عليها الزواج لتعبر عن قبولها ورضاها، وهو ما يجعل الصمت بدوره مقيدا بالزمان والمكان والسياق، حيث يختلف معنى الصمت من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، كما يختلف من سياق إلى آخر. فإذا كان الصمت في الزواج عند المرأة يعني الرضا، فإنه يعني، في سياقات أخرى، عدة معان، منها الغضب والحزن واللامبالاة والاستهزاء والتكبر … إلخ، وغيرها من الرسائل التي يمكن أن تفهم من الصمت. عندما نغضب طفلا صغيرا، فإنه يلتزم الصمت، وأحيانا لا يجيبنا مهما كانت أهمية أسئلتنا، وعندما يسأل الأستاذ تلميذا فيصمت، فإنه غالبا ما يكون بسبب عدم معرفة الجواب، وعندما يصرخ الأب في وجه ابنه فيصمت فإنه غالبا ما يكون تعبيرا على الخوف أو الاحترام والتقدير إلى آخره.

اقرأ أيضا: أ.د. هاني جرجس عياد يكتب.. إدارة التكنولوجيا والابتكار في المؤسسات

ويشير هذا الاستعمال الكبير للصمت إلى أنه نوع آخر من اللغة، ويعتبر صورة عاكسة للواقع الإنساني، حيث يغدو الصمت لغة ناس كثيرين، حتى أنهم قالوا: إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب، وقالوا: إن الصامتين إما أنهم يحملون بداخلهم حزنا كبيرا أو حلما كبيرا، وهذا تعبير بليغ على أهمية الصمت، باعتباره لغة أخرى من اللغات، أو بالأحرى من أبلغ اللغات، وفي الحكم قالوا: الندم على السكوت خير من الندم على القول، وحكم وأقوال كثيرة.

ولكن السؤال هو: “متى يكون الصمت علاجا؟” و”متى يكون السكوت من ذهب؟” والسؤال الأهم هو: “متى يكون السكوت من فضة والكلام من ذهب؟”

هل لو سكت الزوجان عن التعبير عن حبهما يكون السكوت من فضة؟ وهل لو رأيت خطأ في ابنك وسكت يكون السكوت من فضة؟ وهل لو رأيت أحد أصدقائك يصاحب صديقا مؤذيا أو سيئا فيكون سكوتك عن نصيحته من فضة؟ وهل لو طلب منك رأي في خلاف بين اثنين وأنت تعرف أن كلمتك ستعالج المشكلة ولكنك سكت يكون سكوتك من فضة؟ وهل سكوتك على من يجرحك ويهينك ويشتمك يكون من فضة؟

بل يكون سكوتك من ذهب إذا كان سكوتك يعالج المشكلة، وإلا فإن الكلام يكون من ذهب لأن علاج المشكلة بالكلام لا بالسكوت، وأحيانا يكون الصمت علاجا عندما تكون غاضبا، فالأفضل أنك لا تتكلم لأنك تعرف نفسك لو تكلمت فإنك ستعتدي على الآخرين، ففي هذه الحالة يكون سكوتك من ذهب حتى يهدأ غضبك، فليس الكلام دائما هو الحل للمشكلة كما أن السكوت كذلك ليس هو دائما حلا للمشكلة، وهنا نحتاج من يتخذ قرارا بالكلام أو السكوت أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات في الموقف الذي يعيشه.

وفي كل الأحوال لو اتخذت قرارا بالسكوت فلا تجعل السكوت طويلا، فإن طول الفترة يزيد المشكلة تعقيدا ويزيد الجفوة والكراهية بين الطرفين، أعرف رجلا خاصم زوجته فسكت عنها سنة كاملة وكلما حاولت أن تتكلم معه صدها وأدار ظهره فلما قرر أن يرجع إليها ويحاورها بعد سنة تركته وطلبت الانفصال وحصل الطلاق بينهما، فطول السكوت مدمر للعلاقات، وأعرف أبا هجر ابنه سنوات فلما كبر وأراد أن يكلم ابنه هجره ابنه ولم يكلمه، ففي مثل هذه الحالة صار السكوت مدمرا للعلاقة وليس علاجا لها.

وهناك خمس خطوات يمكنك اتخاذها مع الشخص الذي يريد أن يعاقبك بسكوته، فالخطوة الأولى أن تفكر بالشخص الذي اتخذ قرارا تجاهك بالصمت والسكوت لأنه في الغالب يكون غاضبا ومحبطا، والخطوة الثانية أتركه فترة ولا تلح عليه بأن يكلمك؛ لأنه ربما يحتاج وقتا ليفكر ويستريح قليلا، والخطوة الثالثة حاول أن تتفهم وجهة نظره عندما يعود إليك وينتقدك ويشتكي من تصرفك، واعتذر له لو كنت مخطئا أما إذا لم تكن مخطئا فلا تعتذر ووضح رأيك بقوة، والخطوة الرابعة لو كان الشخص الذي يريد أن يعاقبك بصمته من النوع الانطوائي والصامت في الأساس فإن قراره الذي اتخذه تجاهك يكون بالنسبة له صحيحا؛ لأنه يتماشى مع طبعه، فحاول أن تفهم شخصيته وتراعي ظرفه ولا تقس شخصيتك عليه؛ لأنك لو كنت أنت مكانه لما فعلت مثله لأنك أنت اجتماعي وتحب أن تواجه المشكلات بينما هو شخصية انطوائية، والانطوائي في الغالب يحب أن ينسحب عندما تواجهه مشكلة، أما الشخص الاجتماعي فيحب أن يواجه المشكلة ويعالجها، والخطوة الخامسة أن تضع قوانين وقواعد للعلاقة في المستقبل فلو غضب منك مستقبلا فلا يكرر نفس سلوكه الصامت معك، ولابد أن نفرق بين الصمت القاتل والصمت الذي فيه حكمة ويكون من ذهب، ولهذا قال ابن بريدة (رأيت ابن عباس رضي الله عنه آخذا بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرا تغنم أو أسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم)، وهنا يبين ابن عباس رضي الله عنه قاعدة عامة في التعامل مع اللسان، وهي أن الصمت حكمة والسكوت من ذهب، أما في حالة لو حصل خلاف بين الطرفين فيكون الكلام هو الحكمة وهو من ذهب.

المقصود إذن هنا بالصمت هو “الصمت الحميد” الذي يجنب صاحبه الضرر والوقوع في الأخطاء ويجنبه سفاسف الأمور، ويكون الصمت مذموما في الأوقات التي يجب على الإنسان التكلم فيها؛ أي من غير الصحيح صمت الفرد عن الحقائق والأمور الضرورية. إن الصمت مهارة وفن لا يستطيع الجميع امتلاكه واتقانه، بل يعتبره البعض مهارة صعبة التعلم وتحتاج إلى الكثير من التدريب المستمر.

وبتأمل ظاهرة الصمت في العديد من ثقافات العالم المختلفة وجد خبراء علم اللغويات الاجتماعي أن للصمت في سياقات الثقافات المختلفة وحتى في إطار الثقافة الواحدة وظائف وميكانيزمات حوارية بالغة التعقيد، تجعل من القول بأن للصمت لغات مختلفة، إن لم يكن له لهجات أيضا من الأقوال غير المجازية في حقيقة الأمر. ومن أطرف الأمثلة التي نطرحها في هذا السياق أن أحد الطيارين المصريين كاد يفقد حياته وحياة ركاب طائرته بسبب عدم إدراكه لطبيعة وتعقيدات وظائف الصمت في لغة الحوار عبر الأثير والثقافات كذلك، فمن الأمثلة الشائقة التي وردت بكتاب عن وظائف الصمت داخل وعبر الثقافات للكاتبتين سافيل ترويك وديبرا تانن أن أحد الطيارين المصريين قد طلب الإذن بالهبوط في مطار قبرص، ولكنه لم يتلق الرد من برج المراقبة بالمطار القبرصي وساد الصمت في هذا الحوار، وهنا تصور الطيار المصري أن الصمت يعني الموافقة على الهبوط، وإذا به يفاجأ بالطائرات القبرصية تحيط بطائرته وتطلق النيران التحذيرية، وعندما تم استجواب الطيار فيما بعد تيقن أن الصمت القبرصي مختلف، فلم يكن علامة الرضا والقبول. إن هذا المثال نعتبره نقطة البداية لاستعراض طبيعة الدراسات الحديثة لوظائف الصمت في الحوار. إن الصمت من الصعب أن نقدم له تعريفا بصورة مطلقة، ولكن يمكن تناوله من زاويتين أساسيتين: الأولى: وتعني بدراسة طبيعة فترات الصمت أثناء الحوار، أي دراسة طبيعة سرعة المتحدث، وزمن سرعة المتحدث وزمن وقفاته أثناء الحديث، ودلالات هذا الأمر في عملية التحاور. وكذلك فترات الصمت بين واحد أو أكثر من المتحاورين والتي تمثل إشارة من هذا المتحدث إلى آخر بأنه قد أنهى دوره في الحوار، وأنه يترك فترة من الصمت لتكون إشارة للمتحاور الآخر في الحوار. أما الزاوية الثانية لدراسة الصمت فهي من حيث الدخول في الحوار أو تجنبه من الأصل، وكذلك توظيف الإيماءات بحركات الجسد دون الكلام.

ولقد لاحظت خبيرة الحوار ديبرا تانن أن بعض الثقافات تعتبر طول فترة الصمت في الحوار أو وجوده بأي شكل يمثل نوعا من عدم الترحيب بالآخر والاندماج معه، كما في ثقافات البحر المتوسط بصفة عامة، بل إنها وجدت الشيء نفسه في بعض الثقافات الغربية وحتى في بعض الثقافات المحلية بالولايات المتحدة ذاتها.

ومن الدراسات التي تناولت زاوية الصمت تلك التي قامت بها أليس والكر ‏لدراسة فترات صمت الشهود في المجال القانوني وأثرها في تلك الانطباعات التي يكونها المحامون، وكذلك دراسة الصمت أثناء أداء الشعائر الدينية، والتي أوضحت مفاهيم الأديان المختلفة لمفهوم الصمت وأهمية أن يسود الصمت في بعض هذه الشعائر وأهمية عدم وجوده في البعض الآخر منها. وكذلك أشارت دراسة رون سكولون لحوار الأستاذ والطلاب في الفصل الدراسي وأوضحت الدراسة أن بعض الأساتذة من ذوي الشخصية القوية يستخدمون الصمت كميكانزم للسيطرة على الضوضاء التي يحدثها الطلاب. كذلك تعرضت الدراسة للصمت الذي يوظفه بعض الطلاب كنوع من التمرد والعصيان وكتعبير عن الغضب السلبي.

أما الزاوية الثانية لدراسات الصمت فهي تتعلق بالقرار في الحوار أو عدم الدخول فيه وتجنب الأمر برمته، وفي هذا الإطار نجد من الدراسات المهمة تلك الدراسة التي قام بها ديفيد سوندرز بعنوان الصمت والكلام ونوع العاطفة. وهذه الدراسة أجريت بين أسر قرية إيطالية، ووجد الباحث أن أهالي القرية يوظفون الحوار والكلام في المواجهات البسيطة، ولكن عندما يصل الأمر إلى أمور خطيرة فإنهم يوظفون الصمت إذا ما أدى الكلام لتهديد تضامن الأسرة. أما إيرفينغ غوفمان فقد وجد أن الصمت في بعض الثقافات كما هي حال ثقافة أيجبو  الهندية أن صمت الفتاة في حال تقدم عريس للزواج منها يعني الرفض. وربما كان الأمر هو العكس لدى قطاعات عريضة من ثقافتنا العربية.

إن الصمت باعتباره لغة من نوع آخر، بل من أقوى اللغات، لا يمكن التعامل معه بمعزل عن العملية التواصلية، بل من الصعب أن نتجاهله ونحن نميز بين أنواع التواصل وأشكاله، فالصمت في وسعه أن يشغل مساحة كبيرة من خانة التواصل غير اللفظي، انطلاقا من اعتباره نقيضا لكل ما هو لفظي، وهو ما يدفعنا إلى اعتباره من أشكال التواصل غير اللفظي، أو بالأحرى من أرقى أشكالها وأبلغها. ولكن يبقى أن أشير إلى أن كل من ميكانزمات الصمت والغموض ذات علاقة وثيقة وقريبة ويرتبطان أيضا بميكانزمات “اللامباشرة” في الحوار. واستخدام هذه الميكانزمات قد يكون له ما يبرره كأدوات حوارية في سياقات معينة، إلا أن ما نسلط الضوء عليه هنا أيضا هو إساءة توظيفها في لحظات حرجة في علاقة ما حين يستلزم الأمر الوضوح الكافي، والإدلاء برأي حاسم ومحدد، وتجنب الصمت واللامباشرة أو الغموض. ولقد تناول بعض خبراء علم اللغويات الاجتماعي، والاتصال عبر الثقافات هذه الميكانزمات بالتحليل وقدمت كل من سافيل ترويك وديبرا تانن كتابا مفصلا عن ميكانزمات الصمت عبر الثقافات المختلفة ووظائفه في عملية التحاور كما ذكرتا ذلك. فإدراك الأفراد والثقافات لهذه الميكانزمات لا يزال بحاجة إلى دراسات متعمقة.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى