د. دينا محسن تكتب.. السودان.. شبح المجاعة والحرب المنسية
للأسف أزمة السودان أزمة متجذرة ذات جذور عميقة على مدار سنوات وعقود، وليست حديثة النشأة أو التكوين، والمشكلة لا يمكن اختزالها فى مسألة الاقتتال القبلى أو الحروب الأهلية ذات النزعة السياسية، ولكن المشكلة تكمن فى الديكتاورية العمياء وغباء الإدارة وسوء التصرف واتخاذ القرارات الخاطئة.
أزمة الغذاء فى السودان ليست فقط نتاج حرب أو اقتتال، ولكن نتاج تراكم ميراث من السياسات الخاطئة، ورغم أن السودان تمتلك الأراضى الخصبة والمياه الصالحة والمزارعين والمناخ الملائم، إلا أنها تعانى من نقص الغذاء، فكيف يحدث ذلك، وما الذى أوصل السودان إلى هذا الحد؟!
هذا الأمر بالطبع يتناقض مع المنطق والعقل، لكن لكل حدث مُسبّب، وسبب ذلك فردية القرار وسوء الإدارة والتصرف فيما يخص مجال الإنتاج الزراعى والحيوانى فى السودان، وذلك منذ تولى الرئيس السودانى السابق “النميرى” زمام الأمور، وبدأت السياسات الحكومية الزراعية تتضارب مع مصالح المزارعين السودانيين، وبدأ الاهتمام بزراعة القطن على حساب زراعة الغذاء، وبدأ طرح الأراضى للمستثمرين السودانيين، وتفتتيت الأراضى الزراعية، ولم يتم الاهتمام ببناء السدود أو حتى جودة السدود المقامة بالفعل، وتعرض المزارعون السودانيون للتهميش، وبدأت تتقلص أعدادهم.
وحينما جاء البشير زاد الطين بلّة، فبدلاً من تصحيح المسار والبدء فى اتخاذ خطوات جادة لإعادة هيكلة قطاع الإنتاج الزراعى والحيوانى، أكمل طريقه على خطى النميرى، وحين تهاوت أسهم القطن فى البورصة السودانية، أكمل أيضاً طريقه فى زراعة القطن، وظل المستثمرون بلا ضمير يسرقون غذاء السودانيين ويبيعونه للبرنامج العالمى للأغذية وللمنظمات الدولية، كى تعيد تلك المنظمات الدولية هذا الغذاء للشعب السودانى فى صورة معونات ومساعدات غذائية، فكيف حدث ذلك؟!
ربما حاول الاحتلال البريطانى لعب دور كبير فى تغيير الهُويّة الفكرية والسياسية للشعب السودانى، ولعب السياسيون السودانيون الذين أساءوا التصرف والإدارة دور كبير أيضاً فى تفكيك البنية المجتمعية والهوية التاريخية للشعب السودانى، فبعد أن كان السودان من الشعوب المزارعة المؤهلة لتكون سلة الغذاء ليس فقط لأبنائه بل للشعوب المجاورة، أصبح السودان يحتاج من يمد له يد العون بالمساعدات الغذائية، وحتى بعد الثورة الشعبية السودانية، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة فى السودان على حلحلة الأزمة، ولم يتمكن الجيش السودانى من وضع خطة تأمين غذائى، أما الجماعات المسلحة فاكتفت برفع السلاح وسرقة الغذاء من المعونات التى تقدمها الدول والمنظمات العالمية.
تبددت الرقعة الزراعية، وتم سرقة أراضى السودان من قبل جماعات إثيوبية مسلحة، ناهيك عن الفيضانات والسيول والتصحر الذى ضرب العديد من البقاع السودانية، بالإضافة إلى اقتتال وحروب عرقية وقبلية وأهلية وسياسية، ومخططات تقسيم، فماذا تبقى من سياسة الأرض المحروقة بدلاً من أرض الخير والطعام، سوى التهجير والنزوح، فى موجة إنسانية تعتبر الأضخم والأسوء فى تاريخ السودان الحديث، ومن المسئول؟!
تغيير الهُويّة المجتمعية وتفكيك النظام الاجتماعى، كان أحد أبرز المؤثرات أيضاً، لم يصبح لدى العديد من الشباب السودانى ميراث من الانتماء والوطنية، التى تمكنه من الثبات فى أراضيه والدفاع عنها، فالاقتتال والحروب ليس السبب الحقيقى خلف الفوضى والعشوائية والتفكك فى السودان، بل هو جزء من دائرة أكبر، وهى التدخلات الخارجية وخطيئة الغباء السياسى والديكتاتورية الصماء.
وماذا بعد؟! ماذا بعد أن تحول العالم برمته إلى كتلة من النيران، وكأنه مصير أسود ينتظره الجميع وليس السودان فقط، بل كل إلى موعده آتٍ، فأزمة نقص الغذاء، وإن طالت السودان الآن ستطال العديد من الدول غداً، عاجلاً أم آجلاً، وإن كان السودان يواجه اليوم شبح المجاعة ومزيد من الاقتتال والحروب، فلن تنجو الدول المحيطة من خطر النزوح والتضخم وزيادة الأسعار وارتفاع معدلات الجريمة وانتشار العنف.