الرئيسيةرأي

الدكتور سمير الوصبي  فلسفة التربية (4)

وظائف المدرسة كمؤسسة اجتماعية: (الانتقال الدلالي للمفهوم، وتكامل الأدوار الوظيفية للمدرسة)

شكل مفهوم المدرسة موضوع نقاش فكري منذ عصر الفلسفة اليونانية إلى الآن حول معنى ودلالة المفهوم، هذا العصف الذهني نتج عنه تحديد أدوار ووظائف المدرسة بعد أن استقر التنظير الفلسفي حول اعتبار المدرسة مؤسسة اجتماعية، وصلة وصل تربط الدولة بالمجتمع كأنها مختبر علمي تعرض فيه الإشكالات والمشكلات الاجتماعية، وظائفها مترابطة ومتلازمة؛ فوظيفة المدرسة التربوية التعليمية تحقق جوهر المعرفة الفاعلة والمنتجة، هذا الزاد من الموارد (معارف، مهارات، قدرات) يساهم في تجسيد وتنزيل وظيفتها الثانية وهي التكوين والتأهيل؛ التكوين من فرد له قدرة ذي نشاط قابل للتنفيذ والإنجاز إلى فرد ذي مهارة، أي ينجز المهمات ويؤدي الأنشطة العملية بأسلوب صحيح، وبدقة متناهية، وبسرعة في التنفيذ، أوصافه الإبداع والإتقان والتخطيط الاستراتيجي، هذا التكوين الهدف منه الوصول بالفرد إلى الكفاءة سواء علمية أم مهنية؛ فتصير كل من وظيفة التربية والتعليم، ووظيفة التكوين والتأهيل، كسكتي القطار تسير فوقها وظيفة التنشئة الاجتماعية والتي تعني إدماج الفرد داخل مجتمعه بتعلم قيمه وقوانينه وأعرافه وعاداته، بقصد التكيف مع المحيط الاجتماعي داخل وحدة النظام والانتظام للدولة والمجتمع على حد سواء.

الانتقال الدلالي لمفهوم المدرسة (معنى الفراغ، معنى التكوين، معنى المؤسسة)

الاصطلاح الوظيفي للمفهوم ينمو وينتقل عبر أطوار، وفي كل مرحلة زمنية يمر بها يحمل مدلولا معينا، والمدرسة قبل أن تنتقل من المفهوم والمسمى إلى الاصطلاح الوظيفي مرت بأطوار ثلاثة:

الأول معنى الفراغ:

يرجع أصل لفظ المدرسة école إلى الأصل اليوناني schole والذي يقصد به وقت الفراغ الذي يقضيه الناس مع زملائهم أو لتثقيف الذهن.

الثاني معنى التكوين:

تطور هذا اللفظ بعد ذلك ليشير إلى التكوين الذي يعطى في شكل جماعي مؤسسي، أو إلى المكان الذي يتم فيه التعليم.

معنى المؤسسة الاجتماعية:

أصبح لفظ المدرسة يفيد حاليا تلك المؤسسة الاجتماعية التي توكل إليها مهمة التربية الحسية والفكرية والأخلاقية للأطفال والمراهقين في شكل يطابق متطلبات المكان والزمان.

الهيكلة التنظيمية للمدرسة: (الترسيم، المهمة، وسائل التنظيم)

عند التوافق والاتفاق الجماعي للمجتمع على جعل شيء ما ذا بعد كلي وشمولي يهم أمر الجماعة البشرية، وكونه يشكل أحد أركانها وركيزتها، وقوام وحدتها وأمنها، فإن القائمين على التخطيط والتدبير الاستراتيجي يقومون بترتيب ما يلزم لبلورة هيكلته التنظيمية، وهذا الجانب يمر عبر مسارات ثلاثة؛ ترسيم المفهوم، تحديد المهمة، ورصد وسائل التنظيم.

ترسيم المفهوم:

الترسيم يعني أمرين في التناول الاجتماعي:

الأول: ذيوع وتداول المفهوم بين عموم الأفراد والجماعات والعشائر والقبائل، ليصبح بعدها توافق واتفاق وتعاقد شعبي بين الناس.

الثاني: إصدار قرارات ومراسيم من قبل الدولة على توصيف المفهوم بتحديد معناه ومهمته.

وبناء على الأمر الأول الذيوع والتداول، والأمر الثاني الإصدار والإقرار، يتم ترسيم المفهوم (المدرسة) فمن حيث الزمن أو الحقبة تم ترسيم مفهوم المدرسة إثر الانتقال الذي عرفه الفعل التربوي من مهمة تتكلف بها الأسرة إلى مهمة عمومية وذلك في المرحلة الهيلينية.

مهمة المدرسة:

بعد ترسيم المفهوم وتبعا لذلك كمستلزمات إجرائية، كان لزاما تحديد المهمة لتصبح المدرسة تلك المؤسسة العمومية التي يعهد إليها دور التنشئة الاجتماعية للأفراد.

وسائل التنظيم:

وللقيام بهذه المهمة أو الدور الوظيفي وهو التنشئة الاجتماعية، كان لابد من وضع وسائل تنظيمية للمدرسة كمؤسسة اجتماعية، فتقرر إصدار منهاج وبرنامج تحدد خطوات العمل وتجلي الأهداف العامة والخاصة المراد تحقيقها وفق توجهات الدولة الفكرية والفلسفية والقيم التي توجه الشأن العام كنظام وسياسة تربوية.. والمدرسة بشكل عام مؤسسة عمومية أو خاصة، تخضع لتعاقد اجتماعي تهدف من خلاله إلى تنظيم العنصر البشري ذي الكفاءة العالية، ورصد الخطط والوسائل التدبيرية المعينة لخلق الفاعلية والإنتاجية والمردودية المرجوة، وهي تحقق الأهداف والغايات والمرامي.

النتيجة:

المدرسة عامل توحيد ووحدة الأمة، رغم التباين والاختلاف الطبقي حيث تصهر الأفكار وتدمج جميعها وفق قيم وفلسفة الخطاب التربوي المعمول به، وهي مؤسسة منتجة للفرد الصالح لذاته ووطنه ومعتقده. فهي إذن المدرسة مؤسسة رسمية تؤسسها الحكومات من أجل إعداد أفراد الجيل، وتعليمهم شتى أنواع العلوم بما يسهم في نهضة المجتمع وتطوره.

تكامل الأدوار الوظيفية للمدرسة:

سنورد هنا مجموعة من التعاريف لمفكري علوم التربية الخاصة بالمدرسة لكشف التكامل الوظيفي للمدرسة، كي نستنبط نوع التكامل الوظيفي المراد من المدرسة كمؤسسة اجتماعية.

حسب تعريف فرديناند بويسون: “هي مؤسسة اجتماعية ضرورية، تكمن أهميتها في إبقاء عملية التواصل بين الأسرة والدولة، بهدف إعداد جيل جديد يندمج في الحياة الاجتماعية”.

 ويعرف فريديريك هاستن المدرسة بأنها “نظام معقد يعتمد على السلوك المنظم الذي يحقق مجموعة من الوظائف والمهام في إطار معين من النظام الاجتماعي”.

تعريف ريمون بدون: “نظام اجتماعي يقوم بمجموعة من الوظائف مثل وظيفة الإدماج ووظيفة الحراك الاجتماعي، هذا النظام التعليمي يضم مجموعة من الأشخاص يتميزون بالمعرفة، وهدفهم إخراج جيل جديد على كفاءة عالية”.

يتبين من خلال عرض محتوى التعاريف أنها تتفق على اعتبار المدرسة نظاما اجتماعيا، أي تتفاعل الأدوار والمهام بين جل مكونات المنظومة التربوية بقصد تحقيق الأهداف والمرامي، ويتحدد التكامل الوظيفي للمدرسة كمؤسسة اجتماعية، حيث عدها فرديناند بويسون قناة تواصل بين الدولة والمجتمع، فالمدرسة تجسيد مصغر للمجتمع، وحدد فريديريك هاستن جانب التواصل في ناحية الوظائف والمهام، ليعين ريمون بدون هذه الوظائف في أشكالها الإجمالية كالإدماج والحراك الاجتماعي، فالتواصل حلقة مهمة في تحليل الظواهر الاجتماعية، وتقرير الحلول الناجعة، والمدرسة هي مختبر اجتماعي في كشف الإشكالات والمشكلات التي يعيشها أفراد المجتمع، هنا يأتي دور الفاعلين في المنظومة التربوية، الإسهام في جعل الناشئة تتكيف مع الوضعيات الآتية والآنية، ورسم التخطيط اللازم والقيام بالتدبير المعقلن، بقصد إعداد جيل ذي كفاءة لتولي المسؤوليات وتحقيق النهضة الحضارية والتنمية المنشودة.

وظائف المدرسة (التربية والتعليم، التكوين والتأهيل، التنشئة الاجتماعية)

تلعب المدرسة كمؤسسة اجتماعية بجانب الأسرة، عدة أدوار لها وزنها التاريخي، وتتميز بوظائفها عن باقي المؤسسات الأخرى؛ لأنها تلامس مختلف جوانب الإنسان وذلك لأنسنته وجعله ذلك الكائن الذي يعرف ذاته أولا ثم يكتشف الآخر ثانيا. وإذا ما نظرنا إلى هذه الوظائف حسب ما بيناه سلفا نجدها أنها تتكامل ولا تخرج عن ثلاث وظائف تتكامل في نسق ترابطي:

أ. التربية والتعليم

المدرسة ترفع شعار التربية أولا والتعليم تاليا، كمخطط استراتيجي لإحداث النجاعة والفاعلية التربوية؛ التربية كنماء وسيرورة ورعاية للفرد تطمح إلى تنمية الوظائف الست المكونة للإنسان: التربية العقلية، التربية النفسية، التربية السلوكية، التربية الاجتماعية، التربية الروحية، وما يجب أن يكون عليه الفرد من التوجيه الصحيح الذي يتولد عنه سلوك حسن، هذا المطلب يتحقق بالتعليم الجيد، بإحداث التغيير في الأداء حيث تقل الأخطاء، وتحسن في السلوك بالانخراط الإيجابي في المهام والأنشطة الجماعية، هذا التعليم يبتغي التدرج بتعليم الأطفال حسن الإنصات، القراءة والكتابة والحساب مع إكسابهم وتلقينهم المعارف الدينية والتاريخية والأدبية والعلمية واللغوية، عبر برامج ومقررات محددة حسب مختلف المواد المخصصة لكل مستوى وبشكل تدريجي عبر أسلاك التعليم وفي كل مرحلة تعليمية يكتسب التلاميذ كفايات تواصلية، استراتيجية، منهجية، تكنولوجية وثقافية.

ب. التكوين والتأهيل

 التَّكوين في المعاجم اللغوية يعني الطريق إلى تمام التربية والتعليم؛ أي هو السيرورة المصاحبة لوظيفة التربية والتعليم، فإذا تحققت الوظيفة الأولى نكون آنذاك أمام مسمى التكوين كصفة محققة وجودا للفرد، فالتكوين في معناه الانتقال من حال العدم إلى حال الوجود من الجهل إلى المعرفة، حيثما تم تنزيل المعرفة المحصلة من التربية والتعليم وهي التكوين إلى ممارسة واقعة في مهنة أو حرفة.. صرنا نتحدث عن التأهيل هو الاستحقاق، خلاصة الأمر أن التكوين تحصيل للكفاءة، والتأهيل سبيل للاستحقاق والجمع بينهما هو تحمل المسؤولية.

تهدف المدرسة بشكل عام خلال هذه الوظيفة لتعليم وتكوين الفرد بشكل يجعله مندمجا في الحياة العامة ومنفتحا على الآخر.

ج. التنشئة الاجتماعية:

للمدرسة وظيفة أساسية وشاملة استمدتها من الأسرة وهي التأثير على سلوك الأفراد تأثيرا منظما يرسمه لهما المجتمع، والمدرسة من حيث هي كذلك تنصب وظيفتها الرئيسية على سلوك الناشئة، ويقاس مدى تحقيقها لوظيفتها بمدى التغيير الذي تنجح في تحقيقه في سلوك أبنائها؛ فالمدرسة في أساسها مؤسسة اجتماعية أنشأها المجتمع للإشراف على عملية التنشئة الاجتماعية، وهي تربية الأطفال تربية تجعلهم يحترمون مجتمعاتهم ويندمجون مع مختلف المؤسسات الاجتماعية الأخرى، وبفضلها يكتسبون قيما إنسانية وهوية تتأقلم مع متطلبات المجتمع؛ فصلاح المجتمع ينطلق من صلاح المدرسة، فهي مقود التطور والتقدم ومفتاح التغيير، وعبر المدرسة يمكن كذلك أن نصنع مجتمعا متخلفا ومجتمعا مسالما كما نريد.. وبشكل عام يمكن القول إن المدرسة هي المؤسسة التي بفضلها يكتشف الفرد ذاته ومجتمعه.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى