رأي

أ.د. هاني جرجس عياد يكتب.. الإعاقة بين التعريف الطبي والتعريف الاجتماعي

من المتفق عليه بين عامة الناس والمتخصصين أن ذوي الإعاقة لا تتاح أمامهم مختلف فرص التفاعل مع مختلف مواقف وخبرات الحياة الاجتماعية، ويعيشون في نوعية حياه أقل كثيرا مقارنة بأقرانهم العاديين، وتعتمد أي محاولة للتعامل مع أو للتخلص من الصعوبات التي يعاني منها المعوقين علي ما يعتقد أنه السبب في الإعاقة والصعوبات المرتبطة بها، ويوجد في الغالب طريقتين مختلفتين لتفسير ما يعتقد أنه السبب في الإعاقة وتداعياتها النفسية، وقد أمكن بلورة هاتين الطريقتين فيما يطلق عليه نموذجا لتفسير الإعاقة وهما:

  • النموذج الطبي للإعاقة Medical Model of Disability
  • النموذج الاجتماعي للإعاقة Social Model of Disability

إذ يركز أنصار النموذج الطبي بشكل كبير علي الملامح والخصائص الأساسية للفرد من حيث البنية التكوينية العضوية، في حين يتبني مؤيدو النموذج الاجتماعي التفسيرات التي تعتمد علي الخصائص الأساسية للمؤسسات الاجتماعية وما يسود المجتمع بشكل عام من أنساق قيم ومعتقدات تجاه الإعاقة والمعوقين.

فالإعاقة في إطار النموذج الطبي هي حالة أو وظيفة يحكم عليها بأنها أقل قدرة قياسا بالمعيار المستخدم لقياس مثيلاتها في نفس المجموعة. ويستخدم المصطلح عادة في الإشارة إلى الأداء الفردي، بما في ذلك العجز البدني، والعجز الحسي، وضعف الإدراك، والقصور الفكري، والمرض العقلي وأنواع عديدة من الأمراض المزمنة.

ومن ثم فإنه ينظر في ظل هذا النموذج للإعاقة علي أن عجز أو عدم قدرة المعاقين علي الارتباط والمشاركة في أنشطة وخبرات الحياة ترجع بالأساس إلي معاناة الفرد من إصابة تتلف أو تحدث تدميرا لعضو ما من جسده يترتب عليه قصور أو عجز وظيفي شديد لا يمكنه من الاستفادة والمشاركة في فعاليات وخبرات الحياة الاجتماعية، ولا يرجع هذا العجز من قريب أو بعيد لملامح وخصائص وأنساق القيم والمعتقدات في المجتمع.

وعندما يفكر صناع السياسة في الإعاقة وفق النموذج الطبي فإنهم يميلون إلي تركيز مجهوداتهم في تعويض ذوي الإصابات أو التلف العضوي وما يرتبط به من قصور وظيفي وذلك من خلال صياغة نظم تربوية ورعائية وتزويدهم بالخدمات العلاجية والتأهيلية في مؤسسات قائمة علي العزل والاستبعاد من فعاليات وخبرات الحياة الاجتماعية العادية.

إن النموذج الطبي للإعاقة يؤثر أيضا علي الطريقة التي ينظر ويفكر المعاقون بها حول أنفسهم، إذ عادة ما يتبنى الكثيرون منهم رسالة سلبية مفادها أن كل المشكلات التي تواجه ذوي الإعاقة تنشأ عن امتلاكهم أجساد غير عادية أو بها عيب تكويني، وعادة ما يميل المعاقين إلي الاعتقاد بأن إصابتهم تحول بالضرورة دون مشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية، ويؤدي استدخال هذه الأفكار والمعتقدات في البنية الفكرية لذوي الإعاقة إلي عدم مقاومتهم لمحاولات استبعادهم من الاندماج في فعاليات وخبرات الحياة الإنسانية في المجتمع.

وعلى خلاف ذلك، تبدأ الرؤى التفسيرية للإعاقة وفق النموذج الاجتماعي من التحديد للاختلاف بين مفهومي الإصابة أو التلف أو العطب ((Impairment والعجز أو الإعاقة (Disability) وقد بدأت صياغة النموذج الاجتماعي من قبل بعض العلماء إثر إظهار العديد من المعوقين استيائهم وامتعاضهم من النموذج الفردي أو الطبي لكونه لا يقدم تفسيرات مقنعة لاستبعادهم من الاندماج في مسار الحياة الاجتماعية، ولأن هناك العديد من الخبرات لمعاقين أظهرت أن مشكلاتهم الحياتية والتوافقية لا ترجع إلي الإصابة أو الإعاقة في ذاتها، ولكن تعود بالأساس إلي الطريقة التي ينظر بها المجتمع إليهم. ويتجاوز هذا النموذج المسلمات التي ينطلق منها النموذج الطبي والتي تتمثل في عدم التفرقة بين الإصابة والتلف والعطب من ناحية، والعجز من ناحية أخرى لأن كليهما يؤدي إلي قصور وظيفي وأن هذا القصور الوظيفي كامن داخل الفرد نفسه ومنعزل عن المتغيرات الخارجية، مسلما بأن العجز وليس العقبات أو العناصر الأساسية للمؤسسات الاجتماعية التي لا تلقي بالا بحاجات وخصائص المعوقين بأي شكل من الأشكال، وهنا يبدو أن المجتمع هو سبب الإعاقة بمعني أن المجتمع هو المعوق لأن الطريقة التي يشيد بها تمنع ذوي الإعاقة من الاشتراك في فعاليات وأنشطة وخبرات الحياة اليومية، وإذا ما أريد اشتراك واندماج ذوي الإعاقة في مسار الحياة الاجتماعية لابد أن يعاد تنظيم المجتمع من حيث بنائه ووظائفه، وأيضا لابد من القضاء علي كل الحواجز والموانع والعقبات التي تحول دون هذا الاندماج. ومن هذه العقبات أو الحواجز ما يلي:

  • التحيز ضد الإعاقة والمعوقين والميل إلي الوصم والتنميط.
  • عدم مرونة الإجراءات والممارسات المؤسساتية.
  • تعذر الحصول علي المعلومات الصحيحة.
  • تعذر وجود البيانات والمؤسسات المناسبة.
  • تعذر وجود وسائل المواصلات والنقل المناسبة.

ويشير تحليل هنت إلي أنه يعتقد أن المعوقين يواجهون اضطهاد وإساءة معاملة من قبل الآخرين وتتضح تجليات ذلك في ظاهرة التمييز ((Discrimination والاستبعاد من فعاليات الحياة الاجتماعية الطبيعية، وخلص هنت من تحليله لهذه الأوضاع إلي التأكيد علي وجود علاقة مباشرة بين الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية نحو الإعاقة والمعوقين، والتداعيات النفسية والسلوكية للإعاقة باستخدام مصطلحات القيود والحدود والعقبات التي تفرض علي المعاقين من قبل مؤسسات الإيواء القائمة على العزل. ليظهروا أن إصابتهم أو نواحي العجز لديهم ليست السبب في المشكلات العديدة التي يواجهونها في حياتهم أو في التداعيات المصاحبة للإعاقة، وأن السبب الأساسي في هذا العجز وهذه المشكلات إنما يعزي إلى فشل المجتمع في التسامح مع / والتقبل للاختلافات والفروق بين المعوقين من المشاركة العادية في فعاليات وأنشطة خبرات الحياة الاجتماعية اليومية، وقد أطلق علي هذه الطريقة في التفكير حول / ومناقشة وتحليل الإعاقة بالنموذج الاجتماعي للعجز أو الإعاقة، إذ يفسر فيه العجز أو التعويق بوصفة نتاج أي سلوك أو عقبات تمنع أو تحول دون قيام المعوقين من الاشتراك في فعاليات الحياة في المجتمع. ولا يفهم من ذلك بطبيعة الحال أن النموذج الاجتماعي يغفل أو ينكر تأثير الإصابات والفروق الفسيولوجية، ولكنه يعالج هذا التأثير دون التقيد أو الالتزام بالأحكام ذات الطبع التقويمي؛ لذا فمن المتصور أن استخدام النموذج الاجتماعي يؤدي إلي التمكين الاجتماعي لذوي الاحتياجات الخاصة.

وخلاصة القول في ذلك، إن النموذج الاجتماعي للإعاقة يشدد على أن الإعاقة، بشكل كبير، اجتماعية وليست متعلقة بالجسد بشكل رئيسي. لذلك فرق بين الإعاقة الجسدية (Impairment) والإعاقة الاجتماعية (Disability). ومن هذا المنطلق، شدد باحثو الإعاقة الرواد والمناصرين للنموذج الاجتماعي للإعاقة، مثل مايكل أوليفر وفيك فينكلشتاين وكولين بارنز، على إصلاح المجتمع ليكون ملائما للأفراد المعاقين.

وبذلك، تغيرت النظرة الطبية السائدة التي تركز على إصلاح جسد المعاق، وجرى توجيهها إلى وضع اللوم على المجتمع وإصلاحه، من خلال تجهيز المباني التي تسهل حركة المعاقين داخل المجتمع، والعمل على رفع الوعي لدى غير المعاقين بقضايا الإعاقة، والحد من التمييز ضد المعاقين في التعليم والوظائف، والحد من القمع الممارس ضدهم.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى