أعلن “أبو بكر البغدادي” في 29 يونيه 2014 قيام خلافته المزعومة من على منبر مسجد “النوري الكبير” في مدينة الموصل العراقية. ومنذ ذلك التاريخ سيطر تنظيم داعش الإرهابي على حوالي 100 ألف كم في سوريا والعراق، وعاش تحت حكمه حوالي 8 مليون شخص، واستقطب ما يقرب من 40 ألف مقاتل من أكثر من 100 دولة، في سابقة لم يشهد لها تاريخ التنظيمات الإرهابية مثيلًا من قبل. كما استطاع التنظيم أن ينقل معركته من الشرق إلى الغرب بالخطابات التحريضية لذئابه المنفردة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبهذا تميز عن تنظيم القاعدة بالقدرة على القيام بعمليات إرهابية في قلب الدول الغربية بسهولة تختلف عن أحداث 11 سبتمبر التي كانت وسيلة القاعدة في الوصول إلى الغرب.
- اقرأ أيضا: د. حمادة شعبان يكتب.. الحوار ونحن
وبهذه الخطوات أثار داعش مخاوف المجتمع الدولي، وبدأت الولايات المتحدة مباحثات حول الطريقة التي تستطيع من خلالها القضاء عليه. وهنا جاءت فكرت تأسيس “التحالف الدولي ضد داعش” في سبتمبر 2014، والذي أصبح الآن يضم 85 دولة من دول العالم، بهدف إضعاف التنظيم وتجفيف منابعه، ثم القضاء عليه. وبدأت الغارات الجوية للتحالف على معاقل التنظيم بالتوازي مع عمليات للقوات العراقية على الأرض انتهت بتحرير الموصل في 9 ديسمبر 2017، ومعها انتهت السيطرة المكانية للتنظيم هناك. وفي 23 مارس 2019 انسحب مقاتلو التنظيم من “الباغوز” السورية، ومعها انتهت السيطرة المكانية لداعش هناك.
ماذا بعد انتهاء السيطرة المكانية؟
تقبل تنظيم داعش الإرهابي الأوضاع الجديدة، وتعامل مع الهزيمة، وتكيف معها، وعدل استراتيجياته من تنظيم يريد تأسيس دولة إلى تنظيم لامركزي، يتوارى أعضائه في الجبال والقرى المهجورة، ويقومون بعمليات إرهابية ذات طابع فردي تختلف عن عملياته التي كان يقوم بها في عامي 2014، 2015 وكانت أشبه بمعارك الجيوش النظامية. ويذكر المرحوم الباحث “هشام الهاشمي” أن تنظيم داعش بعد هزيمته في سوريا والعراق أعاد هيكلة نفسه على الوضع الجديد، فكان لديه 23 ألف مقاتل يشكلون 3 جيوش “جيش دابق، جيش العسرة، جيش الخلافة”، سرحهم واكتفى بـ 3 ألاف فقط، وحوّل الباقي إلى عناصر لوجستية أو خلايا نائمة يستعين بها وقتما أراد. كما تراجعت ولاياته من 35 ولاية إلى 13 ولاية، كل ولاية مقسمة إلى قواطع، والقواطع مقسمة إلى شبكات، والشبكات مقسمة إلى مفارز.
التنظيم في 2020/ 2021
لا يكاد التنظيم ينزوي فترة حتى يعود إلى الواجهة مرة أخرى. وبالرغم من الهزيمة القوية في “الباغوز” ومقتل “أبو بكر البغدادي” في أكتوبر 2019، نشط التنظيم ونفذ في عام 2020 وفقًا لبياناته 1850 عملية إرهابية في أماكن مختلفة من العالم. وهذا عدد كبير مقارنة بعمليات تنظيم القاعدة في العام ذاته والتي بلغت حوالي 750 عملية، نفذت حركة الشباب الصومالية 90% منها. (أحمد كامل بحيري، خط مستمر: المسارات المحتملة لتنظيم داعش في الإقليم، 2020). وفي أوروبا شهدت العاصمة النمساوية مقتل 4 أشخاص في هجوم إرهابي قام به ذئب منفرد في نوفمبر 2020 بالقرب من المعبد اليهودي ودار الأوبرا. وأعلن داعش مسئوليته عن هذا الهجوم.
وفي عام 2021 نشط التنظيم بقوة ونفذ 2584 عملية، (1113) في العراق، وحوالي (366) عملية في سوريا، و(4) عمليات في ليبيا ، كما عزّز نشاطه في “غرب إفريقيا” باستهداف الدول الواقعة في محيط بحيرة تشاد، وذلك بتنفيذ حوالي (483) عملية، وعمل على إثبات وجوده في “وسط إفريقيا” عبر التوسع في تهديد “موزمبيق والكونغو الديمقراطية”، وذلك بتنفيذ حوالي (185) عملية، وتكثيف نشاطه في “الصومال” بتنفيذ (40) عملية. وفي أفغانستان استغل التنظيم الانسحاب الأمريكي، وصعّد عملياته؛ وقام بحوالي (365) عملية. كذلك استمر في محاولات إثبات الوجود في باكستان والهند، وبلغ عدد عملياته في باكستان حوالي (15) عملية في حين بلغ عدد عملياته في الهند حوالي (9) عمليات. (تقى النجار، قراءة مقتل الهاشمي القرشي، المرصد المصري، 2022)
التنظيم في 2022
ومع بداية عام 2022 نشط التنظيم، وأعاد إلى الأذهان مشهد اقتحام سجني “أبو غريب” و”التاجي” في يوليو عام 2013، ولكن هذه المرة في سوريا، حيث نفذ أكبر هجومٍ إرهابي منذ سقوطه في 2017، وهو الهجوم على “سجن الصناعة” في مدينة “الحسكة” شمال شرقي البلاد. واستمر هذا الهجوم 9 أيام، وأسفر عن عشرات القتلى في صفوف داعش، و140 في صفوف قوات سوريا الديمقراطية المسئولة عن تأمين السجن. وقد سبق هذا الهجوم تهديدات داعشية باقتحام السجن، وهو الأمر الذي أثار الجدل حول هذا الهجوم. وفي تقرير بعنوان “مؤشر الإرهاب في المنطقة العربية خلال الربع الأول من عام 2022” أشارت “مؤسسة ماعت للسلام” ومقرها القاهرة أن المنطقة العربية خلال الربع الأول من العام الجاري شهدت 209 عملية إرهابية. جاءت سوريا في المرتبة الثالثة بعد الصومال والعراق كأكثر الدول العربية التي حدثت فيها عمليات إرهابية خلال الفترة سالفة الذكر. (مؤسسة ماعت، مؤشر الإرهاب في المنطقة العربية خلال الربع الأول من عام 2022، القاهرة 2022).
أما العراق فشهدت خلال الربع الأول من عام 2022 عددًا كبيرًا من العمليات الإرهابية أهمها هجوم داعش على عناصر الجيش في محافظة “ديالى” ومقتل 11 عسكريًا عراقيًا يوم الجمعة 21 يناير 2022.
كما شهدت ليبيا خلال هذا العام تحركات قوية على الأرض لتنظيم داعش، وهو الأمر الذي أزعج العالم مخافة أن يتخذ التنظيم من “ليبيا” قاعدة لمهاجمة دول شمال إفريقيا ودول الساحل. وفي الأسابيع القليلة الماضية شهدت مدن الساحل الغربي الليبي نشاطًا علنيًا للتنظيم، وتحركت سيارته وهي تحمل الرايات السوداء.
أما “أفغانستان” فأصبحت نموذجًا مصغرًا لكافة الأهداف التي يقوم بها داعش في العالم، فإن كان التنظيم يعتدي على المساجد ودور العبادة فهذا يحدث في أفغانستان بصورة شبه أسبوعية، وإن كان التنظيم يكثف عملياته في شهر رمضان فقد كانت أفغانستان من أكثر الدول التي عانت في رمضان الماضي، وإن كان التنظيم يستهدف اقتحام السجون وتحرير عناصره فهذا يحدث باستمرار في أفغانستان، وإن كان التنظيم يستهدف الشيعة فإن هذا أيضًا موجود في أفغانستان، وإن كان التنظيم يستهدف المصالح الغربية في المنطقة فهذا يحدث هناك وليس أدل على ذلك من عملية مطار “كابل” التي راح ضحيتها عدد من الجنود الأمريكان وعدد آخر من الأفغان. يزيد من خطورة الأوضاع في “أفغانستان” طمع التنظيم في الدول المجاورة لها، ومحاولة تأسيس أفرع للتنظيم هناك. وقد أعلن داعش مسئوليته عن عدة عمليات في الدول المجاورة لأفغانستان لكن حكومات هذه الدول نفتها. وفي مارس الماضي نشرت الأمم المتحدة تقريرًا جاء فيه أن قرابة 400 مدني قتلوا في هجمات في أفغانستان منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم وأن أكثر من 80 في المائة منهم قتلوا بأيدي جماعة تابعة لتنظيم داعش.
وفي إفريقيا سعى التنظيم إعلاميًا لإبراز أنه يتوسع ويؤسس ولايات مزعومة هناك. كما قام بعدة عمليات على غرار عملياته الدموية التي عُرف بها كان أهمها إعدام جماعي لـ 10 مواطنين مسيحين في نيجيريا، ونشر فيديو لهذه الجريمة البشعة ذات الأبعاد الإعلامية والتوسعية.
إذن ما هي أسباب هذا النشاط الداعشي؟
بعد هذا السرد عاليًا نرى أن هذا النشاط الداعشي اللافت للنظر له عدة أسباب هي:
- التنافس الشرس بين داعش من جهة والتنظيمات المختلفة معه في الأهداف من جهة أخرى، وهذا نراه واضحًا في التنافس بين داعش و”هيئة تحرير الشام”، وخصوصًا في آلية الاستقطاب، فداعش حريص أشد الحرص على استقطاب عناصر الهيئة، وخصوصًا الأجانب ويقدم لها خطابًا إعلاميًا استقطابيًا يوضح من خلاله أن داعش أولى بهم، ويذكرهم بعمر الشيشاني وزير دفاع داعش المقتول عام 2016. كما يقدم لهم خطابًا إفتائيًا يوضح من خلاله أن داعش هو التنظيم الجهادي الوحيد، وصاحب الرؤية الصحيحة للجهاد التي كان عليها المسلمون في صدر الإسلام، وأن الهيئة ليست جهة جهادية، وإنما جهة عميلة لأجهزة استخباراتية، وأنهم بدفاعهم وقتالهم بين صفوفها لا يجاهدون وإنما يحققون تطلعات “أبو محمد الجولاني” زعيم الجبهة. هذا التنافس الاستقطابي ليس مع “جبهة تحرير الشام” وحدها إنما أيضًا مع كافة التنظيمات الأخرى مثل القاعدة وفرعها في سوريا المتمثل في “كتائب حراس الدين”، وكذلك مع حركة “طالبان” في أفغانستان، والتي يسعى التنظيم بقوة لاستقطاب أفرادها ومن انشقوا عنها. وقد سبق واستغل التنظيم المفاوضات التي أجرتها “طالبان” مع الحكومة الأمريكية، وشن هجومًا إعلاميًا على الحركة، وطالب من أفرادها الانشقاق عنها معللًا ذلك بأن قيادات الحركة “تركت الخنادق وذهبت إلى الفنادق” للتفاوض. والتنظيم له خبرة في استقطاب عناصر التنظيمات الأخرى بل وفي استقطاب تنظيمات بأكملها وجعلها تعلن البيعة لخليفتهم المزعوم.
- ضعف النظم السياسية والأمنية في بعض الدول مثل سوريا والعراق وأفغانستان، ومحاولة التنظيم فرض نفسه في هذه البلدان كقوة بديلة. كذلك استغلال حالة الفوضى والاضطراب الموجودة في ليبيا والانقسام السياسي الموجود هناك وحظر توريد أسلحة إلى الجيش الوطني الليبي وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي الصادر عام 2011.
- تخفيض الغرب لقواته العسكرية في مناطق الصراع، حيث سحبت الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، وجزءا كبيرًا من قواتها في العراق، وهو الأمر الذي كان له أثر كبير في نشاط داعش. كما أعلنت فرنسا نيتها في سحب كامل قواتها من مالي خلال هذا العام. ولا شك أن التنظيمات الإرهابية وخصوصًا داعش تسعى إلى ملء الفراغ الذي سيسببه هذا الانسحاب. كما أن وجود هذه القوات الأجنبية وإن كان مؤثرًا في مواجهة داعش فإنه لم يكن مؤثرًا من حيث تدريب القوات المحلية لمواجهة الإرهاب، وخصوصًا القوات الفرنسية التي كان وجودها غير مؤثر في “مالي”، وكان انسحابها مرحبًا به.
- انشغال العالم على مدار عامي 2020 و2021 بمكافحة فيروس كورونا. وقد جاء ذلك بالتزامن مع انسحاب بعض القوات الأمريكية من العراق، وكان ذلك له أثر واضح على الحالة الأمنية في مناطق الصراع. ففي العراق انشغلت قوات الأمن بتطبيق حظر التجوال وهو ما استفاد منه داعش في التحرك جغرافيًا بحرية وتنفيذ عمليات في البلاد. كما استفاد من الفيروس إعلاميًا وإفتائيًا، وقدم خطابًا لأنصاره ادعى فيه أن الفيروس عقابًا من الله للدول التي حاربت دولتهم المزعومة.
- استغلال التنظيم للحرب الروسية الأوكرانية، وانشغال العالم بها، وهو الأمر الذي يستفيد منه التنظيم بقوة، وقد دعا التنظيم أنصاره في مقطع مرئي لمتحدثه “أبو عمر المهاجر” للاستفادة من هذه الحرب وشن هجمات قوية على دول الغرب. وفي مايو الجاري نشر التنظيم مقطعًا باللغتين الفرنسية والإنجليزية بعنوان “رسالة إلى الغرب الكافر”، قدم فيها تهديدات صريحة للدول الغربية التي فرحت بمقتل “أبو إبراهيم القرشي”، متوعدًا بقتل شبابهم الذين يرسلونهم لحرب التنظيم.