إعداد: محمود الطباخ
باحث وصحفي في شؤون الحركات الإسلامية
يتسم المجتمع النيجيري بتنوعه وتعدده الاثني الهائل واختلاف ثقافاته وعرقياته، إذ يتركز المسلمون في ولايات الشمال بينما يعيش المسيحيون في جنوب البلاد، فضلًا عن وجود أقليات ذات معتقدات أخرى كالوثنية. وقد عانت نيجيريا منذ استقلالها عام 1960، من الصراعات الاثنية والعرقية والتهميش والانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية للمعارضين، والفساد المُستشري في النخب الحاكمة الذي حال دون تحقيق التنمية والوحدة المُجتمعية.
وكان من صور الفساد أن أصبحت الوظيفة العامة والعمل بالسياسة وسيلة أساسية للاكتناز وتحقيق الثروات الطائلة بعيدًا عن توفير الخدمات للمواطنين، وقد فتح هذا التهميش الباب أمام البطالة والفقر للانطلاق إلى أعلى المستويات.
في خضم هذا الوضع، طفت النعرات الطائفية بين الشمال والجنوب وزادت معها مطالب الإسلاميين المنتشرين في ولايات الشمال الشرقي للبلاد لاسيما يوبي وبورنو وبوتشي بتحويل نيجيريا لـ “دولة إسلامية” خالصة.
وقد كان من مظاهر هذا – في وقت مُبكر عام 2003 – أن خرجت جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد، المعروفة باسم “بوكوحرام”، من طور المُناداة بالانعزال عن الحكومة ومؤسساتها إلى مرحلة العمل المسلح ضدها باستهداف مراكز الشرطة والبنايات العمومية في مدينتي جيام وكاناما في ولاية يوبي.
إلا أن عام 2009، يُعد بمثابة نقطة التحول الكبرى على المستويين الأيديولوجي والعملياتي في هذا الصراع المسلح بين الحركة والدولة بمؤسساتها المُختلفة. في إطار هذا الطرح، تسعى الدراسة إلى بحث أثر العمليات الإرهابية على الاستقرار السياسي وذلك من خلال دراسة حالة نيجيريا، مع توضيح تداعيات النشاط الإرهابي لجماعة بوكوحرام والفرع الأحدث المنبثق عنها “ولاية غرب أفريقيا” الداعشية على الدولة.
أهمية الدراسة
علميًا: تُظهر مراجعة الأدبيات اهتمام الباحثين بزاويتين للدراسة فيما يتعلق بنيجيريا، الأولى تختص بتناول التعددية الاثنية والعرقية الموجودة في المُجتمع والعلاقات بينها، والثانية تتعلق بتناول جماعة بوكوحرام – باعتبارها أكثر الجماعات النيجرية تطرفًا – من الناحية الأمنية وآليات مواجهتها عسكريًا، وهو ما يُعطي لهذه الدراسة ميزة نظرية خاصة كونه يبحث في العلاقة بين الإرهاب وحالة الاستقرار السياسي للدولة.
أما عمليًا.. تُفيد هذه الدراسة في توضيح الأسباب الجذرية التي سهلت وجود جماعة بوكوحرام في الشمال النيجيري وخلقت بيئة خصبة لانتشار العنف بما فيها الفساد وتهميش السكان، بما ينعكس على فهم الوضع في منطقة غرب أفريقيا بشكل عام.
إشكالية الدراسة
تتمثل إشكالية الدراسة في سؤال رئيسي مفاده: إلى أي مدى تؤثر العمليات الإرهابية على الاستقرار السياسي في نيجيريا؟
وينبثق من هذا التساؤل مجموعة من الأسئلة الفرعية، تتمثل في:
– ما هي جماعة بوكوحرام؟ وما أهم ركائزها الفكرية، ووضعها الداخلي حاليًا؟
– ما هي الأهداف الأساسية للجماعة؟
– ما هو أثر تنامي الجماعة الإرهابية على وحدة المُجتمع النيجيري؟
– ما مدى تأثير عمليات الجماعة على الوضع السياسي والاقتصادي؟
كما تسعى الدراسة لاختبار صحة أو خطأ الفروض الآتية: كلما زادت العمليات الإرهابية غاب الاستقرار السياسي داخل نيجيريا، وأن الفساد السياسي يؤدي إلى زيادة وتنامي العنف داخل نيجيريا. وذلك عبر “نظرية هشاشة الدولة“، كإطار تحليلي حاكم للدراسة، ومن خلال المحاور الآتية:
المحور الأول: نشأة جماعة بوكوحرام وتحولاتها الأيديولوجية والتنظيمية
تُعتبر جماعة “بوكوحرام” بفرعها الأحدث “ولاية غرب أفريقيا” المبايع لداعش، من أكثر الجماعات عُنفًا داخل قارة أفريقيا في الوقت الحالي، وقد أصبحت مصدر تهديد متزايد لمنطقة الساحل الأفريقي وحوض بُحيرة تشاد وللقارة بأكملها، ويُمكن فهم طبيعة الجماعة ونشأتها وتمركزها ومراحل تطور عملياتها الإرهابية، وانعكاس هذه العمليات على الدولة النيجيرية، عبر العناصر التالية:
أولًا: نشأة الجماعة ومنطلقاتها الفكرية
تعود نشأة جماعة بوكوحرام إلى عام 2002 على يد رجل الدين النيجيري محمد يوسف في ولاية يوبي شمال شرق البلاد، وقد أُطلق عليها مسميات عدة منها “اليوسفية” نسبة إلى محمد يوسف، وطالبان نيجيريا، وجماعة التكفير والهجرة – كونهم يكفرون المُجتمع ويهجرونه – إلا أن الجماعة وفق ما صدر في بياناتها الإعلامية تطلق على نفسها “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد”.[1]
أما بخصوص بـ “بوكوحرام” فهو الاسم الأكثر شيوعًا الذي عُرفت به الجماعة سياسيًا وإعلاميًا، وهو اسم مكون من مقطعين بلغة الهوسا الذين يشكلون أكثر من 70 في المائة من شمال نيجيريا، الأول “بوكو” يُعني التعليم الغربي، والثاني “حرام” تعني حرام شرعًا، أي أن التعليم الغربي حرام شرعًا.[2]
وقد وسعت الجماعة وجودها في مدينة مايدوجوري بولاية بورنو في عام 2002، بدعم من علي مودو شريف، حاكم الولاية، وهو مُتهم على نطاق واسع بتسليح وتمويل أتباع يوسف في الفترة التي سبقت انتخابات حاكم الولاية في عامي 2003 و2007؛ ليكونوا قوة حماية وترهيب لدعم ترشيحه إلا أن “شريف ويوسف” اختلفا بعد انتخابات 2007، وشعر الأول بالتهديد من تزايد نفوذ الأخير ونكث بوعد ما قبل الانتخابات بجعله إمام مايدوجوري الأكبر، ورغم نفي “شريف”، الحاكم الأسبق للولاية هذه الاتهامات إلا أنها تجددت في وقت لاحق وطالب المدعي العام لولاية بورنو باعتقاله.[3]
وبالنظر إلى “بوكوحرام” فأنها تعتمد على مرتكزات ثلاثة تُشكل نطاق رؤيتها الفكرية، الأول أن الدولة فاسدة وكافرة ولا يجب التعامل معها، باعتبار أن نظامها المصرفي يقوم على الربا المُخالف للإسلام وأن القوانين التي تسير بها تُخالف الشرعية، أما المرتكز الثاني يتمثل في تكفير التعليم الغربي لأن من وضعه الاستعمار وأن الهدف منه هدم الإسلام، وثالثها هو “الهجرة” من هذا المُجتمع إلى مكان آخر مُنعزل.[4]
في إطار هذه المنطلقات الفكرية الثلاثة، كثفت الجماعة دعوتها في ولايات الشمال النيجيري، وتمكنت من حشد أتباع لها في يوبي وبورنو وبوتشي وكانو، حيث ترك الطلاب جامعاتهم ومدارسهم وباع أصحاب المهن ممتلكاتهم للانضمام للجماعة بهدف ما اعتبروه “جهادًا” لتخليص المُجتمع من الرذائل والتعليم الغربي الكافر، وفق نظرهم.[5]
في خضم هذه التحركات، اتخذ محمد يوسف خطواته نحو تشكيل المُجتمع المُنعزل أو ما يُمكن تسميته “الدولة الإسلامية” بفك ارتباطه بالحكومة وإصدار تعميمًا بمقاطعة مؤسسات الدولة وبناء مسجد عُرف بـ “مسجد ابن تيمية” ليكون مركز مُجتمعه الجديد، كما أسس الدواوين والمدارس الخاصة والألوية العسكرية البديلة عن أجهزة الدولة.[6]
ثانيًا: التحولات التنظيمية داخل “بوكوحرام”
دخل عناصر “بوكوحرام” في صراع مع الحكومة النيجيرية التي تحركت للقضاء على حركة “يوسف”، وكانت سنة 2009 بمثابة نقطة التحول في هذا الصراع، وهو ما يُمكن توضيحه عبر العناصر التالية:
1- مقتل محمد يوسف وتولي “شيكاو”:
في منتصف عام 2009 اندلع صدام مُسلح واسع النطاق بين أتباع يوسف والشرطة قُتل فيه 1000 شخص من عناصر “بوكوحرام” وألقي القبض على محمد يوسف، وقُتل داخل أحد مقار الشرطة، في أعقاب هذا الصدام تولي أبو بكر شيكاو، نائب محمد يوسف زعامة الحركة، وأعلن حالة النفير العام للثأر لـ “يوسف”، وكثفت الحركة من هجماتها المتلاحقة على مؤسسات الدولة ومقار الشرطة والمدنيين، ونفذت سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات والهجمات الانتحارية التي عرفتها نيجيريا لأول مرة في تاريخها والتي كان أبرزها الهجوم على مقر الأمم المتحدة في أبوجا.[7]
مع زيادة عُنف هجمات بوكوحرام خلال عامي 2011 و2012 وتنوعها كمًا وكيفًا داخل نيجيريا، زادت الحكومة النيجيرية من اعتمادها على سياسة “العصا” ففرضت حالة الطوارئ وانشأت فرقة قوة إعادة النظام Joint Task Force))، ونتيجة لهذا الضغط هرب أعضاء الجماعة من معاقلهم الحضارية في مايدجوري إلى الريف، وأخذوا يشنون هجماتهم على مؤسسات الدولة من هناك.[8]
ردًا على ذلك، اتخذت الحكومة سلسلة إجراءات أخرى بتشديد الخناق على المجموعة بإغلاق الحدود مع الكاميرون والنيجر وترحيل المهاجرين غير الشرعيين – غالبيتهم من التشاد والنيجر – إضافة لمد حالة الطوارئ في بعض مناطق الولايات التي هاجمتها الجماعة في وسط وشمال شرق البلاد، وقد اتسمت هذه الحملات الحكومية بالوحشية والعشوائية، حيث اجتاحت العديد من الأبرياء وتركت القرى محترقة في كثير من الأحيان.[9]
جلبت حالة الطوارئ التي استمرت لمدة عام في الداخل النيجيري قدرا من الأمن إلى مايدوجوري، لكن بوكو حرام تحولت إلى هجمات غير متكافئة ضد أهداف سهلة، بما في ذلك الكنائس والمساجد والمدارس لاسيما في المناطق الريفية، وذبح مسلحو الحركة الطلاب أثناء نومهم، وخطفوا آلاف النساء والفتيات، بما في ذلك 276 طالبة من المدرسة الثانوية الحكومية في قرية شيبوك أبريل 2014.[10]
2- انقسام الجماعة إلى فصيلين:
في عام 2014، شنت “بوكو حرام” هجمات خارج مناطق تواجدها في نيجيريا، ونفذت عمليات منتظمة في شمال الكاميرون، تلاها امتداد للعنف إلى النيجر وتشاد، وفي مارس من العام التالي (2015)، أعلنت الجماعة الولاء لتنظيم داعش الإرهابي، المُسمى بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وتحول اسمها إلى “ولاية غرب أفريقيا”.[11]
لم يمر سوى أيام قليلة على مبايعة الجماعة لداعش حتى أعلنت نيجيريا وأربعة دول أخرى “تشاد والنيجر والكاميرون وبنين” تفعيل القوة المشتركة متعددة الجنسيات لقتال التنظيم الإرهابي، وقد ساعدت هذه القوات في إلحاق خسائر مُتعددة بالجماعة إلا أن الأوضاع في الشمال النيجيري كانت في حالة سيئة، إذ نزح أكثر من مليوني شخص وقتل ما يقرب من 20 ألف أغلبهم من السكان المحليين، واضطربت الأوضاع في الريف بصورة كبيرة.[12] فضلًا عن تمركز عناصر الجماعة في المناطق القريبة من الشمال لاسيما في بحيرة تشاد.
في ظل هذا الهجوم الإقليمي على الجماعة دبت الخلافات بين قياداتها بسبب الاستراتيجية القتالية والتفرد بالزعامة، ما أدى إلى انقسامهم بين فريقين الأول بقيادة أبو بكر شيكاو، نائب محمد يوسف مؤسس الحركة الذي يتولى زعامتها منذ مقتله في عام 2009، والفريق الثاني بقيادة اثنين هما مامان نور أحد أصدقاء “يوسف” المقربين، وأبو مصعب برناوي، نجل محمد يوسف، وقد اختار زعيم داعش – آنذاك- أبو بكر البغدادي، الانضمام لفريق مامان نور وأبو مصعب البرناوي وعزل “شيكاو” عن زعامة الجماعة، وهو ما رفضه “شيكاو” وقاد الفصيل القديم للجماعة لتتحول “بوكوحرام” إلى فصيلين متناحرين ومتنافسين الأول بقيادة “شيكاو” وأتباعه وهو جماعة بوكوحرام، والثاني بقيادة أبو مصعب البرناوي وأنصاره وهو “ولاية غرب أفريقيا”.[13]
لم يؤثر الانقسام على دموية الجماعتين في السنوات التالية وتحديدًا خلال 2017 و2018، فقد واصلت “بوكوحرام” بقيادة شيكاو استهداف المدنيين في مايدغوري القريبة من معقلهم في غابة سامبيسا شمال شرق نيجيريا، بأسلوبها المعروف بالعنف العقابي للمدنيين النيجيريين باعتبارهم ليسوا مسلمين حقيقيين لأنهم يعيشون في ظل “قوانين وضعية” ويؤيدون الحكومة التي يعتبرونها “كافرة”.
وهو ما تأكده الإحصاءات، حيث أن المدنيين كانوا هدفًا مباشرًا لـ 44% من إجمالي عمليات العنف خلال السنتين المشار إليهما. في المقابل، اتبعت ما تعرف بـ “ولاية غرب أفريقيا” أسلوبًا أقل حدة مع السكان المحليين بهدف استقطابهم، وركزت هجماتها على قوات الجيش والشرطة.[14]
المحور الثاني: الوضع السياسي والاقتصادي داخل نيجيريا
يتناول هذا المحور الوضع السياسي داخل نيجيريا وما يُميزه من انقلابات واغتيالات مُتتالية، ثم التطرق إلى الحالة الاقتصادية للدولة ودرجة الشفافية بداخلها، مع بيان مدى انعكاس هذه الأوضاع على مكانة ونفوذ الجماعات الإرهابية، وذلك عبر العناصر التالية:
أولًا: الوضع السياسي في نيجيريا
تميز المُجتمع النيجيري فترة ما قبل الاستعمار بتعدده الثقافي دون وجود تمييز على أساس ديني أو اثني إلا أن الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار وسياساته في الُحكم خلقت حالة من الصراع ورسخت الانقسام داخل نيجيريا.
وقد تم تكريس هذا الانقسام خلال الفترة الاستعمارية بشكل رسمي في دستور عام 1946 الذي اعترف بوجود ثلاثة أقاليم كبرى هي الهوسا/ الفولاني في المنطقة الشمالية، والايبو في الشرق، واليوروبا في الغرب، وقد تنافس سكان كل منطقة فيما بينهم من أجل السيطرة على الثروة والإدارة، ما كان عائقًا أمام تشكيل دولة وطنية واحدة حتى بعد الاستقلال عام 1960.[15]
في خضم ذلك، بقي الشمال النيجيري يحتفظ بهويته الإسلامية حتى في ظل الاستعمار جراء اعتراف النظام الاستعماري بهذه الهوية والتحالف مع حكامه، كما ظل الوضع الثقافي والتعليم السائد كما هو لم يتأثر بالثقافة الغربية ولا التعليم الأجنبي، وكان من مظاهره استمرار مدارس القرآن والمحاكم الشرعية، وهو ما أوجد اختلافًا كبيرًا بين الوضع في جنوب البلاد حيث التعليم الغربي والنظام الاجتماعي الأكثر تمدنًا عن الشمال، ما كان له انعكاساته فيما بعد على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، حيث اُستخدام هذا الخطاب الديني بشقيه المسيحي والإسلامي بعد فترة الاستعمار كأحد أدوات التعبئة والتنافس على السلطة.[16]
وفي أعقاب استقلالها مباشرة، دخلت نيجيريا في سلسلة من الانقلابات كان في مقدمتها الانقلاب العسكري على الرئيس بنيامين ازيكوي، أحد حكماء قبيلة الإيبو والذي تزعمه الجنرال جونسون إيرونسي وهو من الايبو أيضًا. وفي ظل حكم إيرونسي انتشرت مظاهر العنف بين السلطة والمعارضة، حيث شهدت الدولة اغتيالات لزعامات وطنية من الهوسا مثل رئيس الوزراء “أبو بكر بللو” والزعيم السياسي “أحمد بلو”، وقد تم إلغاء الفيدرالية وحكمت البلاد بصورة مركزية، إلا إن الأمر لم يستمر طويلا لايرونسي الذي اُغتيل بعد ستة أشهر من توليه السلطة، ثم وقعت الحرب الأهلية في فترة الحكم التالية “يعقوب غوون” والتي أدت لمقتل ما يقرب من مليون شخص.[17]
وكثرت الصراعات المدفوعة بالعرق أو الدين أو الإقليمية أو الثروة، أو من قبل مؤيدي المعارضين السياسيين، وعانت البلاد من عدم الاستقرار السياسي طوال هذه السنوات في ظل سلسلة طويلة من الانقلابات والاغتيالات والحكم العسكري حتى انتخاب حكومة مدنية عام 1999، شهدت البلاد في ظلها تداول السلطة بشكل سلمي، وتولي أوليسيغون اوباسانجو إلى سدة الحُكم، لكن سرعان ما توالات الأزمات ومطالبات المعارضة ذات التوجه الإسلامي في الشمال.[18]
وتُقسم نيجيريا وفق النظام الفدرالي الحالي إلى 36 ولاية (منها 19 في شمال ووسط البلاد)، برئاسة محمد بخاري، العسكري السابق الذي سبق وقاد انقلابًا عام 1983 أطاح بالرئيس المدني المنتخب شيخو شاجاري.
ورغم تعهد الرؤساء المتتالين بمحاربة الفساد المستشري داخل الدولة، والذي كان من بينهم “أوباسانجو” و”بخاري”[19] إلا أن درجات الشفافية والنزاهة في نيجيريا في تراجع مستمر، حيث أنها تظل واحدة من أكبر 25 دولة في معدل مُدركات الفساد عالميًا، وذلك وفق مؤشر مدركات الفساد (CPI)، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية خلال عام 2021.[20]
ويقيس المؤشر الذي سبق الإشارة إليه مستويات الفساد في القطاع العام للدولة، نتيجة: تحويل الأموال العامة في غير مقصدها، والرشوة والواسطة، واستيلاء أصحاب المصالح على الأموال، وسوء استخدام المنصب العام، وضعف الحماية القانونية.
تُعد دولة نيجيريا واحدة من أقوى الاقتصادات الأفريقية، إذ احتل اقتصادها المرتبة الأولى في القارة عام 2021، وفق بيانات البنك الدولي، إلا أن الفساد المُنتشر يعوق التنمية في هذا البلد الغني بالنفط، حيث لا يستفيد المواطنين من الأموال المُخصصة للصحة والتعليم والطرق والبنية التحتية، لاسيما في الولايات الشمالية للبلاد.
وحسب إحصاءات مؤشر التعقيد الاقتصادي لعام 2020، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المرتبة 148 عالميًا، في الوقت الذي احتلت فيه الدولة المرتبة 26 عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، إذ وصلت قيمة صادراتها من المواد النفطية فقط والبالغة 86 % من إجمالي صادرتها نحو 37 مليار دولار.
وقد شهدت السنوات الخمس عشرة التي سبقت انهيار سعر النفط في عام 2014 نمو نيجيريا بشكل كبير لتصبح من أكبر اقتصادات القارة، لكن معظم الازدهار اقتصر على جيوب المسؤولين في المناطق الحضرية في الجنوب، بينما كان الوضع مُعاكسًا تمامًا في الشمال الذي ظل معقلًا للمعارضة لسنوات طويلة، وأصبحت ولاية “بورنو” – مقر “بوكوحرام” – معزولة إلى حد كبير عن اهتمامات حزب الشعب الديمقراطي الحاكم.[21]
وتفتقر المنطقة الشمالية إلى موارد وخدمات كثيرة، وتُعاني من الجفاف وقلة الديناميات الاقتصادية والتجارة المشروعة، حيث يزداد الشعور بالظلم من الفقر النسبي بسبب المستويات المرتفعة للفساد وسوء الإدارة وسيطرة الجماعات الإرهابية، ويزداد معها غضب المواطنين تجاه أصحاب الأموال، حيث ينظرون إليهم على أنهم فاسدون.[22]
واستنادًا إلى أحدث بيانات المسح الرسمي للأسر المعيشية الصادرة عن مجموعة البنك الدولي، فإن 4 من كل 10 نيجيريين كانوا يعيشون في فقر خلال العامين 2018/2019، وكان 39.1 في المائة من النيجيريين – أي 82 مليون شخص – تحت خط الفقر الدولي البالغ 1.90 دولارًا للفرد في اليوم. وقد أثر الفقر بشكل غير متناسب على المناطق الريفية في شمال نيجيريا، حيث أن 84.6 في المائة من هؤلاء الذين يعانون من الفقر يعيشون بالمناطق الريفية، و76.3 في المائة منهم يعيشون في شمال البلاد.[23]
ثالثًا: انعكاس الوضع السياسي والاقتصادي على مكانة “بوكوحرام” و”ولاية غرب أفريقيا”
أدى إهمال الحكومات النيجيرية المُتعاقبة للأوضاع في ولايات الشمال إلى تعاظم نفوذ جماعة بوكوحرام وانتشارها في هذه المنطقة، حتى أنها قللت من خطر وتهديد الجماعة على الدولة النيجيرية، وهو ما كان حاضرًا في عهد الرئيس النيجيري “جودلاك جوناثان” (2010- 2015) الذي انشغل بالانتخابات والسلطة، بينما يستفحل خطر التنظيم في عهده بصورة غير مسبوقة، وكان ضريبة ذلك أن انتشر العنف وزادت النعرات الطائفية ضد مسيحيي الجنوب.[24]
ومع استشعارها الخطر بعد ذلك، سعت الحكومة النيجيرية إلى اعتماد القوة الأمنية والعسكرية كحل أساسي ونهائي، فعملت على اعتقال آلاف الشبان وسجنهم في ظل ضعف الأدلة حول تورطهم في العنف، كما تورطت في عمليات قتل خارج نطاق القانون في إطار مواجهة التنظيم، وقد تسببت هذه القوة الغاشمة والهجمات الانتقامية ضد قرى الشمال إلى تعميق الشعور بعدم الثقة وانعدام الأمن بين المجتمعات المحلية، بينما كانت جماعات العُنف أكثر المستفيدين من هذا الوضع المُضطرب.[25]
ومع نهاية عام 2016، عمل كلا التنظيمين الإرهابيين “بوكوحرام” و”ولاية غرب أفريقيا” على الاستفادة من الوضع الهش الموجود، والعمل على إضعاف الحكومة وتعميق حالة الاضطراب السياسي والأمني التي تعاني منها الدولة، في خضم هذا أصبحت نيجيريا ضمن أكثر دول العالم مُعاناة من الإرهاب.
وتحتل نيجيريا المرتبة السادسة كأكثر الدول تأثرًا بالإرهاب في العالم، إذ توفي 448 شخصًا عام 2021 بفعل هجمات تنظيمي ولاية غرب أفريقيا وبوكوحرام، ومن بين الهجمات التي وقعت في البلاد أعلنت “ولاية غرب أفريقيا” الداعشية مسؤوليتها عن 36 في المائة منها، فيما تبنت بوكوحرام 8 في المائة فقط، و44 في المائة لم تُعلن أي جماعة مسؤوليتها عنها[26].
وقد زادت الهجمات ضد الجيش والشرطة بشكل كبير من هجوم واحد في عام 2020 إلى 75 هجومًا في عام 2021 وهو ما يمثل أكثر من ثلث الهجمات في نيجيريا، أغلبها في الأجزاء الواقعة على حوض بحيرة تشاد وفي شمال شرق البلاد لاسيما في ولاية بورنو التي شهدت وحدها 86 هجومًا إرهابيًا خلال العام ذاته[27]، ولعل هجوم بلدة ماينوك (26 أبريل 2021) على القاعدة العسكرية الواقعة في ولاية بورنو كان الأكثر دموية للفصيل الداعشي في نيجيريا، فقد راح ضحيته أكثر من 30 جنديًا[28]، ولا يزال الأفراد العسكريين الهدف الأساسي من هجمات ولاية غرب أفريقيا.
ويعود تراجع عمليات بوكوحرام داخل نيجيريا خلال عام 2021 وتنامي عمليات ولاية غرب أفريقيا، إلى عدة عوامل أبرزها: مقتل أبو بكر شيكاو، زعيم الجماعة، ومبايعة عدد كبير من أعضائها للفصيل الداعشي، وفقدانها لمعقلها الرئيسي الآمن في جيب سامبيسا الأمر الذي دفع بوكوحرام لتركيز هجماتها بمناطق أخرى في مقدمتها بلدات وقرى الشريط الحدودي للكاميرون.
يتميز المُجتمع النيجيري بتعدده الثقافي والاثني إلا أنه ورث تركةً استعمارية من الانقسام والصراع بين مكوناته حالت دون تحقيق الوحدة المُجتمعية، ولم تنجح الحكومات الُمتعاقبة في جمع نسيجه، بل زادت الأمر سوءًا جراء انشغالها بالسلطة والسعي نحو امتلاك مقاليد الإدارة والثروة، ما فاقم الوضع الهش وزادت مُعدلات الفساد وعُزلة الشمال عن الجنوب، وأعطت الفرصة لجماعات العُنف وعلى رأسها “بوكوحرام” بنشر منهجها المُتطرف بين السكان المحليين فزادت الأخيرة من استقطابهم واستخدامهم كوقود لعملياتها الإرهابية، وهو ما انعكس في النهاية على حالة الاستقرار السياسي والمُجتمعي للدولة.
وقد توصلت الدراسة في إطار الطرح السابق إلى النتائج التالية:
1- أن الفساد المُنتشر في النُخبة النيجيرية ساعد على قوة ونفوذ جماعة بوكوحرام وولاية غرب أفريقيا وانتشارهما في شمال البلاد، نتيجة اهتمامهم بمصالحهم الخاصة بعيدًا عن توفير المُناخ الصحي للمعيشة والتنمية في البلاد، فضلًا عن اعتماد المواجهة العسكرية كأداة وحيدة لمقاومة التطرف.
2- تسببت العمليات الإرهابية للفصيلين الإرهابيين في تراجع مُعدلات الاستقرار داخل نيجيريا لاسيما في ولايات شمال شرق البلاد التي يقطنها غالبية المُسلمين، ما زادت من عُزلتهم سياسيًا واجتماعيًا وضاعفت من حالة انعدام الثقة تجاه الطبقة الحاكمة.
3- وجود خطر شديد مُستقبلًا على ولايات الشمال ما يُهدد الدولة النيجيرية ككل يتمثل في تمدد الفاعل الإرهابي المُنبثق عن بوكوحرام وهو تنظيم “ولاية غرب أفريقيا” وسط اعتماده استراتيجية أقل حدة في التعامل مع السكان المحليين وتقديم الخدمات التي تعجز الحكومة عن توفيرها لهم وهو ما يُسرع من وتيرة آلة التجنيد في هذه المنطقة.
المراجع:
[1] أ.د. حمدي عبد الرحمن حسن، “العنف وهشاشة الدولة: بوكوحرام نموذجًا”، مجلة الديمقراطية (القاهرة: مؤسسة الأهرام، مج. 15، ع. 58، أبريل 2015)، ص 149.
[2] المرجع السابق، ص 150.
[3] Jennifer G. Cooke, Thomas M. Sanderson, “Militancy and the Arc of instability: Violent Extremism in the Sahel”, A Report of the CSIS Transnational Threats Project and the CSIS Africa program (Washington: Center for strategic and international studies, September 2016), pp. 19-20.
[4] أ.د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره.
[5] نفسه.
[6] المرجع السابق، ص ص 150 – 151.
[7] Omar S. Mahmood, Ndubuisi Christian Ani, “Factional Dynamics within Boko Haram”, ISS Research Report (Pretoria: Institute for security studies, July 2018), p.6.
[8] Idem.
[9] Jennifer G. Cooke, Thomas M. Sanderson, loc.cit.
[10] Idem.
[11] Omar S. Mahmood, Ndubuisi Christian Ani, loc.cit.
[12] Idem.
[13] Jennifer G. Cooke, Thomas M. Sanderson, op.cit., p.23.
[14] Omar S. Mahmood, Ndubuisi Christian Ani, op.cit., pp. 20-21.
[15] أ.د. حمدي عبد الرحمن حسن حمدي، مرجع سبق ذكره، ص 152.
[16] نفسه.
[17] هيفاء أحمد محمد يونس، “ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في نيجيريا: دراسة في حركة دلتا نهر النيجر”، دراسات دولية (بغداد: مركز الدراسات الدولية، جامعة بغداد، مج. 2010، ع. 46، ديسمبر 2010)، ص 98.
[18] المرجع السابق، ص 99.
[19] “الرئيس النيجيري يتعهد بمواصلة حملته على الفساد في ولايته الثانية”، فرانس 24، 28 مايو 2019، تاريخ الاطلاع 1 مايو 2022: https://www.france24.com/ar/20190528
[20] Transparency International, “Corruption Perceptions Index 2021” (Berlin: Transparency International, 2021), p.3.
[21] Jennifer G. Cooke, Thomas M. Sanderson, op.cit., p.8.
[22] Idem.
[23] The World Bank, “Poverty & Equity Briefs: Nigeria”, October 2021: https://databank.worldbank.org/data/download/poverty/987B9C90-CB9F-4D93-AE8C-750588BF00QA/AM2021/Global_POVEQ_NGA.pdf
[24] Jennifer G. Cooke, Thomas M. Sanderson, op. cit., p.24.
[25] Ibid., p.25.
[26] Institute for Economics & Peace, “Global Terrorism Index 2022: Measuring the Impact of Terrorism” (Sydney: Institute for Economics & Peace, March 2022), p.25.
[27] Idem.
[28] “مقتل 31 عسكريا على الأقل في شمال شرق نيجيريا في كمين نصبه جهاديون”، Swissinfo، 26 أبريل 2021، الاطلاع بتاريخ 20 أبريل 2022: https://bit.ly/382lg4Q