إعداد- الدكتور: سمير الوصبي- مدير وحدة الدراسات الاجتماعية –مركز العرب-
اختلف الاهتمام بالسّلطة كظاهرة اجتماعيّة وكمفهوم يندرج ضمن مجال الدراسات الاجتماعيّة، وعلم الاجتماع الانعكاسيّ، من عصر إلى آخر هذا التباين في التصورات ووجهات النظر نتج عن عوامل سوسيو اقتصاديّة، وسياسيّة، وثقافيّة، وكذا التطورات التي شهدها الوضع المادّيّ المعيشيّ، والحضاريّ للمجتمعات البشرية وخاصة التي ازدهرت فيها أشكال وأنماط الدولة المدنية.
تعدّدت الآراء وتشكلت التصورات حول مفهوم السلطة الّتي أغنت السوسيولوجيا بمجموعة من المصطلحات، والمفاهيم للرواد من أمثال سقراط، وأفلاطون، بهويز، ولوك، وميشيل فوكو، وماكس فيبر، وبيير بورديو.
وحتى نستوعب ونفهم الموضوع بشكل أدق وبعمق تحليلي سنكتفي برصد وتتبع التكامل المعرفي والمنهجي لكل من سقراط على اعتبار أنه يمثل سلطة العقل، وماكس فيبر منظرا للتنظيم والهيكلة التي عرفتها السلطة، مع بيان أثر السلطة وتأثيرها مع وبيير بورديو، وبهذا نكون قد حددنا معالم لنظرية التكامل المنهجي والمعرفي لمفهوم السلطة، وفي نفس الوقت نتعرف على قواعد تحليل الصراع على السلطة لننتهي إلى تقرير مفهوم جديد انتقالي بين تلكم التصورات الثلاثة سميناه سلطة الوعي.
الغاية من التكامل المعرفي والمنهجي للتصورات الثلاثة
(سلطة العقل- سقراط، سلطة التنظيم- فيبر، سلطة التأثير– بورديو)
بديهي أن يكون الغرض من السلطة هو تحقيق العدالة الاجتماعية؛ إلا أن بروز النوازع الذاتية والرغبة في التملك وظهور الأنا كنرجسية وسطوة يغير القصد ويضيع الغاية الأصيلة؛ فننتقل من قيمة السلطة إلى رذيلة السلطة فيحل القهر والجبر والتسلط.
الفرق بين سلطة العدل وسلطة القهر:
يرجع أمر تحديد الفرق بين سلطة العدل وسلطة القهر إلى مسألة الاستخدام أو التوظيف للقوة؛ فإذا كان استخدام القوة بطريقة مشروعة، أي ما يحقق المصلحة الاجتماعية في مظهر العدالة الاجتماعية حكمنا حينها أنها سلطة عدل، وإن استخدمت القوة بطريقة غير مشروعة وذات مصلحة فردية في مظهر النرجسية كانت تسلطا وجبرا وقهرا، إلى هنا نستعرض قولة الشهرستاني الشهيرة عن الصراع والخلاف عندما قال: “ما أريق دم كما أريق على الخلافة”، توصيف إجمالي من قبل الشهرستاني وتقرير لحكم وحكمة مفادها أن هوس الأنفس ببلوغ السلطة من دون غاية- وجودية أو مقصد إنساني سامٍ ونبيل- تولد سلطة القهر والجبر ما ينجم عنه مآس ودمار وخراب يتمظهر كل هذا في صور وأشكال من الحروب والصراعات.
الأكيد أن السلطة تعني عند كثير من دارسي علم الاجتماع السياسي قوة التوجيه وفرض وجهة نظر لتحقيق العدالة الاجتماعية، وعملنا الإجرائي من خلال هذه المقالة هو تحديد معالم التكامل المعرفي والمنهجي بين التصورات الثلاثة للوصول إلى نتيجة عملية وتوصية تساهم في بناء أمة وصنع حضارة، وهي ترسيخ مفهوم سلطة الوعي.
التصورات الثلاثة للسلطة: (سلطة العقل- سقراط، سلطة التنظيم- فيبر، سلطة التأثير– بورديو):
1- سلطة العقل (سقراط): سقراط هو أول رجل يعدم بسبب أفكاره، رفع سقراط شعارات ومبادئ وقيما ولتجسيد ذلك وتنزيله، دعا إلى مفهوم الجمهورية التي لن يحكمها سوى الفلاسفة والعقلاء والحكماء، وعلى هذا الأساس وصفناه برائد سلطة العقل، سأعرض أهم الاتجاهات الفلسفية لتكتشف بنفسك سبب إعدامه، أو بعبارة أصح إعدام سلطة العقل.
“اكتشف سقراط أنّ الإنسان يعلن امتلاكه للمعرفة، من دون إدراكه للجهل الذي يمتلكه في الحقيقة، واعترف بأنّه على بيّنة بجهله على عكس الآخرين، بالإضافة إلى أنّ دعوة سقراط وفلسفته ارتكزت على البحث عن الحكمة في السلوكيّات المختلفة، التي تساعد على تحسين الأفكار والأخلاق للناس في أثينا، وأفنى عمره في مناقشة قضايا العدالة والتقوى بين المواطنين، بالإضافة إلى أنّه لم يهتمّ للمناصب الإداريّة العامة، بل أهمل شؤونه الخاصة، واشتُهر بالشجاعة في الحملات العسكريّة فكان له العديد من الأعداء”.
جوهر سلطة العقل: “اعرف نفسك بنفسك” جاءت مقولة الفيلسوف اليوناني سقراط “اعرف نفسك بنفسك” عندما سُئل عن ملخصٍ لكل الوصايا الفلسفية، وقد اختار هذه العبارة البسيطة لتبسيط واختزال كل معارفه وأفكاره في إشارةٍ إلى أنّ هذه المعرفة تعني فهمًا للحياة؛ فمعرفة الإنسان لذاته تساعده في فهم احتياجاته وإدراك واقعه المعيشي، وتسهل عليه الوصول لأهدافه وتحقيق طموحاته، كما أنّ الجهل بالذات يترتب عليه صعوبةٌ في مواجهة التحديات.
إعدام سلطة العقل: حُكم على الفيلسوف اليوناني سقراط بالإعدام عن طريق تناول سم الشوكران، أراد أصدقاؤه رشوة حراس السجن كي يستطيع الهرب من الموت، لكن سقراط رفض ذلك، قائلاً إنّ هذا التصرف سيظهره خائفًا من الموت، وهو ليس خائفًا منه
“يا رجال أثينا، إني أتشرف بكم وأحبكم، ولكن عليّ طاعة ربي بدلًا منكم، وطالما مَدّني الله بالحياة والقوة، فلن أتوقف أبدًا عن ممارسة الفلسفة”.
“كنت أفتش عن الحقيقة وأبحث عنها كما يبحث الجائع عن طعام، ولم أستطع أن أقبل المشكلات من غير مناقشاتها، فلقد كنت في حاجة لكي أرضي ذلك النداء الملح الذي يريد من كل إنسان أن يجتهد للوصول إلى الحقيقة الكاملة، وها أنا إذن، لا يهمني أن أكون مثلكم لا أملك شيئًا من علم، ولكنني لا أريد أن أعاني ما تعانون من جهل”.
وقبل رحيل سقراط، قال خطبته الأخيرة مودعًا فيها كل من في المحكمة، حيث دوّن الخطب تلميذه، أفلاطون، الذي كان يجلس بين الجمهور وقد انتابه الحزن واليأس في كتاب سماه الاعتذار: “يا رجال أثينا، لقد حكمتم عليّ بالموت. بالنسبة لأصدقائي الذين صوتوا لتبرئتي، دعوني أقل لكم إن الموت قد يكون أمرًا جيدا. فإما يكون الموت حالة من العدم واللاوعي أو يكون، كما يقول البعض، مجرد هجرة من هذا العالم إلى عالم آخر”.
2– سلطة التنظيم والهيكلة (ماكس فيبر)
وضع عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر خصائص النموذج البيروقراطي المثالي، فيكون بذلك قد انتقل بمفهوم السلطة إلى مستوى الهيكلة والتنظيم، فمن وجهة نظره أن أي منظمة خاصة، عامة، دينية…. إلخ، لا بد أن تتمثل في نظام بيروقراطي قائم على أساس هرمي تتسلسل به من القمة إلى القاعدة، فقد رأى ماكس فيبر تزايد حاجة الدولة إلى التدخل في الأنشطة الإدارية والبناء التنظيمي، وفي ذلك الوقت، لم يكن ملائماً للمساهمة بفاعلية في حل المشاكل الاجتماعية والسياسية، من هذا المنطلق وضع ماكس فيبر مجموعة من السمات والخصائص للجهاز البيروقراطي المثالي، هذه السمات لابد أن يتميز بها هذا النظام البيروقراطي من أجل أن يحقق أعلى قدر ممكن من الكفاية. من هذه الخصائص:
1- تقسيم العمل.
2- ضرورة الفصل بين أعمال الموظف العامة والخاصة.
3- شغل الوظائف يقوم على أساس التعيين وليس الترشيح.
4- كل وظيفة تتطلب مهارات معينة ولا بد من اختيار الموظف الأكثر كفاءة.
5- الترقية على أساس الأقدمية أو الإنجاز أو الاثنين معاً ويُؤخذ برأي المشرفين في ذلك.
6- أداء الموظف لا بد أن يخضع لرقابة المنظمة.
7- حق الموظف يتمثل في حصوله على الراتب المجزي والعلاوة.
ويعتقد ماكس فيبر أنه ومن خلال هذه الهيكلة التنظيمية يمكن أن يحقق أعلى قدر ممكن من الكفاية الإنتاجية، وأن الحوافز المادية هي العامل الوحيد الذي يمكن استخدامه للتأثير على سلوك الفرد، لكنه قلل من أهمية وقدر متغيرات أخرى كالجانب الاجتماعي والنفسي للموظف، والبيئة الداخلية للمنظمة أو الإدارة وما لها من أثر على معنويات الأفراد، وبالتالي على إنتاجيتهم. يُضاف إلى ذلك عدم مناقشته معطيات بيئة النظام الخارجية وما قد يحدث بها من متغيرات تؤثر على كفاءة المنظمة ومنسوبيها.
أنواع السلط عند ماكس فيبر: التقليدية، الكارزمية، العقلانيّة/ القانونية
ميّز ماكس فيبر بين ثلاثة نماذج للحكم المشروع من السلطة/ القوّة السلطان في التاريخ. التقليديّة، الكاريزميّة، العقلانيّة/ القانونيّة، هذه النماذج أو الأنماط الثلاثة مثاليّة، وتساعد الباحثين في التعاملِ مع ظواهر العالم الحقيقيّ. على الرغم من أنّ إطار “فيبر” يبدو مرئيًّا زمنيًّا من التقليديّ إلى الكاريزميّ إلى العقلانيّ/ القانونيّ. إنّ أيّ أنموذج من هذه الثلاثة يمكن أن يصبح هو المهيمن، والأكثر حضورًا عادةً، وبالإمكان وجود الاثنين أو الثلاثة في الوقت نفسه.
1ـ السلطة التقليديّة: هي السلطة/ القوّة التي تحقّق مشروعيتّها من خلالِ احترام أنماط ثقافيّة ثابتة وطويلة المدى، وقع نقلها عبر الأجيال. في هذا النظام يطيع الناس الأوامر استنادًا إلى المكانةِ التقليديّة للحكام. حيث ترتكز على الاعتقاد بشرعيّة التقاليد، لأن في النفسِ البشريّة جزءًا من الإيمانِ جعلَها تقبل شرعيّة نظام معيّن منذ نشأة الوحدة الأولى للدولة، وأنّ الأجيال توارثت هذا الاعتقاد فأصبح عرفًا أو تقليدًا. وكما هو موجود أيضًا في النظامِ الحديث، وفي نظرهِ أنّ درجة استقرار النظام السياسيّ تتوقّف على درجةِ الشرعيّة التي يكتسبها نتيجة العرف أو التقليد.
يعطي “فيبر” مثالًا عن ذلك: حكم الأسرة الوراثيّ للنبلاء في أوروبا في القرون الوسطى حيث يقدّم الناس ولاءهم لهذه الأسر “الأرستقراطيّة والملوكيّة” لا إلى القوانين التي تمّ وضعها. وهذا يعني أنّ الناس يطيعون الحكّام ويشعرون بأنّهم يدينون لهم بإخلاص شخصيّ.
2ـ السلطة الكاريزميّة: يعرّف “فيبر” الكاريزما بأنّها: “خاصّية ما في شخصيّة الفرد يتميّز بمقتضاها عن سائر الرجال العاديّين، ويعامل على أساس أنّه قوى فوق طبيعيّة، أو فوق إنسانيّة، أو أنّه يتّسم على الأقل ببعض الخصائص، أو القوى غير العاديّة”. وهذه الخصائص لا يتمتّع بها الأشخاص العاديّون، ولكنّها تعدّ ذات مصادر إلهيّة أو مثاليّة، واستنادًا إليها يعامل الشخص الحائز لها باعتباره قائدًا.
فالسلطة الكاريزميّة يقودها شخص غير عاديّ “خارق” يملك صفات حقيقيّة، أو وهميّة، وقد شاع استخدام مفهوم الكاريزما في علمي الاجتماع الدينيّ والسياسيّ، ومن هذه النماذج التقليديّة للشخصيّات الكاريزميّة السيّد المسيح وهتلر…
وقد عدّ “فيبر” القادة الكاريزميّين المُلهمين المقابل الرئيسي للصرامة البيروقراطيّة الموجودة في الديمقراطيّات الجماهيريّة، وعدّها مصدرًا لعدم الاستقرار والتجديد.
وتمثّل الكاريزما إحدى قوى التغيّر الاجتماعيّ، وعلى الرغم من أنّ القيادة الكاريزميّة تكون مخوّلة لأشخاص فعليّين بعينهم، فإنّها تضفي على حاملها خصائص القداسة، حيث يستجيب الأتباع لذلك بإقرارهم بأنّ من واجبهم خدمة القائد. ويوضح “فيبر” ذلك بقوله: “من وجهةِ النظر الموضوعيّة، فإنّ كلّ سلطة كاريزميّة سوف تجد نفسها مضطرّة لأن تؤمن بالقول المأثور: إنّه أمر مكتوب… ولكنّي أقول إنّه مكتوب عليك…”
فالسلطة الكاريزميّة تميل إلى تشويش وبلبلة الأشكال التقليديّة، حيث كانت مصدر ابتكار وتغيير عبر التاريخ. كما تعتمد على الحبّ الشديد الذي يشعر به الخاضعون تجاه قائدٍ ما، بسبب صفاته الاستثنائيّة التي تلهمهم التفاني والإخلاص له.. وهناك الكثير من الأمثلة التاريخيّة كـأدولف هتلر والمهاتما غاندي.
أمّا على المدى الطويل، وبعد موت القائد فإنّ السلطة التي سوف تخلفه إمّا أن تكون بيروقراطيّة متّسمة بالطابع القانونيّ الرشيد، أو ترتدّ إلى البنى المؤسّسيّة للتقاليد التي يكون قد تمّ استيعاب الكاريزما في إطارها، وقد يتبع ذلك أزمة في الإيمان، والشرعيّة وعندما تتحوّل السلطة الكاريزميّة إلى روتينيّة، فإنّها تميل نحو التحوّل إلى أنظمة تقليديّة، أو قانونيّة.
- العقلانيّة/ القانونية
مع ظهور الرأسماليّة رأى “فيبر” أنّ السلطة التقليديّة مهّدت لظهور السلطة القانونيّة العقلانيّة. هذه السلطة/ القوّة التي تأخذ مشروعيتها من خلال قوانين وتنظيمات سنّت شرعيا لتجمع بين الاعتقاد في القانون والعقلانيّة الرسميّة في اتّخاذ القرارات.
عرّف “فيبر” العقلانيّة أنّها: “مفهوم تاريخيّ يتضمّن عالمًا كاملاً من التناقضات. وعلينا أن نبحث عن الروح التي ولد منها هذا الشكل الملموس من الفكر ومن حياة العقلانيّين”، فالتنظيمات الحديثة والأنظمة البيروقراطيّة، والديمقراطيّة للحكومات التي توجّه الحياة السياسيّة للمجتمع، تمكّن من ممارسة السلطة العقلانيّة القانونيّة عندما يقع التوصّل إلى القرارات والأوامر عبر عمليّة قانونيّة، وليس وفقًا للتقليد أو لرغبات الفرد.
إنّ البيروقراطية هي الشكل الأنموذجيّ للسلطة القانونيّة – العقلانيّة، وهذا النوع من السلطة يستمدّ شرعيّته من القانون، والطاعة، والخضوع للقانون.
إنّ انتقال المجتمع من التقليديّ إلى المجتمع العقلانيّ هو شيء حتميّ، ولكن هذا الانتقال التاريخيّ لحركة المجتمع يجب أن يمرّ بالسلطة المُلهِمَة الكارزميّة.
وضع “فيبر” الأسس البيروقراطيّة، وبحث في كيفيّة تركيز السلطة الملازمة للمنصب، وبين السلطة المبنيّة على المعرفة والتقنيّة، أي السلطة البيروقراطيّة، وقال: “إنّهما يكوّنان الهيكلة الأساسيّة للتحليل المعاصر حول مفهوميّة السلطة السياسيّة”.
لقد وضع “فيبر” نظريّة مُهِمَّة في السلطة وتعريفها، وربط بين السلطة والقيم في الحياة الاجتماعيّة، وركّز على الدين والأخلاق البروتستانيّة.
3 سلطة التأثير (بيير بورديو)
ذكرنا أن بورديو يمثل سلطة التأثير فقد كان مهتمًّا اهتمامًّا متواصلًا بفضحِ الأساطير الأيديولوجيّة التي تضفي الشرعيّة على الأوضاعِ الاجتماعيّة الجائرة.
فقد حاول “بيير بورديو” قراءة بنية المجتمع الغربيّ، والكشف عن آليات السيطرة والهيمنة المتعدّدة لتحديد مفهوم السلطة. يقول “بورديو” بهذا الصدد: “إن السلطة ليست شيئًا مُتموضعًا في مكانٍ ما، وإنّما هي عبارة عن نظامِ من العلاقات المتشابكة، ونجد أنّ كلّ بنية العالم الاجتماعيّ، ينبغي أن تؤخذ بالحسبان، من أجل فهم آليّات الهيمنة والسيطرة”.
من هنا يبدو أنّه من المستحيل الحديث عن مجتمعات إنسانية خالية من العنف، فهو ظاهرة أكيدة في المجتمعات البشريّة. فالعنف الرمزيّ يرتبط بالسلطة والحقل المجتمعيّ، عبر مجموعة من المؤسّسات (الإعلام، والمدرسة، والفنّ، والدين…) عنفًا رمزيّا ضدّ الأفراد والجماعات.
العنف الرمزيّ: بيّن “بورديو” بعض وسائله، ومدى فاعليته في تثبيت دعائم الدولة والسلطة السياسيّة الذي يعدّ عنفًا غير فيزيائيّ، يتمّ أساسًا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والأيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، وهو غير مرئيّ بالنسبة إلى لضحاياهم أنفسهم، فهو يتمّ عبر وسائل عدّة.
نجد هذا النوع من العنف (السلطة/ القوة) في التربية وتلقين المعرفة والأيديولوجيا. فالمدرسة مثلاً تحت ظلّ ديمقراطيّة التعليم والمساواة، تحدّد الناجح وغير الناجح، والمتقدّم والمتأخّر، ولأنّ رأسمال الرمزيّ متفاوت بفعل تفاوت المستويات المجتمعيّة، فمجموع معارف الأغنياء يتناسب مع سواهم لأنّ المدرسة تحاكم الجميع وفقًا لرأسمال رمزيّ، لمجموعة واحدة هي عادة الطبقة الوسطى. فتصير هذه المؤسّسات أداة طبقيّة لـ”إعادة إنتاج” السلطة القائمة في المجتمع. طالما أنّ معايير التمايز هي وفقًا لطرف واحد وليس معيار كلّيّ.
وهذا النوع من العنف، شكله لطيف وغير محسوس، أيضًا هو غير مرئيّ بالنسبة إلى من تقع عليهم هذه السلطة. فنلاحظ، أنّ السلطة الرمزيّة، تستند عنده دومًا، إلى أسلوب التورية والاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقّق تأثيرها المفترض، وتنفيذها بشكل فاعل وإيجابيّ، إلاّ من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه، من طرف أغلبيّة الناس المعنيّين بها، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهميّة، ولا يعترفون بها. يقول “بورديو” بهذا الصدد: “إنّ السلطة الرمزيّة هي سلطة لا مرئيّة، ولا يمكن أن تمارَس، إلاّ بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنّهم يخضعون لها، بل ويمارسونها”.
فتأثير السلطة الرمزيّة يكون أعمق وأخطر، لسبب بسيط، يتمثّل في كونه يستهدف أساسًا البنية النفسيّة والذهنيّة للمتلقّين لها، وبالتالي فهي – أي السلطة الرمزيّة – تمارس فعلها العميق، وتخطّط من أجل فرض وتحقيق الأهداف المرسومة والمتوخّاة.
سلطة الوعي: على هذا الأساس يمكن الجمع بين التصورات الثلاثة فسلطة الوعي تتشكل من خلال سلطة العقل لكم دون أن تعطى له صلاحيات التنفيذ، فدوره هو بلورت ورسم السياسات والاستراتيجيات، وهذا ما أصبحت تعمل به الدولة ذات السيادة، فحكام الدولة لا يتخذون القرارات إلا بعد الرجوع إلى هيئة خاصة به مكونة من مفكرين مختصين مارسوا العمل الاستراتيجي والميداني من داخل مهامهم بمراكز الدراسات والأبحاث، على أن تقوم مؤسسات الدولة بمهام سلطة الهيكلة والتنظيم لخلق وحدة النظام، وسلطة التأثير في تسخير الوسائل والآليات لتحقيق العدالة الاجتماعية.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب