«بين النية الحميدة والاختراق الأمني: قراءة نقدية في قافلة “الانطلاق البرّي نحو رفح”»

رامي زُهدي – سياسي مصري عربي
في التاسع من يونيو 2025، انطلقت قافلة ضخمة من تونس، ضمّت أربعة عشر حافلة وأكثر من مئة مركبة خاصة، في محاولة للعبور برياً من الأراضي الليبية باتجاه الأراضي المصرية، بهدف التوجه إلى معبر رفح الحدودي، لإدخال مساعدات و”كسر الحصار” المفروض على قطاع غزة، وفق ما أعلن منظمو المبادرة. وانضم إلى القافلة مشاركون من الجزائر وموريتانيا والمغرب وليبيا، وكان في صفوفها عدد من النشطاء والصحفيين والأطباء والمحامين، ما يعكس نظرياً صورةً إنسانية نبيلة لتحرك شعبي عربي تضامني مع مأساة غزة.

اقرأ أيضا: رامي زهدي يكتب.. «مادلين.. حين تُقتل روح الإنسانية في عرض البحر”»
غير أن ما بدا على السطح تعبيرًا عاطفيًا عن وحدة الضمير العربي، سرعان ما تكشفت خلفه عدة ثغرات أمنية ومخاوف سيادية، تشير إلى أن التحرك جرى دون الحد الأدنى من التنسيق السياسي أو الأمني مع الدول المعنية، وعلى رأسها الدولة المصرية، التي تتحمّل العبء الأكبر على الأرض فيما يتعلق بالملف الفلسطيني.
“تحرك بلا تنسيق: خطر على السيادة المصرية”
أولى الإشكاليات الفادحة في هذا التحرك كانت غياب التنسيق المسبق مع القاهرة. فالقافلة لم تتقدم بطلب رسمي للدخول إلى مصر، ولم يتم الإعلان عن أي تواصل مباشر مع السلطات المصرية. ومع أن منظمي القافلة تحدثوا عن “تطمينات” من داخل ليبيا بشأن السماح بالعبور، فإن هذه التطمينات لا تحمل أي قيمة سياسية أو قانونية، طالما لم تصدر عن الدولة المصرية نفسها.
إن دخول أي مجموعة حاشدة، مدنية كانت أو رمزية، عبر الحدود الشرقية لمصر من اتجاهات غير مُصرّح بها أو غير مؤمّنة، هو في حقيقته اختراق أمني بالغ الخطورة، ويُعد انتهاكًا واضحًا لسيادة الدولة المصرية، التي تخوض معركة صعبة على بوابة رفح، وتعمل على مدار الساعة لمنع تنفيذ المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تفريغ غزة وتهجير سكانها نحو سيناء.
“منطقة رفح: ساحة حرب لا ساحة رمزية”
ما يغيب عن كثير من الحالمين بالحشود الرمزية أن منطقة رفح الحدودية لم تعد مجرد نقطة عبور؛ إنها ساحة عمليات عسكرية نشطة. منذ أكثر من عام، والمنطقة تشهد تحليقًا مستمرًا للطيران الإسرائيلي، وقصفًا متقطعًا على الجانب الفلسطيني من المعبر، مع وجود تهديد دائم لأي تجمع مدني كبير بالقرب من المنطقة.
إن دخول مثل هذه القافلة إلى رفح، ولو لأغراض إنسانية، يعرض حياة المشاركين للخطر الفوري. فبأي ضمانات سيتم تأمين المئات في منطقة عمليات نشطة؟ ومن سيتحمّل مسؤولية أرواحهم إن قررت إسرائيل كعادتها استهدافهم؟ وهل تتحمل مصر أي مخاطرة يمكن أن تؤدي إلى جرجرة المنطقة نحو صراع إقليمي؟ وهل من الحكمة أن يُفتعل وضع قد تجد فيه القاهرة نفسها أمام فرض أمر واقع تم تمريره بلا موافقتها أو علمها؟
“قافلة بلا خيارات واضحة.. ومخاطر محتملة عديدة”
إذا افترضنا جدلاً أن القافلة تمكنت من دخول الأراضي المصرية، فإنها ستصطدم بجملة من المخاطر والتبعات، أبرزها:
خطر الاستهداف الجوي الإسرائيلي لأي تحرك جماعي غير منسق في محيط المعبر، ما قد يسفر عن سقوط ضحايا مدنيين ويحوّل المشهد إلى فوضى دموية قد تدفع بمصر إلى مربع الحرب أو الانقسام الإقليمي.
حالة الارتباك السياسي التي ستنشأ فوراً، سواء داخل مصر أو على مستوى علاقاتها مع الدول المرسلة للقافلة، والتي ربما لن تستطيع لاحقًا تقديم أي دعم سياسي أو دبلوماسي إذا تفجرت أزمة حقيقية.
فتح باب الاستغلال الإعلامي لتصوير مصر كجهة مانعة أو متخاذلة، بينما الحقيقة أن أي دولة ذات سيادة تحرص أولاً على أمن حدودها وعلى تنظيم التحركات العابرة لأراضيها بموجب القانون، وليس العواطف.
“كان بالإمكان أفضل من ذلك.. وأضمن”
المؤسف أن منظمي القافلة لم يختاروا أحد البدائل المنطقية الأكثر فاعلية وأمناً، ومنها، التنسيق الرسمي مع مصر عبر القنوات الدبلوماسية، سواء من خلال وزارات الخارجية أو الهلال الأحمر، وهو الإطار الذي يسمح بترتيب أي تحرك شعبي أو رمزي ضمن خطة واضحة تحفظ السيادة وتراعي الأمن العام.
واستخدام المعابر البحرية أسوة بتجربة “أسطول الحرية” الذي تحرك عبر البحر، وكان له غطاء دولي وشعبي عابر للقارات، مع وجود مرافقين رسميين وأعلام الأمم المتحدة، وهو ما وفر للقائمين عليه مظلة حماية نسبية، حتى مع اعتراض إسرائيل له لاحقًا.
أو، التوجه إلى معابر أخرى مثل كرم أبو سالم أو بيت حانون، أو حتى تنسيق قوافل نحو الضفة الغربية، وهي طرق أقرب فعليًا إلى قطاع غزة، وأقل حساسية أمنية بالنسبة لمصر وللمنطقة.
وكذلك، كان يمكن كبديلاََ، تنظيم فعاليات رمزية داخل العواصم العربية، كاعتصامات أمام البرلمانات، أو مسيرات جماهيرية أمام السفارات الأجنبية، بما يوجه الرسائل المؤثرة دون تعريض الأمن العربي للخطر أو خلق صدام مع دولة شقيقة.
“المعادلة الأخطر: نوايا نبيلة تتحول إلى أداة ضغط خفي”
يبقى السؤال المشروع: لماذا تم اختيار طريق محفوف بالمخاطر، وبلا تنسيق واضح؟ لماذا لم تتحرك هذه القافلة عبر أسلوب أكثر عقلانية وتنظيماً؟ أليس من المنطقي أن يتم ترتيب مثل هذا التحرك مع دول المشاركين فيه أولاً، ثم مع مصر، بما يحفظ الأهداف ويمنع التصعيد؟ أم أن خلف هذه القافلة أجندات خفية تريد وضع مصر في مرمى نيران الأزمة، أو توريطها في معركة إقليمية في توقيت حساس؟
ولعل تكرار سيناريوهات مشابهة، مثل محاولة قافلة جزائرية قبل أشهر الدخول إلى غزة، ورفض السلطات المصرية السماح لها بالعبور، يكشف عن وجود نمط من التحدي المنهجي الذي يتجاوز البعد الإنساني. وقتها انتظر المشاركون أيامًا في بورسعيد، ثم عادوا دون عبور، لأن الدولة المصرية لا تفتح أبوابها بالفوضى، ولا تتعامل مع السيادة بمنطق الضغط الجماهيري.
أخيراََ
“التضامن لا يكون بالمخاطرة.. بل بالحكمة”
إننا إذ نقدّر كل روح عربية تحمل وجع غزة في وجدانها، فإننا نؤمن أن التضامن لا يعني التخلي عن التنظيم، ولا يبرر تجاوز سيادة الدول. فمصر التي فتحت أبوابها لعلاج المصابين، وأرسلت آلاف الأطنان من المساعدات، وتحركت على أعلى المستويات لوقف المجازر، لا تحتاج لمن “يقتحم” بوابتها بحسن نية أو بسوء نية.
إن المعركة الحقيقية ليست في صورة قافلة، بل في صمود سياسي طويل النفس، وتنسيق عربي مشترك، يفرض الحماية الدولية لأهل غزة، ويمنع التهجير القسري، ويدفع إسرائيل إلى الرضوخ للحق، لا إلى استغلال أخطاءنا وسذاجتنا.
فلنحذر جميعًا من أن تتحول النوايا الطيبة إلى ألغام سياسية، تُزرع في أرض الشقيقة الكبرى، وتُستخدم لاحقًا ضدها. فمصر ليست بوابة سهلة لمن يريد كسر الحصار؛ بل هي السدّ المنيع الذي يمنع ضياع فلسطين.