د. فاطمة الزهراء جيل تكتب.. القضية السكانية- أسباب وحلول
الكاتبة خبير سكان ومدير مشروع تسريع الاستجابة المحلية للقضية السكانية
أرى دائما الإيجابيات في كل شيء ومنذ بداية عملي في القضية السكانية منذ ما يقرب من سبعة وثلاثين عاما أي منذ تخرجي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – قسم الإحصاء وأنا أرى أن الزيادة السكانية ثروة بشرية مهمة، وسوف تصبح معرقلة لجهود التنمية فقط إذا لم نحسن استخدامها والاستثمار فيها. وان تنمية الإنسان سوف تحقق المعادلة الصعبة وهي التوازن بين معدلات النمو السكاني والنمو الاقتصادي، وان مواليد اليوم هم شباب الغد وقوة البلد البشرية وأننا بالفعل لدينا هبه ديموغرافية إن لم نحسن توظيفها جيدا وبصورة تتلاءم مع احتياجات سوق العمل فسوف تتحول الهبة من نعمة ربنا منحها إلينا إلى نقمة نعاني منها أبد الدهر. لازلت ادافع عن رأي وموقفي حتى الآن وأرى أن حل المشكلة السكانية هي التنمية وأهمها التنمية في العقول والصحة والدخل وإن حدثت هذه التنمية فسوف نحقق الاثنين في آن واحد بمعنى خفض الزيادة السكانية ورفع معدلات التنمية الاقتصادية.
يعتبر البشر ثروة ومورد هام لزيادة الإنتاج وتحقيق نمو اقتصادي لأي دولة في العالم، ولكن متى نعتبر سكان هذه الدولة ثروة حقيقية. إذا كانت هذه الدولة تحقق معدلات نمو اقتصادي أربع أضعاف النمو السكاني بمعنى أن كان معدل النمو السكاني ٢ لكل ١٠٠ من السكان في السنة فلابد أن تحقق الدولة معدل نمو اقتصادي يفوق ٨٪ في السنة، وكيف تتحقق هذه المعادلة الصعبة. تتحقق بأن يتحول كل من هم في قوة العمل إلى قوة منتجة فعليا، وهذا بدوره يتحقق إذا كانت هناك قدرات ومهارات تلائم سوق العمل والاحتياجات المطلوبة، بمعنى أن يتيح التعليم تلك المهارات اللازمة لاحتياجات سوق العمل من خلال الاستثمار في قدراته وتوجيه التعليم ليتلاءم مع متطلبات سوق العمل الحديث والأخذ في الاعتبار التقدم التكنولوجي السريع وما يتطلبه من مهارات وقدرات تواكب متطلبات العصر، إضافة على ذلك عندما تكون الدولة قادرة على تقديم خدمات صحية ذات جودة عالية تساعد في التحسن المستمر في مؤشرات توقعات الحياة بمعني أن المواطن في هذا المجتمع يعيش سنوات أطول، وانخفاض مستمر في مؤشرات الوفيات وخاصة الرضع. ولكن ومع المستويات المرتفعة من الإنجاب فإن هذا يعني زيادة في الاستهلاك والعبء الاقتصادي الذي يقع على الفرد والمجتمع ويقاس بنسب الإعالة بالمجتمع بمعني زيادة عدد الأفراد خارج سن العمل الذي يعولهم الفرد في قوة العمل سواء يعمل أو لا يعمل ويزداد هذا العب في حالة وجود نسب للبطالة.
ويتضح العبء على الدولة في اهتمامها بتوفير الغذاء والمدارس والمواصلات والمستشفيات ️والأطباء والمساكن والطرق والكباري والمياه والكهرباء والغاز وغيرها من الخدمات الأساسية للمواطن. وفي هذه الحالة على المواطن أن يتحمل نتيجة سلوكه الإنجابي غير الرشيد والبديل أن ينجب العدد المناسب من الأطفال ليتمكن من تعليمه تعليم جيد ويستثمر في قدراته ليصبح قوة منتجة تساهم في تحسن المستويات الاقتصادية للبلد ومن ثم المستويات المعيشية للمواطن.
وقد أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية والمسوح القومية أن هناك علاقة عكسية بين المستوى الاقتصادي للأسرة ومعدلات الإنجاب، ولكن هذا لا يعني أن تحسين المستوى الاقتصادي فقط هو الذي يؤدي إلى تغيير رغبات الأسر تجاه رغباتها الإنجابية. ولكن هذا لابد أن يصاحبه تقديم معلومات ورفع الوعى لتغيير طريقة افكار الأسر تجاه العدد المرغوب فيه من الأطفال، وتمكينهم لاتخاذ التدابير والقرارات الرشيدة في حياتهم تجاه الاستثمار في أولادهم وتنمية قدراتهم ومهاراتهم في ضوء ظروف الأسرة والدولة، وتغيير الفكر تجاه تفضيل الذكور والعادات والتقاليد المغلوطة والأفكار الدينية الخاطئة تجاه كثرة الإنجاب وزواج وعمالة الأطفال، وتشجيع الأسر والأطفال على الاستمرار في الالتحاق بالتعليم للقضاء على الأمية، وتشجيع ريادة الأعمال ورفع مساهمة الإناث في سوق العمل وخاصة المرأة الريفية لتواجه التغيرات الاقتصادية والبيئية التي قد تؤدي إلى عبء اقتصادي وصحي كبير عليها.
وإذا أردنا نتعرف أكثر على القضية السكانية فيمكننا القول كما سبق بأنها ليست قضية عدد السكان، ولكنها قضية جودة السكان ووجود قوة بشرية متعلمة مثقفة وواعية ومنتجة ترفع من شان اقتصاديات الوطن ليتوازن النمو السكاني مع النمو الاقتصادي فتتحسن مستويات المعيشة. كما أنها أيضا قضية انتشار في الأرض وتعمير المساحات التي منحها الله لنا لتسع السكان وتنخفض الكثافات المأهولة ويقل الزحام في الشوارع والكثافات في الفصول والمستشفيات وغيرها من الخدمات التي نحتاجها لتستمر حياتنا، القضية السكانية هي أيضا قضية التفاوتات في مستويات التنمية والخدمات المقدمة في المناطق الجغرافية المختلفة مما يؤدي إلى انخفاض المؤشرات ذات العلاقة بالقضية السكانية في تلك المناطق دون غيرها وهو ما ينعكس بالتأكيد على المؤشرات القومية، وكذلك يؤدي إلى الزحف العمراني لمناطق كثيفة الخدمات وذات الجودة العالية، والحل هو القضاء على هذه الفجوات التنموية والارتقاء بالبنية التحتية وجودة الخدمات في المناطق ذات الأولوية وهو ما تقوم به الدولة حاليا من خلال برنامج حياة كريمة. وأحب ان أؤكد أننا على الطريق بفضل مجهودات الحكومة الواعية المستنيرة.
إذن الخلاصة في أن بناء الإنسان المصري بناءا كاملا من كافة النواحي العلمية والسلوكية وتغيير أنماط حياته واتجاهاته وأفكاره ورؤيته للأمور ومستقبله ومستقبل أولاده لمن الأهمية للحفاظ على ما يتم من مجهودات تقوم بها الدولة لتحسين مستويات المعيشة وتحقيق حياة كريمة للمواطن.
وأنتهز الفرصة هنا لطرح أسلوب للعمل المؤسسي ومنهجية تعتمد على اللامركزية في وضع السياسات والبرامج السكانية التنموية لتصبح مسئوليه كل محافظة ومركز وحي وقرية، حيث التعامل مع المشكلات المؤثرة على النمو السكاني والخصائص السكانية والبيئية بصورة مباشرة وغير مباشرة وتحليل أسبابها واقتراح الحلول بالاستعانة بالحوار المجتمعي والدراسات والأبحاث المتاحة بالتعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث الإقليمية.
إن هناك ضرورة لوضع الأهداف السكانية للنمو السكاني والخصائص السكانية على أدنى مستوى محلي، ومراقبة التنفيذ من خلال قوة عمل سكنية بالمحافظة مؤهله ومدربه على إدارة البرنامج السكاني والمساعدة أيضا في إزالة ما يعيق التنفيذ، فالقضية السكانية لا تحل من المكاتب ولكنها تحل من على أرض الواقع. وهذا بالفعل يتم حاليا من خلال مشروع تسريع الاستجابة المحلية للقضية السكانية والذي أتولي إدارته بوزارة التنمية المحلية منذ عام 2019 حيث تم تأسيس 22 وحدة سكان في 22 ديوان محافظة لإدارة البرنامج السكاني من خلال رصد المشكلات والتنسيق لحلها ومتابعتها وذلك بقوة عمل سكانية تقدر ب 4200 منسق سكان بالقري والمراكز والأحياء والمديريات وممثلين من الشباب المتطوع داخل اللجان السكانية بالمراكز وكذلك منسق مسئولية مجتمعية لتفعيل دور القطاع الأهلي والخاص
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أهم تحدى يواجه عملية المتابعة والتقييم للقضية السكانية على أدني المستويات المحلية هو عدم إتاحة الكثير من المعلومات الهامة لقياس النمو السكاني والخصائص السكانية وفجوات التنمية. إن صياغة محددة للأهداف ومقاييسه وواقعية وقابلة للتطبيق خلال فترة زمنية محددة لن يتحقق إلا من خلال إتاحة المعلومات والمؤشرات الكمية بجميع قرى ومراكز ومدن وأحياء المحافظات وبناء منظومة متابعة وتقييم للمؤشرات حتى أقل وحدة محليه مما يمكننا من متابعة الأداء بصورة دورية وتحديد المؤشرات التي تعوق تلك الأهداف والعمل عليها.
إن الشفافية المطلقة بداية من توافر بيانات ومعلومات تساعد في تحديد المشكلات وأسبابها وتحليل المتأثرين بها والمسئولين عنها، ووضع الخطط ومتابعتها وتقييمها ووجود إطار مؤسسي متكامل ومتعاون يعد من العوامل الهامة جدا لحل كثير من المشكلات السكانية وهذا ما يسمى بحوكمة ملف السكان.
كذلك الحشد المجتمعي وتفعيل دور المجتمع المدني لتعبئة جميع موارد المجتمع لدعم وكسب تأييد القضية السكانية والتي تحل بزيادة الطلب على تنظيم الأسرة وتبني مفهوم الأسرة الصغيرة وتنمية العقول وتوفير المعلومات والمعرفة للأفراد التي تسمح باتخاذ قرار مسئول تجاه صحته الإنجابية وصحة الأسرة وحياته عموما والقضاء على الإنجاب المتكرر ، وزواج القاصرات وعمالة الأطفال والإجبار على استمرار الأبناء بالتعليم الذي يمكنهم من حصولهم على فرص عمل ملائمة لرفع مساهمة المرأة والشباب في الأنشطة الاقتصادية المختلفة والقضاء على الأميه جدير بتحسين مستويات المعيشة وتحقيق معدلات تنمية اقتصادية تتلاءم مع الزيادة السكانية التي لن تتوقف إلا بعد أن تصل رغبه جميع الأسر في إنجاب طفل واحد أو طفلين على الأكثر مما يعد تحدي كبير يجعلنا نفكر في كل الاتجاهات، كيف نحد منها وكيف نواجهها.
ليس حل القضية السكانية هو توفير وسائل تنظيم اسره بالمجان فقط او إجبار الأسر على تحديد عدد الأطفال سواء من خلال حوافز إيجابية او سلبية، القضية قضية خلق الطلب على هذه الوسائل بناء على رغبه حقيقيه تولد لدي الأسرة في الاكتفاء بطفلين أو طفل واحد وتكون نابعة من قناعة ذاتية. وهذا من وجهة نظري لن يتأتى إلا بعد سنوات وسنوات من التنمية البشرية والتي أساسها الدخل والتعليم والصحة، وهذا يتجلى فيما تقوم به الدولة حاليا تجاه تنمية الأسرة المصرية من خلال المشروع القومي لتنمية الأسرة. إن وضع سياسات قوية للقضاء على الأمية خلال عام ليس بالصعب، ووضع ضوابط لضمان الالتحاق بالتعليم والاستمرار فيه حتى اكتساب المهارات والقدرات المطلوبة لسوق العمل، والتدريب على التعليم المهني ريادة الأعمال وخلق فرص لزيادة مستويات دخل الأسرة وتحسين الحالة الاقتصادية للشباب والمرأة ولكبار السن سوف يكون له بالغ الأثر على مدى ليس ببعيد في خفض معدلات الإنجاب. إن ارتفاع معدلات الإنجاب ترجع غالبا إلى الجهل والاستسلام للمفاهيم الخاطئة والعادات والتقاليد والموروثات والقيم الدينية المغلوطة، وعدم الأمان لدي كبار السن، وحلها التعليم ورفع الوعي المستمر وتأمين كبار السن اجتماعيا واقتصاديا.
حيث يلجأ البعض إلى الإنجاب رغبة في العزوة والتأمين الاقتصادي والاجتماعي عند الكبر. وايضا ترتفع معدلات الإنجاب غالبا في المجتمعات الفقيرة التي ليس لديها ما يجعلها قادرة على أن تستثمر في أبنائها فيصبح الإنجاب بالنسبة لهم أرخص من تعليم الأبناء. كذلك تسرب الأبناء من التعليم يخلق مجتمع أمي جديد غير قادر على أخذ قرارات مسئوله تجاه حياته، وغالبا تتزوج البنات في سن صغير ويصبح لديها متسع من الوقت لإنجاب مزيد ومزيد من الأطفال وطبعا منهم من يتوفى وهو رضيع أو حتى قبل ولادته، وهي كذلك معرضه لخطر الوفاة لصغر سنها وعدم قدرتها البيولوجية على تحمل مضاعفات الحمل والولادة. وقد أظهرت كثير من الدراسات ارتفاع في نسب وفيات الأمهات أقل من ٢٠ عاما وأن أعلى معدلات وفيات رضع وفقد أجنة بين الأمهات صغار السن. كذلك أظهرت الدراسات أن أعلى معدلات إنجاب بين السيدات التي تتعرض لوفيات أطفال رضع وفقد اجنه مقارنة بغيرهن من السيدات.
الخلاصة لحل كل مشكلاتنا علينا ان نحدد الأسباب اولا ونضع الحلول الملائمة في المدى القصير والمتوسط والطويل الاجل محدد بتوقيتات زمنية وأهداف نستطيع قياسها لمتابعتها ومعرفة مدى التقدم والنجاح.
ونخلص مما سبق أن التعامل مع القضية السكانية يقتضي نوعين من التدخلات
اولا:تدخلات طويلة المدى لتحقيق التنمية المستدامة
1- بناء الانسان بربط التعليم بسوق العمل لتوفير فرص عمل جيدة. مما يحقق الامن الاقتصادي، والاهتمام بريادة الاعمال والتعليم الفني كإنشاء وزارة خاصة به تضع له إستراتيجية واضحة.
2- توعية تتطلب وضع استراتيجية اعلامية واعية تتبنى القضية السكانية وبناء الانسان المصري وعودة القيم والمبادئ والهوية والمواطنة والحث على قيمة العمل.
ثانيا: تدخلات عاجلة
ترتكز على حوكمة الملف السكاني من خلال
1- -بناء منظومة معلوماتية للمتابعة والتقييم حتى أدني مستوى محلي.
2- بناء إطار مؤسسي حتى مستوى القرية قادر على رصد المشكلات وتحديد الاسباب ووضع خطط لتدخلات عاجلة ومبادرات بالتنسيق مع كافة الشركاء والمجتمع المدني.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب