سعى الإنسان منذ بداية وجوده حفظ أمنه وضمان سلامته وتحقيق سعادته، فكانت وسيلته في ذلك تنمية تفكيره، لحل المشاكلات وتجاوز الإكراهات؛ فالإنسان في مراحل حياته المختلفة يتطور في جوانبه المتعددة، وهذا التطور يختلف من إنسان لآخر، حسب العناية التي تلقاها، فكلما تكاملت العناية ظهرت الشخصية المتكاملـة، ثم إن هذه التنمية الفكرية أو التربية العقلية لم تأت بصورة توجيهات وأوامر فقط، بل تمثلت عمليا في قواعد وأساليب وطرق وإجراءات ومناهج متنوعة تسعى للرقي بالعقل وكفاءته. والتفكير الذي هو لب التربية العقلية وجوهرها والذي يتمظهر على شكل قواعـد وأسـاليب ومناهج يحتاج إلى تنمية من خلال الممارسة والتدريب، يقول دي بونو، إدوارد في كتابه تعليم التفكير: ” ذلك أن التفكير مهارة واسـعة فهـي تشمل معرفة كيفية التعامل مع المواقف والخواطر والأفكار والمفاهيم واتخاذ القـرار والبحـث عن الدليل والابتكار، إلى غير ذلك من الجوانب . ”
- اقرأ أيضا: المشروع الحضاري التربوي.. «دراسة»
والحقيقة العلمية أنه لم توضع لحد الآن نظرية متكاملة عن تنمية التفكير “كمشروع قيادة حكيمة ودولة اجتماعية” يهدف إلى بناء أمة وصناعة حضارة، وليس هناك برنامج واضح متفق عليه لتنمية التفكير، وإنما هناك آراء مختلفـة حـول أساليب تنمية التفكير، فيرى بعض التربويين أن هذه المهارة يمكن تنميتها عن طريـق تفاعـل عقل المتعلم مع المعلومات، وأن كل الموضوعات الدراسية تثير التفكير، فيما يرى آخـرون أن توجيه الإنتباه والإدراك والقدرة على الفهم هي من أهم الأمور في تعليم التفكير.
مخططنا المنهجي هو تناول هذه القواعد والأساليب من خلال مجالات ثلاث: السياسي؛ التربوي؛ الاجتماعي. وسنشرع بتناول أول قاعدة في تنمية التفكير في الجانب السياسي اسهاما في التخطيط الاستراتيجي؛ فالبناء الحضاري وسعيا للرقي الحكيم والمحكم يسبقه فهم شامل لكل جوانب الحياة تحقيقا للسعادة واستدامة العيش الكريم وحفظا لكرامة الإنسان.
قاعدة إثارة الدافع للتفكير في الجانب السياسي
تعرّف السياسة لغةً بأنها عبارة عن معالجة الأمور، وهي مأخوذة من الفعل ساسَ ويسوس، وهي على مصدر فعالة، أما اصطلاحاً فتعرف بأنها: “رعاية كافة شؤون الدولة الداخلية، وكافة شؤونها الخارجية”، وتعرف أيضاً بأنها: “سياسة تقوم على توزيع النفوذ والقوة ضمن حدود مجتمع ما”. وتعرف كذلك بأنها: “العلاقة بين الحكام والمحكومين في الدولة”، وعرفت أيضاً بأنها: “طرق وإجراءات مؤدية إلى اتخاذ قرارات من أجل المجتمعات والمجموعات البشرية”، وقد عرفها هارولد بأنها: “عبارة عن دراسة السلطة التي تقوم بتحديد المصادر المحدودة”، وعرفها ديفيد إيستون بأنها “عبارة عن دراسة تقسيم الموارد الموجودة في المجتمع عن طريق السلطة، أما الواقعيّون فعرفوها بأنها:” فنٌّ يقوم على دراسة الواقع السياسي وتغييره موضوعياً”.
ومن مجموع ما ذكر وتلخيصا له يمكن القول أن السياسة: ” منهج فكري يقتضي التسير والتدبير، المحكم بقوة السلطة لرعاية مصالح المجموعات البشرية وحفظ أمنها الداخلي والخارجي”.
والسياسي هو المالك المتصرف للإصلاح والتربية ..له منهج فكري ينبني على ضوابط أصيلة في التسير والتدبير، يملك الشيء لا يتركه هملا إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه بالتربية في مواجهة المشكلات والمعضلات. مع ما يتضمنه من العطف والرحمة، ليحقق الأمن الروحي، مع توفير وسائل الدفاع عن حدود المجتمع البشري عسكريا. فكان أساس السياسة هو معرفة قاعدة اثارة التفكير مفهوما وتوظيفا. وسنعمد إلى تحرير القول في إثارة الدافع للتفكير سلبا لما لهذا الأمر من خطورة على تماسك بنيان الدولة الاجتماعية.
إثارة الدافع للتفكير سلبا : عموما كانت المؤثرات سواء الداخلية (النفسية أو الوجدانية) او الخارجية (السلوكية أو الظواهر ) دافعا إلى عمل التفكير اما بالفهم أو التحليل لايجاد الحلول أو التكييف مع الأوضاع هذه العملية تنتهي بنتيجة هي تحقيق المصلحة سواء عامة أو خاصة والنتيجة هي التي تحدد نوع اثارة دافع التفكير سلبا أو ايجابا فاذا كانت النتيجة المرادة تحقق مصلحة فردية مع وسيلة تفكير يطبعها الخبث والفساد النفسي والخيانة على حساب المصلحة العامة فإننا نكون أمام إثارة الدافع للتفكير سلبا نموذجه في الممارسة السياسية كنموذج تعليمي على اعتبار على اعتبار أن الحوادث والوقائع السياسية تتغير بتغير المكان وتوالي الأزمان لكن القواعد والأساليب هي ثابتة، العلم بها أساس القيادة الحكيمة .
خيانة ابن العلقمي والتي تعد أكبر خيانة في تاريخ الحكم العباسي كمستشار للخلفية العباسي المستعصم بالله وسقوط الدولة العباسية.
ابن العلقمي وخطة إسقاط الخلافة باستعمال قاعدة إثارة الدافع للتفكير سلبا
الدافع في الغالب يتحدد في العصبية سواء أكانت مذهبية أو طائفية، دافع ابن العلقمي أنه حدثت مناوشات بين أهالي الكرخ وأهالي البصرة وكان الصراع على أساس طائفي فأهل الكرخ كانوا شيعة، وأهالي البصرة كانوا من السنة وكان عند المستعصم بالله وزيرين أحدهما سني وهو الدويدار والآخر شيعي وهو ابن العلقمي ورأى الوزير الدويدار أن أهالي البصرة على حق ورأى ابن العلقمي أن أهالي الكرخ على حق بدأ بينهما الخلاف، انتهى إلى أن نقلوه لابن المستعصم الذي أييد الوزير الدويدار وإنهاء الأمر على ذلك الأساس، وبدأ هولاكو يدخل اراضي الدولة العباسية، لكن المستعصم لم يكن رجل دولة، وأتاه وزيره الدويدار وطلب منه إذنا أن يحرك جيش الدولة العباسية الذي كان تعداده حوالي 200 ألف جندي ويخرج به لإيقاف تقدم هولاكو كان الجيش الكبير هو الذي جعل هولاكو لا يفكر في الاقتراب من عاصمة الحكم بغداد لكن المستعصم لم يستجب لطلب الدويدار وأصر على أن يبقى الجيش في بغداد معتبرا أنه ضمان أمنها وسلامتها في حال فكر هولاكو القدوم إليها هنا بدأ ابن العلقمي يفكر كيف يستفيد من قوة هولاكو، وكان انتماء ابن العلقمي الطائفي دافع لإثارة التفكير في تحقيق هدفه أن يصبح حاكما وينتقل من مستشار إلى سلطان؛ فأرسل ابن العلقمي الرسائل إلى هولاكو يدعوه إلى دخول بغداد فأجابه يسأله عن كيفية دخول بغداد وفيها تلك الجيوش الكبيرة، وبدأ ابن العلقمي في تفعيل اثارة دافع التفكير سلبا كقاعدة فعلها من خلال ثلاث أمور سنعرضها لنستخلص أهم جوانب التدبير السياسي والعبر المستفادة للتنزيل والتطبيق على اعتبار أن الحوادث والوقائع السياسية تتغير بتغير المكان وتوالي الأزمان لكن القواعد والأساليب هي ثابتة، العلم بها أساس القيادة الحكيمة عند بناء الدولة الاجتماعية.
وكانت المراحل الثلاث لترجمة اثارة دافع التفكير سلبا هي:
أولا إضعاف الجيش (خلخلت القوى الداخلية): حيث قطع من أرزاق العسكر، وسعى في تقليل النفقات على الجيش، وهذا ما يؤكده ابن كثير بقوله: “وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف”. بمعنى أن حكمة وحكامة السياسة هي زيادة القوة العسكرية ليس فقط في عدد الجند والعتاد بل زيادة وشحد همم الجند وأن تكون لهم عقيدة، فلا ينفع سلاح مهما بلغت قوته، وحامله مهزوم نفسيا ووجدانيا. فالذي كان يمنع هولاكو من دحول بغداد هو تعداد الجيش الذي كان يحمي بغداد مركز الخلافة العباسية وسعى ابن العلقمي عن طريق استغلال ضعف حنكة المستعصم في الحكم وتبرير موقف تخفيض الجند بداعي استنزاف الرواتب لميزانية الدولة، وهنا تبرز قضية ان اتخاذ القرارات المصيرية يجب ألا يكون انفراديا بل لابد أن يتم داخل منظومة استشارية خاصة بالحاكم أقلها سبع أفراد كل واحد مختص في مجال من مجالات الدولة لهم نفس المنزلة والرتبة عند الحاكم حتى لا يستفرد المقرب بالرأي فيسود رأيه على البقية و قد يحابون المستأثر بالرأي حتى لا يسعى عند معارضته إلى ازاحتهم من مناصبهم، يجمعهم الإنتماء إلى عقيدة ثابتة وبيعة ولاء ودم بعيدين عن تعصب أو تطرف مذهبي أو طائفي.
ثانيا مكاتبة التتار (الخيانة العظمى): وهذا هو الفصل الثاني والمرحلة الثانية من الخيانة العظمى، حيث كاتب ذلك الوزير التتار؛ ليعرض عليهم معونتهم في اقتحام بغداد وإسقاطها، وأمدَّهم بما يحتاجونه من المعلومات. ويحكي ابن كثير عن ذلك قائلاً: “ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال”.
والعجيب ان كثير من الدول تسعى إلى تقوية استخبارتها الخارجية لصيد الخونة في حين أن خونة الداخل هم اكثر تهديدا لأمن الدولة خاصة اذا ولوا مناصب سلطة كعمال أو ولاة أو رؤساء مصالح والخيانة في تعريفها هي الافساد والفساد بتحقيق المصالح الذاتية بجمع الثروات وعدم التفاني في تحقيق السلم والأمن الاجتماعي، ويزداد الأمر سوءا ودمارا عندما لا تفعل آلية المحاسبة والمتابعة القانونية، وكمثال بارز عن دور المحاسبة في تحقيق العدالة والتي هي معيار استقرار أي جماعة مهما كان معتقدها أو انتمائها ، ما دام القانون يسير على الجميع بلا استثناءات ليبرز مفهوم الوحدة الاجتماعية فرئيس الوزراء الأسبق ايهود أولمرت في عام 2009 اكتشف الادعاء العام أنه تلقى رشوة عندما كان رئيسا للبلدية، واستمرت قضيته أمام المحاكم حتى عام 2016، حيث صدر حكم بسجنه وتغريمه مبلغ الرشوة، خيانة الأمانة هي السبب الرئيس في هدم الأمم، وحماية أمن الدولة من هذا الخطر يقضي اقرار مبدأ اقتران تولي المسؤولية بالمحاسبة ولا وجود لحصانة وامتياز خاص عند من تولى أمانة التسيير والتدبير، والحاكم الحازم من فرض عقوبة الزجر والردع على من خان ولم يحفظ جانب الثقة الموكولة إلى المسؤول الخائن وتفاديا لضرر الذي يلحقه امثال ابن العلقمي، وجب العلم أن الخونة على مر الزمان يظهرون الصلاح ويضمرون الفساد ويعلم حالهم بنوع الأفكار التي يطرحونها، فإثارة دافع التفكير السلبي تكشفهم وبالتالي يسهل اصطيادهم .
ثالثا النهي عن قتال التتار وتثبيط الخليفة والرعية (نهج سياسة شل العزيمة):
كل فكرة فيها منع وشل للعزيمة وتراخي الهمم كالقبول بالمهانة والاستسلام والتفريط في شبر واحد من أرض الوطن فذاك نتاج اثارة دافع التفكير السلبي، الهزيمة والفشل سيلحق الدولةإن هي استجابة لنهج شل العزيمة والاستسلام؛ فمن مقومات الدولة العزم والحزم لدود والدفاع عن الحدود وعدم القبول بالهوان والاذلال وهذه القناعة ترى في النفوس وتدرس في النصوص وهي عقيدة لأمة ترفعها الدولة شعارا ويفعلها الحاكم تدبيرا وتخطيطا، فلا يدخل ضمن دائرة المشورة في تسير أمر الأمة من كان خوافا يرضى بالتبعية والخنوع للغير من الدول وابن العلقمي علم ان وحدة الصف في الدفاع عن حوزة الوطن شاحن نفسي ومؤثر سلوكي فعال في تغيير وقلب موازين القوى، وراح يثبط من عزيمة الخليفة في مواجهة ومجابهة التتار، ويقاوم كل من أشار عليه بالثبات في وجههم، وفي ذلك يحكي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية قائلاً: “وأوهم أي ابن العلقمي- الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان” .
استجاب المستعصم لرأي الخائن وكانت النتيجة اعدام الخليفة ومن معه واستبيحت أرض العراق، وهنا نجيب عن سؤال ما مصير ابن العلقمي هل أصبح حاكما؟ لم يقتل هولاكو ابن العلقمي بل جعل الندم والحسرة تقتله أي نفسه ابن العلقمية الخبيث هي من نفدت فيه حكم الموت المرير، فقد أمر هولاكو جنده أن يطاف بابن العلقمي أزقة ودروب بغداد راكبا حمارا، فرجع الخائن إلى بيته يتألم شهورا بتأنيب الضمير الذي فاق بعد فوات الآوان وتحقق الدمار وانهيار حضارة، فمات محسورا مهموما ليسجل في ديوان التاريخ تحت عنوان ابن العلقمي أكبر خائن في التاريخ، فكل من أبكى يتيما ورمل امرأة ومنع محروما وضيق على عيش الناس برفع الأسعار ليكتب أنه من أغنى الناس، تنطق أفواه جماعة البشر أنه ممن خان الأمانة وروع الأمة فيكتبه التاريخ من زمرة ابن العلقمي، فهي عبرة لكل خائن أن توظيف السلطة في قهر الناس لا تجلب إلا التعاسة وأن التلذذ بمتاع الدنيا هي متعة زائلة وأن السعادة هي ادخال الفرح في قلوب الناس؛ فتطمئن النفس وتسكن الروح بما حققت من أمجاد انسانية واجتماعية .
إن قيام الدولة الاجتماعية رهين بمدى الالتزام بقاعدة اثارة دافع التفكير ايجابا، ومجابهة أسس واضرار اثارة دافع التفكير سلبا، وملخص ذلك هو ثنائية الخير والشر، الاصلاح والإفساد، هكذا تتنوع وتتتوزع هذه القاعدة بين قسمين متقابلين، والحكمة والحكامة هي تنقية الوسط الاجتماعي من حاملي دافع اثارة التفكير السلبي من خونة الأمانة والمسؤولية، وتولى الأكفاء ممن يمتلكون دافع عقدي هو الإنتماء للأمة بالقول الرصين والعمل المبين، ولهم ولاء التضحية بالغالي والنفيس لإقرار العيش الكريم لجموع الجماعة البشرية.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب