رأي

محمد جمعة يكتب.. سد تشرين أو الجانب الآخر من الحرية

في محاورة برامنيدس يجادل عملاق الفلسفة اليونانية أفلاطون حول مفهوم المُثُل فما كان يسعى إليه أفلاطون هو إثبات أن المفهوم المجرد للأشياء موجود بغض النظر عن أحقيته الحسية فهو يرى أن الخير أو الحرية موجودين ملموسين هناك في عالم المُثُل هذا العالم الذي لا يستطيع البشر أن يصلوا إليه. وإن إدراك معنى هذه المُثُل متوقف على أولئك الذين يستطيعون أن يجردوا أنفسهم من مغريات العالم الحسي ليصلوا إلى نقاءة الفكرة وهو ما كان رفضاً قاطعاً من قبل الفلاسفة الآخرين فهؤلاء يزعمون أن هذه المفاهيم موجودة فقط في عقولنا وليس في الواقع وإن إدراكه يتطلب تحميله على شيء حسي. والسؤال هنا ماذا لو كان أفلاطون حاضراً لدينا في هذه الأزمنة وماذا لو قرر الذهاب إلى سد تشرين تلك البقعة الجغرافية التي باتت ملتقاً لأولئك الذين يتوافدون عليه يعبّرون عن تمردهم بطرق أستطيقية يرقصون يأكلون ويتسامرون ثم يستشهدون ولكن ليسوا شهداء أستاتيكيين سلبيين إنهم حركيون يضعون علامةً إيجابية للتاريخ القادم إنهم يرفضون كتابة مستقبلٍ لا ينتمون إليه. هذه الأطياف التي لا تملك سوى أجسادها وأصواتها كأسلحة لها والملتقية على مشهد عمومي يعبّرون من خلالها عن حريتهم وبطريقة فيورباخية “نسبة الى فيوربخ” فهم بغعلتهم هذه إنما يجسدون ذاك البعد المثالي لفكرة الحرية. ألم تكن هذه الصورة الواقعية بمثابة شاهدٍ على أكبر انتصارات أفلاطون الفلسفية بمعنى آخر ألم تكن هذه الحالة بمثابة وثيقة يقدمها أفلاطون للفلاسفة المتجادلين معه ودليل على أن مثال الحرية القصوى والملموسة بكل ما تحمله من معنى إنما نعثر عليها هناك.

 

دافع أفلاطون بكل عدّته الفلسفية عن فكرته حول الحرية وإمكانية إدراك البشر له هذه الفكرة التي انتهت به إلى أن يباع بسوق النخاسة لكن هناك ما أغفل أفلاطون عنه وهي لماذا تذهب هذه الجموع من البشر إلى مكان تدرك فيه أن إمكانية أن تستشهد قابلة للتنفيذ أمام تطبيقة همجية لا ترى في الآخر ذواتاً بل مجرد مادة أو موضوع ومن ثم فهم إما مقتولون أو مستباحون أي مهدورين الدم حسب توصيف إغمانين؟ رغم أن موت سقراط قريبٌ جداً من حالة أولئك الشجعان فوق السد ففعل الموت عند كلاهما لا يحمل معنى الإنتحار فرغم أن الإنتحار له بُعد تاريخي أقدم من الشهادة إلا أن المنتحر دائماً ما كان يحمل في جعبته ميلاً عدمياً وهو يرى في الحياة نموذجاً سيئاً لا يحتمل العيش فيه بعكس الشهيد فهو يجد في الحياة كل جماليتها ومن ثم يقدم بشهادته دفاعاً عن هذه الفكرة أي أن الحياة إنما تستحق أن تُعاش، لكن وبالمجمل يستطيع نيتشه أن يعطينا إجابة مقنعة عن سؤالنا فإنسان نيتشه الأعلى الذي مهد له وبشّر به والذي لم يستطيع أن يراه أو يصل إليه هو ذاك الذي بات مدركاً لمعنى الحرية فهو لا يريد أن يعيد إنتاج الإنسان الأدنى هذا الإنسان الهرم والذي كفّى عن خوض مغامرة الحرية إن إنسان نيتشه الأعلى هو من يرفض كل القبليات والصفات والأوهام والماضي التعيس ولا يلتفت إلى مقدار وحشية العدو إنه يريد فقط أن يقفز إلى ماوراء هذا الحاضر التعب ليصنع حريته بنفسه وهو في ذلك كما يقول نيتشه مستعد أن يموت في اليوم ألف ميتة ، لذلك نرى المتوافدون يرددون أكبر إدعاءاتهم والتي هي رفض العودة إلى ما قبل 2011 أي رفض إنتاج الإنسان الأدنى وهم في إدعائهم هذا مقبلون على الموت بكل حرية.

أدرك أوجلان في سجنه أن زمن الإنسان الأدنى الذي نعته بالحيادي واعتبره الشكل الأخير من العدمية فاتحاً الطريق أمام ما وصفه بالمواطن الحر ذاك المتحرر من كل تطبيقات الدولة الجاهزة إن مواطن أوجلان هو من يرفض اصطلاح ما يجب أن تفعل أي التطبيقة الفيزيقية متخذاً المعيش الأنطولوجي “أنا أكون”.

 

إن الضفة الأخرى من الحرية هي القدرة الأقصى لأولئك الراقصين باعتبارهم طبوغرافيين أحرار يقترحون بموتاتهم مشروعاً على القادمين الجدد بمقدورهم أن ينتموا إليه . ومن أجل ذلك تراهم يرددون لجماعات الموت توقفوا حيث أنتم فعلى هذا السد تبدأ الحرية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى