رأي

د. دينا محسن تكتب.. الخطاب الإعلامى حول الأزمة الروسية الأوكرانية

مصطلحات غائبة مفردات متناقضة ومفاهيم مغلوطة

عَلا الصراع الروسي الأوكراني المشهد الدولى، وارتفعت أصوات المدافع في سماء أوكرانيا، وبدأ العالم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يحشد قواه ضد الروس، وكأن أمريكا وحلف الناتو لم يخوضوا مثل هذا النوع من الحروب قبل سنوات فى الشرق الأوسط، ومن ثمّ بدأ أيضاً التجييش الإعلامى لإدارة الأزمة الروسية الأوكرانية إعلامياً.

المعالجة الإعلامية للمصطلحات.. نزاعٌ وليس حرباً أم حربٌ طويلة الأمد!

منذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية وتطور المشهد السياسى وتحوله لمشهد عسكرى، ظهرت أيضاً على الساحة الإعلامية مفردات تحاكى هذا المشهد ومفردات أخرى مناقضة للمشهد، ومصطلحات واقعية ومصطلحات مُأوّلة، وبدأت وسائل الإعلام تنقل العبارات وفقاً لسياستها التحريرية وليس وفقاً لواقع الحدث.

كان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، قد صرّح سابقاً بأنه من المؤسف أحياناً أن تؤدي الاختلافات والتناقضات بين الدول وبعضها، إلى نشوب نزاعات وحروب، مشيراً إلى الحكمة الروسية القائلة “السلام السيئ أفضل من الحرب الجيدة”.

جاء ذلك خلال جلسة مجلس قادة رابطة الدول المستقلة الذي انعقد في عاصمة بيلاروسيا مينسك، منتصف شهر أكتوبر العام الماضى.

وأضاف أنه من سوء الحظ في بعض الأحيان، حيث لا يمكن تجنب الخلافات والتناقضات، وهذا لأمر سيئ عندما تؤدي هذه التناقضات إلى نزاع حاد بين عدد من بلدان.

دينا محسن: الخطاب الإعلامى

ومن هنا بدأت تتبلور خريطة المصطلحات الإعلامية الروسية، والمفردات التى اعتمدت عليها خريطة التناول الإعلامى الروسى للأزمة الروسية الأوكرانية، انطلاقاً من قاعدة السلام أفضل من الحرب، لكن الرئيس الروسى لم يدخّر جهداً لإحلال هذا السلام الذى رفضته أوكرانيا بوازع أمريكى أوروبى.

وساهمت التصريحات الروسية الرسمية فى صياغة المشهد الإعلامى الروسى، حيث التأكيد على مصطلح “الأمن القومى الروسى” وكيفية حمايته والحفاظ عليه، وأن الأزمة الروسية مع أوكرانيا ليست حرباً مفتوحة إنما نزاع مؤقت، يمكن حله عبر الدبلوماسية والضمانات الأمنية، وهذا كان أبرز ما عرضه الإعلام الروسى سواء ما قبل الاشتباك العسكرى أو بعد الاحتدام العسكرى ما بين روسيا وأوكرانيا.

كما أكد أيضاً الاتحاد الروسي فى خطابه، على أنه لطالما طالب بالحوار البناء بشأن وضع حقوق الإنسان في أوكرانيا، خاصة أوضاع الروس هناك، ولم يبال أحد بطلبه.

لكن الأطراف الإعلامية الأمريكية الأخرى لم تحاول تهدئة نبرة الخطاب الإعلامى، بل ازدادت هجوماً على روسيا بل وتهديداً لها وللرئيس الروسى مباشرة، والتلويح ليل نهار بالعقوبات ومدى حجمها، ما أدى لتصعيد فى الخطاب السياسى الرسمى الروسى.

فانعكس بدوره على المضمون الإعلامى الروسى، الذى حلل خطاب وزير الخارجية الروسى “سيرجى لافروف”، مؤكدة على أن الحرب العالمية الثالثة ستكون حرباً نوويةً مدمرة، وأن الرئيس الأمريكى “جو بايدن” لديه خبرة كافية تجعله يقرر ماذا يختار، لذا لا يوجد بديل عن العقوبات سوى الحرب العالمية.

فروسيا لن تسمح بامتلاك أوكرانيا سلاحاً نووياً، وتلك العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بما فيها كييف،  تهدف إلى نزع سلاح أوكرانيا، لأن روسيا ترفض وجود أسلحة هجومية في أوكرانيا تهدد أمنها.

 

الخطابات الدبلوماسية والخطابات الهجومية والعدائية

كان الخطاب الروسى يعتمد الدبلوماسية لا العدائية، حيث كانت التصريحات الرسمية الإعلامية تؤكد على جاهزية الطرف الروسى للمفاوضات على عدة جولات، لكن الجانب الأوكراني كان يماطل بأوامر أمريكية، ذلك حسبما ذكرت وسائل الإعلام الروسية.

كما أن وزارة الدفاع الروسية التى اتسمت بالهدوء النسبى فى البيانات والتصريحات الإعلامية الصادرة عنها، أكدت على أنه لديها شكوك بأن مسيرات أمريكية قادت تحرك الزوارق الأوكرانية، ضد السفن الروسية في البحر الأسود، لكنها لم تؤكد بعد، حتى لا تصبح هناك مواجهة مباشرة ما بين روسيا وأمريكا.

فى نفس السياق كان الرئيس الأمريكي “جو بايدن” يتفاخر فى حديثه الرسمى والإعلامى، بأن العقوبات التي فرضتها أمريكا على روسيا هي الأكبر في التاريخ، على المستويين السياسي والاقتصادي، وأن أمريكا ستواصل تقديم المعدات الدفاعية والمساعدات الاقتصادية لأوكرانيا، وأن روسيا ستدفع ثمناً باهظاً على المديين الطويل والقصير، لغزوها أوكرانيا.

على الجانب الآخر، هناك باقى الأطراف الأوروبية التى كانت تدعم الخطاب الهجومى الأمريكى، وفقاً لما جاء بالتصريحات الروسية، على سبيل المثال دولة ألمانيا، فالموقف الرسمى كان فى البداية يدعم الدبلوماسية والحوار، لكنه سرعان ما تحول لموقف يدعم تجييش أوكرانيا ضد روسيا، وأكدت فى التصريحات أنها لن ترسل الجنود الألمان، لكنها سترسل المعدات والمقاتلات والصواريخ العسكرية الألمانية لأوكرانيا، عبر بلد ثالث، وأكدت على أن ما حدث هو غزو روسى لأوكرانيا، وذكر المستشار الألماني أن هجوم روسيا على أوكرانيا، نقطة تحول تهدد نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.

كما أعلن موقع يوتيوب وقف عشرات القنوات الروسية التي تحقق الدخل، استجابة لقرار العقوبات على روسيا، وأوقف الانستغرام حساب رئيس الشيشان قادروف الذي يمتلك به ٤ مليون متابع، فى خطوات أمريكية أوروبية تصعيدية ضد روسيا.

وصرّح وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكن” لقناة البى بي سي البريطانية، بأنه مقتنع أن أوكرانيا بإمكانها الانتصار في حربها ضد روسيا، ولا يمكنه في الوقت الراهن أن يحدد إلى متى قد يمتد الصراع الحالي، لكنه رجح أن “هزيمة أوكرانيا ليست حتمية بل ربما تنهزم روسيا”.

كما ذكر أيضاً مسؤول رفيع بالبنتاغون، أنه يعتقد أن المقــاومة الأوكرانية أكبر مما توقعته روسيا، فالروس يشعرون بالإحباط من قوة المقاومة الأوكرانية التي تبطئ تقدمهم.

كما نشرت صحيفة الواشنطن بوست عن مسؤولين أمريكيين، بأنهم مستعدون لمساعدة الرئيس الأوكرانى “زيلينسكي” على مغادرة كييف، لتجنب وقوعه في الأسر أو القتل، على أن يستمر القتال فرغم التفوق العسكري للقوات الروسية، لكنها لم تستطع دخول كييف بسبب الصمود البطولي، ذلك حسبما ذكرت الصحيفة.

واتجهت التصريحات الرسمية الأمريكية تُشير إلى أن “بايدن”، يسعى لإقصاء بنوك وهيئات روسية محددة من نظام “سويفت” المالى، (عبارة عن شبكةٍ عالية الأمان تربط بين آلاف المؤسسات المالية حول العالم، لربط وتبادل الرسائل والمعلومات بين جميع أسواق المال، من خلال البنوك المسؤولة عن تنفيذ ذلك، وفصل روسيا عن نظام سويفت سيجعل عملية إرسال واستقبال الأموال في البلاد شبه مستحيلة، مما سيصيب الشركات الروسية وعملاءها الأجانب بصدمةٍ مفاجئة، وخاصة مشتري صادرات النفط والغاز التي يهيمن عليها الدولار الأمريكي)، وذلك لتجنيب الشركاء أي تداعيات.

وجاء الرد الإعلامى الروسى عبر سياسيون بارزون من روسيا، بالقول إنّ شحنات النفط، والغاز، والمعادن إلى أوروبا ستتوقف تماماً في حال اتخاذ هذا الإجراء.

وذكرت شبكة CNN الأمريكية إن حلفاء الولايات المتحدة كانوا مترددين كثيراً في اتخاذ إجراءٍ مماثل ضد روسيا. حيث ستتكبد الولايات المتحدة وألمانيا أكبر الخسائر

كما أعلنت دولة التشيك عبر وسائل إعلامها، عن قرار إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية، وهكذا وسائل الإعلام الدنماركية التى أعلنت إغلاق مجالها الجوي أيضاً أمام الطائرات الروسية، واعتبرت الاقتتال العسكرى هو غزو روسى لأوكرانيا.

وبينما تناولت وسائل الإعلام الروسية خبر استقلال جمهوريتى لوغانسك ودونيتسك، تناولت وسائل الإعلام الأمريكية مصطلح “الانفصاليون” في دونيتسك ولوغانسك، وبدأت وسائل الإعلام فى بريطانيا وبعدها فى ألمانيا تتناول نفس المصطلح، الذى تناولته أيضاً بعض وسائل الإعلام العربية.

وفى الوقت الذى حاولت فيه بعض وسائل الإعلام تبنى صيغة إعلامية هجومية أو عدائية، كانت تحاول أيضاً تهدئة حدة هذا الهجوم، فمثلاً كانت (رويترز) تنشر عن مسؤولين فى  أوروبا وبالأخص فى أوكرانيا، أنه ليس كل أعضاء الاتحاد الأوروبي يحبذون انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد.

لكن الخطاب الروسى تحوّل تدريجياً لخطاب لاذع هجومى، فالأعلام الروسي بدأ يوضح أنه انتهى الوقت المخصص لظهور الأوكرانيين انتقاماً، وأن الحرب مستمرة، كما أكدت وكالة الأنباء الرسمية الروسية (تاس)، على أن وزارة الدفاع الروسية ذكرت فى بيانٍ لها، أنه بعد رفض أوكرانيا لعملية التفاوض، صدرت أوامر للقوات الروسية بالتقدم على جميع المحاور، ما يعنى التصعيد.

فى الوقت ذاته تبنّت الخارجية الروسية خطاباً معتدلاً، حيث أوضح “لافروف” أن روسيا على استعداد كامل للتنسيق الوثيق مع كل القوى البناءة، لتحقيق تسوية عاجلة للمشكلة الأوكرانية.

وفى حين أن الإتحاد الأوروبي كان يتوقع أن تسفر الحرب عن أكثر من ٧ ملايين لاجيء، صرّحت وزارة الدفاع الأوكرانية بأن الرئيس زيلينسكي أعلن إنشاء وحدة جديدة باسم الفيلق الدولي، الذى يعتمد بشكل أساسى على المرتزقة الأجانب.

هيستيريا الخطاب الأوكرانى وفوضى الخطاب الغربى وانسياق الخطاب العربى

وجاء تصريح الرئيس الأوكراني بوكالة “الأناضول”، بأنه سيتم الافراج عن المجرمين الذين يمتلكون مهاراتٍ قتالية، وسيمكنهم هذا التكفير عن جرائمهم بالقتال في أخطر نقاط الاشتباكات، وبدأت الهجمات السيبرانية تستهدف مواقع تاس ونوفوستي وعدة صحف ووكالات أنباء روسية.

كما تفاخرت وسائل الإعلام الأوكرانية باختراق القوات الإلكترونية الأوكرانية لموقع الكرملين، الذى أصبحت قاعدة هواتفه متاحة لهم الآن.

وأكد الرئيس الأوكراني فى تصريحاته الإعلامية على أنه حتماً سينتصر على روسيا، وسيواصل صموده في كل المدن الأوكرانية، وقريباً سيعرف العالم السلام مجدداً، رغم إرادة العدو الروسى الذى يريد أن يدمر الهوية الأوكرانية، كما أشار الرئيس الأوكراني إلى أن المفاوضات مع الجانب الروسي، لم تحقق النتائج المطلوبة.

كما قامت اليابان بإعلان فرض عقوبات على روسيا تشمل تجميد أرصدة شخصيات مرتبطة بالحكومة الروسية، بمن فيها الرئيس بوتين.

بينما كان خطاب الخارجية الصينية، داعم للموقف الروسى، ويؤكد على أن العقوبات الغربية على روسيا لن تحل المشكلة بل ستخلق مشكلات جديدة، وصرّح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عبر وسائل الإعلام بدعمه لأي حوار ومحادثات بين أوكرانيا وروسيا، وأن الحل السياسي هو الخيار الوحيد، وعارضت كل من روسيا والصين وكوبا وفنزويلا وإرتريا،  إدراج ملف أوكرانيا في دورة مجلس حقوق الإنسان الحالية.

فى حين أن رئيس وزراء بريطانيا، كان يؤكد عبر تصريحاته، أنه مصمم على فرض أشد الإجراءات الاقتصادية ضد بوتين، بسبب حملته المقيتة على أوكرانيا، كما أشار نائب رئيس الوزراء البريطاني إلى أن الهجوم الروسي في أوكرانيا، تحول لمعركة أكثر خطورة مما تخيلته روسيا.

العنصرية فى التناول الإعلامى

في خطاب ناري، قال الرئيس الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكي”، إن إحجام الغرب عن التدخل أعطى روسيا “الضوء الأخضر” لمواصلة قصف البلدات والقرى، وأنه يرى أن قادة الناتو كان لابد وأن يقوموا بفرض منطقة حظر طيران، لكن ذلك سيؤدي إلى مواجهة مع موسكو، وهم لا يرغبون فى تلك المواجهة، رغم أنهم قاموا بذلك من قبل فى مناطق أخرى.

وبالتأكيد الإشارة هنا إلى تدخل الناتو العسكرى فى الشرق الأوسط كالعراق وليبيا وسوريا.

أيضاً كانت تحمل بعض المصطلحات والعبارات الخاصة باللاجئين الأوكرانيين بعض العنصرية فى العرض والتناول الإعلامى الغربى، الذين رأوا فيها مقاربة “عنصرية”، على غرار تعليق مراسل قال إن أوكرانيا “ليست العراق أو أفغانستان”.

كما أن الرئيس الأوكرانى اختص فى حديثه مؤخراً اليهود حول العالم، وقام بمناشدتهم خاصة يهود دولة إسرائيل، لكى يدعموا يهود أوكرانيا ضد العزو الروسى، وهنا اعتمد الرئيس الأوكرانى العنصرية فى خطابه، حيث اختص الأقلية الأوكرانية، ولم يُصرح بحماية أو دعم كل الأوكرانيين.

فى الوقت ذاته حاولت بعض وسائل الإعلام العربية، اتباع نهج الحياد فى التناول الإعلامى للأزمة الروسية الأوكرانية، رغم أن بعض مقدمى البرامج استخدموا عبارات عنصرية مثل تشبيه الأزمة الروسية الأوكرانية بأزمة تأمين الحدود المصرية الغربية، وأن على مصر غزو ليبيا كما فعلت روسيا فى أوكرانيا، وهو ما اعترضت عليه وزيرة الخارجية الليبية “نجلاء المنقوش”.

هناك أيضاً الخطابات الرسمية العربية التى كان ظاهرها يحمل مفخوم الحياد السياسى، لكن باطنها كان يُدين الغزو الروسى لأوكرانيا.

واعتماد بعض وسائل الإعلام العربية على مصطلحى  (الغزو الروسى- العناصر الأوكرانية الانفصالية)، واعتمدت الوسائل الأخرى على مصطلحى (الاقتتال الروسى الأوكرانى- المعارضة الروسية داخل أوكرانيا- العناصر الأوكرانية الموالية لروسيا).

وأخيراً وليس آخراً،،، كما أى أزمة سياسية ربما ينتج عنها تصعيد عسكرى، أيضاً أى أزمة إعلامية ربما ينتج عنها تصعيد سياسى وإعلامى، وبالتالى كان التصريح الروسى الأخير الخاص بأن روسيا بصدد إعداد مسودة حول الدول الصديقة والدول المعادية، سيكون وفقاً لمواقف تلك الدول السياسية تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، وأيضاً مواقفهم الإعلامية والدبلوماسية تجاهها، وربما يفيد الحياد الإعلامى والسياسى لبعض الدول، وربما لن يُفيد فى خريطة التحالفات السياسية الدولية، التى يتم إعادة تشكيلها من جديد فى بيئة النظام العالمى الجديد.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى