رأي

دينا محسن تكتب.. الإعلام الرقمى وصناعة الرأى العام.

هندسة التأثير والتحكم فى عقول الجماهير

دينا محسن الإعلام الرقمى وصناعة الرأى العام

تختلف الأنظمة السياسية حول العالم فى مدى اهتمامها بدراسات الرأي العام، ورغم مقاييس تحليل الرأى كماً وكيفاً قد اختلفت نسبياً عن دى قبل، خاصة بعد التحول الرقمى العنيف الذى اجتاز العالم بسرعة كبيرة ومازال، إلا أن دراسات الرأى العام مازالت تحتل مكاناً مرموقاً في جميع دول العالم على اختلاف نظمها السياسية ومذاهبها وأيديولوجياتها، سواء على المستوى النظري أو المستوى التطبيقي.

لكن ماذا عن فلسفة الرأي العام فى الداخل والخارج والرأى الآخر الأجنبى والعربى واستخداماتهما في النظم السياسية المختلفة، وهل المؤسسات الحكومية فقط هى المعنية بدراسة وتحليل الرأى العام والرأى الآخر، أم أن مراكز الفكر معنية هى الأخرى بالقيام بمثل تلك العملية المهمة المعقدة والحساسة أيضاً؟!

الرأى العام وكيفية صناعته..

يُعرف الرأى العام على أنه ظاهرة اجتماعية، ونتاج نهائي لعملية التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، فهو يعكس كل ما يصدر عن أهل المسئولية من أفعال وتصرفات سواء في حياتهم الخاصة أو في نطاق مسئولياتهم العامة.

والرأي العام ظاهرة معقدة، يصعب تحليل أجزائها تحليلاً بسيطاً بل تتداخل مجموعة من العوامل والمؤثرات المختلفة في تكوينها مثل (المؤثرات السيكولوجية السياسية الثقافية والاجتماعية)، تتكون كلها من مجموعة من القيم و المعايير التي تحكم إدراك الفرد وسلوكياته.

والتقدم البشري لم يتوقف عند حد الاختراعات المادية من آلات ومعدات، بل تعداه إلى الحياة الاجتماعية، حيث برز اختراع حديث نسبيًّا يسمى بـ”استطلاع الرأي” كإحدى أبرز آليات توجيه العقول، ففي المجتمع الأمريكي وحده على سبيل المثال، هناك ما يُقارب من مائتي استطلاع لقياس الرأي العام فى الداخل والخارج في شتى الموضوعات المختلفة، ومن المؤكد أنه دون تلك الاستطلاعات والاختبارات الاجتماعية ربما واجه المجتمع الأمريكي مشكلات أكثر.

وكان لظهور التكنولوجيا الحديثة، وتوغل الرقمنة فى كافة مناحى الفكر والسلوك والاتجاه أثراً عميقاً، حيث أدى إلى عملية إزاحة لدور النخبة بشكل ما في عملية التأسيس لخطاب يقود الرأي العام، فلم يعد الرأي العام نتاجاً للنقاش الحر العقلاني، بل أصبحت تصنعه الدعاية الرقمية الافتراضية، فتحولت العقلانية التواصلية التي تأسست عليها الحداثة، إلى عقلانية استراتيجية تحكم الفضاء العمومي، وجعلت منه مجالاً لممارسة التسويق السياسي والدعاية والإشهار التجاري.

وتستقطب وسائل الإعلام الحديثة جمهور المشاهدين والمستمعين، ولكنها تسلبهم في الوقت ذاته تلك المسافة التحررية، أي إمكانية المحاججة والكلام والنقض الحقيقى السليم غير المنقوص أو المُشوّه.

فكما كان يقوم الإعلام التقليدى بدور جوهري في تكوين الرأي العام، من خلال أجهزته العديدة المؤثرة مثل الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح والكتب، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية والمنصات الإليكترونية من أهم وسائل الاتصال بالجماهير بمختلف شرائحها الاجتماعية والفكرية والعمرية والثقافية والجغرافية.

وهذا الأثر والتأثير ليس مفاجأة، فربما فاجأ البعض لكن الآخرين ممن اطلّعوا على كتاب (المتلاعبون بالعقول)، لكاتبه ” أفرام نعوم تشومسكى”، ادركوا سابقاً أن التلاعب بالعقول وصناعة الوعي المضلل، ذاك الذي يخدِّر الضحية قبل ذبحها، بل ويجعلها تستمتع بهذا العذاب، هو حقيقة تقلص الحرية الإعلامية في بلاد العالم المختلفة خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، وليس العكس كما يُعتقد.

فهناك حقيقة دامغة وهى وقوع أجهزة الإعلام تحت سيطرة الشركات الاقتصادية الكبرى، وأن هذه الشركات توظِّف أجهزتها الإعلامية لتوجيه عقول مشاهديها لتحقيق مصالحها الخاصة، حتى لو تضاربت مع مصالح الجماهير الشخصية، وهذا التحليل أو التصريح جاء على لسان الرئيس الأمريكى السابق “دونالد ترامب” الذى صنع لنفسه ولمتابعيه منصة رقمية خاصة، حينما تم منعه من حقه فى ممارسة الحرية الإعلامية، التى يكفلها له الدستور الأمريكى.

هندسة التأثير والتحكم فى عقول الجماهير..

يلعب الرأي العام دوراً مهماً يكاد أحياناً يكون محورياً في اتخاذ القرار السياسي، لذا فهو يعتبر بمثابة ظاهرة جماهيرية، يهتم بها السياسيون والنخبة وصناع القرار.

وأحد أبرز المكونات الصانعة لهذا الرأى هى وسائل الإعلام، فالإعلام له دور محورى في السيطرة على الشعوب عن طريق صناعة الأخطار، والبروباجندا، لذلك تنساق العامة وراء إملاءات السلطة الحاكمة سواء السلطة السياسية أو السلطة الإعلامية، لتتحول هذه الشعوبُ -مع الوقتِ- إلى دُمى ساكنة تكتفي بالمشاهدة، ولا تتفاعل مع ما يحدث حولها.

لكن الإعلام الرقمى خلق سلطة جديدة تمثل قوى ضغط اجتماعية، وهى السلطة المجتمعية، تلك السلطة التى أصبحت السلطة السياسية والإعلامية تغازلها من أجل احتوائها والسيطرة عليها أو التحكم فيها.

وهناك أيضاً شركات العَلاقات العامة التى تلعب دوراً سياسياً إعلامياً فى التحكم بالرأى العام، وذلك لتبرير الحروب والمشكلات والصراعات الداخلية والخارجية، عن طريق تهويل الأخطار، وبناءِ تصورات متحيزة عن كثير من القضايا، والشؤون العامة، التي تَهُم الفرد في مجال السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، وتعد الولاياتِ المتحدة الأمريكية رائدة صناعة العلاقات العامة، حيث أنها التزمت بمبدأ السيطرة على العقل الجمعى العام، فى الداخل والخارج.

حادثة الطفل المغربى “ريّان” نموذجاً..

إن الرأي العام في جوهره هو موقف يتخذه الفرد أو الجماعة، نتيجة حادثة أو مشكلة أو تغيير، يحصل في سياقات الحياة المعاشة، لذا فهو يقوم في أسسه على مكونات كثيرة، وتراكمات تربوية وثقافية، منها ما يكون فطرياً يسير بحسب سياقات خصوصية الفعل الاجتماعي لأي مجتمع، وفي أحيان أخرى يتم شحذها أو تسييرها بمعطيات مصطنعة ومفتعلة.

وقاد التطور التكنولوجي في البيئة الرقمية الجديدة، إلى تغيير نمط وأساليب تكوين وبلورة وتحريك الرأي العام، ومن ثم السيطرة عليه، من خلال إعادة إنتاج وتوزيع محتوى مكونات الوعي الثقافى، والذي بات يُنْقَل من الجميع إلى الجميع، دون واسطة أو سيطرة، وهو ما حوَّل الانتباه باتجاه الحوامل الجديدة والمحتوى نفسه الذي تزداد أهميته بين الفاعلين، أفرادًا ومؤسسات ودولًا، ليس فقط في إبراز التَّمثُّلات والرؤى حول القضايا والأحداث الجارية، وإنما في الصراع الرمزي والقيمي بين مختلف القوى عبر حروب إعلامية تُسْتَخْدَم فيها جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وتستثمر فيها أيضًا خصوصية البيئة الرقمية، التي تؤمن مجالًا واسعًا لانتشار السرديات البديلة في زمن اتصالي سريع.

وكان لأدوات الإعلام الرقمي، ومناهجه الحرة غير المقيدة، والتي يصعب اصطيادها بمصيدة الانضباط القانوني، دوراً كبيراً فى خلق حالة من التشويش وفقدان الثقة التدريجية، بكل نتاجات الواقع، خاصة إذا علمنا أن قيام المجتمع يجري في أسسه على مبدأ التوافقية الانفعالية ما بين الذات.

لذا تجد أن هناك الآلاف بل الملايين من الأطفال فى فلسطين وسوريا واليمن والصومال يموتون، دون أن تجد هذا الزخم الإعلامى الرقمى، الذى اتخذ منه الإعلام التقليدى مرجعية تحرير برامجه، ما أدى لتشوه فى خطة المحتوى البرامجي، التى أصبحت بلا هُويّة ثابتة.

ونتج عن ذلك قرارات سياسية متأثرة بالقرار الإعلامى الناتج عن الرأى العام الافتراضى الرقمى، فوجدنا زعماء ورؤساء وملوك يهاتفون ملك دولة المغرب لمواساته على موت طفل! بينما لم يقم نفس الزعماء والملوك بالتعزية فى موت ملايين الأطفال الآخرين.

ذلك يؤشر إلى أن مستقبل سلطة الإعلام الرقمى ربما ستفوق سلطة القرار السياسى الحر، وأن شركات الدعاية والعلاقات العامة متعددة الجنسيات ستصبح هى المتحكمة فى سلطة المجتمع الرقمى الافتراضى.

وهذا ينحو بنا إلى ضرورة إجراء بحوث ودراسات تحليلية كمية وكيفية، للتعرف على اتجاهات الجماهير بمختلف شرائحه نحو القضايا الشائكة، وشدة تلك الاتجاهات مقارنة بقوة السلطة الإعلامية أو القرارات السياسية، وذلك عبر مدخل سيكولوجى (علم النفس الإعلامى)، لوضع التصورات والرؤية للدولة المصرية الإعلامية السياسية فى الداخل والخارج.

حيث يُلاحظ أن عملية إعداد استطلاع الرأي وطريقة استخدامه، مرتبطة على نحو كبير بالسلوك الإنساني الذى يُؤثر على العلاقات الاجتماعية القائمة بالفعل، لكنها ربما تتغير مع الوقت، لذا لا يمكن للمؤسسات الحكومية الإعلامية وغير الإعلامية فقط القيام بتلك المَهمّة المُهِّمة، لكن لابد وأن يصبح لمراكز الفكر الاستراتيجية دوراً فى الإسهام بمعرفة حدود واتجاهات الرأى العام المحلى والإقليمى والدولى فى الداخل والخارج.

بعد ان تناولنا موضوع دينا محسن الإعلام الرقمى وصناعة الرأى العام يمكنك قراءة ايضا

المفكر العربي  الكبير علي محمد الشرفاء يكتب.. الصلاة على النبي

الإمارات في أسبوع.. إشادة امريكية بأنظمة الدفاع الجوي لأبوظبي وأسهم موانئ دبي تقفز في أول يوم تداول

يمكنك متابعة منصة العرب 2030 على الفيس بوك

يُتبَع…

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى