رمضان البحباح يكتب.. المشهد السياسي في ليبيا
الكاتب دبلوماسي وسفير ليبيا السابق في الهند.. خاصة لمنصة «العرب 2030» الرقمية
استهدفت ليبيا في عام 2011 كأحد الدول العربية برياح ما أسموه بالربيع العربي وفق الخطة التي أعلنت عنها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بإعادة الخارطة السياسية والاقتصادية للشرق الأوسط الجديد بما يتلاءم والمصالح الغربية في المنطقة.
وقد استغلت المرحلة التي سبقت هذه الأحداث بسياسات تدميرية لبعض الدول العربية كأحد العوامل الرئيسية في تفتيت الوطن العربي إبتداء من شرقه سواء بإشعال ما عرف بحرب الخليج الأولى التي استنزفت فيها كلا من إيران والعراق بحرب دامت أكثر من ثمان سنوات متواصلة ، الأمر الذي أدى إلى إنهيار شبه كلي لاقتصاد البلدين الجارتين مرورا بحرب الخليج الثانية والتي أشعل فتيلها التدخل العراقي المباشر لاحتلال الكويت وما تبعه من حصار كامل لدولة العراق أدى إلى إنهيار عميق في كافة مناحي الحياة بما فيها موت آلاف أطفال العراق بشكل يومي نتيجة أزمة حادة في الغذاء والدواء أمام مرئى الأمم المتحدة وكافة المنظمات الإنسانية التي أخذت موقف المتفرج حيال هذه الجريمة الإنسانية وصولا إلى شن حرب شاملة أدت لتدمير العراق بشكل نهائي واغتيال صدام حسين بعد محاكمته بشكل صوري أمام العالم وفي يوم عيد الأضحى المبارك ضاربين بمشاعر العرب والمسلمين عرض الحائط .
من هنا باتت الحالة العربية برمتها في وضع لا يسمح لها إلا الاستسلام لما سيحدث تباعا من تآمر دولي وغربي على وجه التحديد ، وقد لمح الراحل معمر القذافي إلى ذلك في قمة دمشق عندما قال أن الدور سيأتي على الجميع استشعارا منه بأن طوفان سيجثت الأنظمة التي وصفت بالمارقة حسب تعبير بعض الساسة الغربيين ، وعمدوا على تهيأت الأوضاع لتنفيذ هذا المشروع التدميري الذي توفرت شروطه ومعطياته في 2011 عندما تم تحريك الشارع في تونس للإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي ثم إلى مصر للإطاحة بالرئيس حسني مبارك ، وقد سمح الوضع الفوضوي في كلا الدولتين إلى استهداف الدولة الليبية من خلالهما بتسريب عشرات الآلاف من الإرهابيين جلبوا من كافة أنحاء العالم.
ولتبدأ فصول تدمير الدولة الليبية إبتداء بقرار دول مجلس التعاون الخليجي مرورا بقرارات الجامعة العربية التي جمدت عضوية ليبيا واحالت الملف إلى مجلس الأمن الدولي دون إجراء أي تحقيق في ما حدث معتمدين على تقارير إعلامية بثتها قنوات فضائية عربية على رأسها قناة الجزيرة القطرية التي أصبحت مصدرا للمعلومات التي كانت تصاغ من خلال وكالات مخابرات أجنبية لتهييج الرأي العام المحلي والدولي لتكتمل فصول المسرحية بإصدار قرارات من مجلس الأمن تحت الفصل السابع وتصف القائد معمر القذافي بأنه يقتل شعبه بمرتزقة جلبهم من دول إفريقية وآسيوية ولاتينية مستخدما أسلحته الفتاكه في قتل المدنيين .
وقد وجدت هذه الأكاذيب والاشاعات طريقها إلى التصديق كي يتم التعجيل باستخدام القوة التي أوكلت لحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي بدأ عدوانه على ليبيا وتدمير قواتها المسلحة قبل صدور قرارات مجلس الأمن في سابقة دولية خطيرة لم يشهد التاريخ مثيلا لها وهو تدمير دولة وإسقاط نظامها بدون أي مبرر معتمدين على فبركة أكاذيب وسيناريوهات إعلامية .
بعد ذلك تحولت ليبيا إلى ملاذ للإرهاب الدولي الذي يدار من خلال وكالات مخابرات الدول التي تدخلت وشاركت في تدمير ليبيا ، ليوكل مهمة حكمها إلى حكومات على رأسها عملاء وارهابيين كانوا في السجون واعتمدت جملة من التدابير والإجراءات لتنصيبهم بعملية إنتخابات صورية وشكلية حتى يتوهم الراي العام الدولي بأن ليبيا تحولت إلى بلد ديمقراطي ولم تلبث هذه الإجراءات حتى تحولت إلى صراعات وحروب نتج عنها تهجير مدن وقبائل واعتقالات لعشرات الآلاف من الأبرياء بتهم كيدية وبعضها سياسية معتمدين على قرارات ظالمة ومجحفة بحق كوادر الدولة السياسية والعسكرية والأمنية والعلمية تم إقرارها عن طريق العزل السياسي وقوانين الحراسة ومصادرة الأملاك وغيرها ، الأمر الذي وضع البلاد في حالة احتراب واحتقان وكراهية أسفرت عن تشظي وانقسامات سياسية ومناطقية حاولت القوى الخارجية احتوائها فيما عرف بحوار الصخيرات وروما وبرلين وجنيف إلا أنها كانت عبارة عن عمليات احتواء حتى لا تخرج الأوضاع عن سيطرة الأجنبي الذي أخذ على عاتقه إدارة الدولة حسب مصالحه وأهدافه .
- اقرأ أيضا:
- حسام أبو العلا يكتب.. ليبيا.. أمل يبدد ظلمة اليأس
- محمد فتحي الشريف يكتب.. بعد «24» ديسمبر ليبيا صراع جديد أم وفاق إجباري؟
لقد ذاق الليبيون درعا خلال هذه الفترة الطويلة من الصراع والموت والتهجير والدمار والنهب الممنهج لثرواتهم حسب وصف أحد المندوبين الأمميين بأن الذي يجري في ليبيا هو نهب ممنهج والذي ترك مهمته واستقال معبرا عن أن الوضع الليبي هو رهن التدخل الأجنبي يصعب حله ، وأنه مرتبط بتفاهم الدول المتصارعة حول ليبيا .
إن المشهد السياسي يتقلب ولم يتغير ولا يراد له أن يتغير بما يتناسب ورغبات الشعب في تقرير مصيره بغض النظر عن التصريحات من هنا وهناك بأن ليبيا لا يمكن أن تستقر إلا من خلال إنتخابات رئاسية وبرلمانية عامة حدد لها يوم 24 ديسمبر موعد لها .
إن هذه الإنتخابات المزمع إجرائها لن يحدث أي تغيير حقيقي وإنما هي ستكون تكرارا وتدويرا للأزمة ، ذلك أن العملية الإنتخابية بشكلها التقليدي لا يمكن إقامتها في بلد تتقاذفه الصراعات وتحكمه مراكز قوى محلية ودولية ، وكذلك غياب تام للأمن والاستقرار نتيجة إنتشار السلاح على نطاق واسع ووجود عصابات وتنظيمات ومليشيات مسلحة ولاءها للخارج ومدعومة من دول بعينها لا تخفي هذا الدعم بل تؤكد أنه استحقاق مشروع لها حفاظا على مصالحها .
وعلى الرغم من الإجراءات التي بدأت سواء على مستوى التحظير للإنتخابات ودعم المفوضية العليا ، إلا أن هناك مؤشرات بدأت تلوح بتعثرها وبتوقفها ، حيث أغلقت فروع المفوضية في بعض المناطق والمدن ومراكز توزيع بطاقات الإقتراع والتهديد بالحرب وافشالها في حال تقدم بعض الأسماء لترشيح نفسها ، الأمر الذي دعى سفير الولايات المتحدة الأمريكية بالهبوط في مطار معيتيقة واستدعى على الفور كلا من وزير داخلية ادبيبة ورئيس المفوضية العليا للانتخابات ونائب رئيس المجلس الرئاسي وبعض المترشحين لرئاسة البلاد ليوصل من خلالهم رسالة قوية بأن أي إجراء لإيقاف العملية الإنتخابية سيعرض مرتكبيها للملاحقة والعقاب تطبيقا لقانون استقرار ليبيا الذي أقره البرلمان الأمريكي .
تلقت بعض المليشيات وكذلك بعض المسؤولين هذه الرسالة بكثير من الخوف والارتباك الذي ظهر واضحا من التغير الجذري في تصريحاتهم بخاصة رئيس المجلس الإستشاري للدولة والذي كان يهدد بشكل علني والمفتي الذي توقف عن فتاويه التحريضية لإيقاف الإنتخابات ، حيث فتحت مراكز توزيع البطاقات وفروع المفوضية لتمارس مهام عملها من جديد .
إلا أن الأمر اللافت بدأ بشكل أكثر خطورة وهو الاستقالة المفاجئة للمندوب الأممي دون توضيح للأسباب التي دعته إلى الاستقالة بهذه السرعة ، بيد أن الأمر بدأ يتضح من خلال ملامح الإجراءات والقرارات التي صدرت عن المجلس الأعلى للقضاء ومكتب النائب العام وهي قرارات غريبة وغير مبررة واعتمدت على إجراءات بعيدة ومنافية للقوانين والأحكام وهي تعد عملية عرقلة واضحة في سير العملية الإنتخابية ومنها رفض قائمة 25 إسم من قائمة 98 وهو عدد المتقدمين للترشح لمنصب رئيس الدولة ، وهو ما يبعث القلق على مصير المترشحين بخاصة بعدما اكتشفوا التضارب في الإجراءات التي فصلت عليهم في وقت لم تطبق على عناصر مخالفة بشكل كلي للقوانين الصادرة بمنعهم من الترشح وتحديدا الذي يشغل رئيس الحكومة ، من جهة أخرى صدر حكم بالإعدام من المدعي العسكري بمصراته في حق مجموعة من ضباط القوات المسلحة على رأسهم المشير حفتر وهي عملية خلط للأوراق وعرقلة واضحة للعملية الإنتخابية ومحاولة اجترار لرفضها بشكل كلي ووضع البلاد في حالة فوضى .
إن الوضع في ليبيا ينذر بالانفلات الغير قابل لكبحه والذي يصعب السيطرة عليه إذا سارت الأمور على هذه الوثيرة واستمر التصعيد في عرقلة الإنتخابات التي قد تتحول إلى صراع مسلح لن يتوقف في القريب المنظور .