كتب الباحث السياسي أحمد شيخو، مقالاً لـ(منصة العرب الرقمية)عن المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وحالة التجريف الحاصلة أو الفراغ السياسي الموجود وأسبابه مشيراً إلى مقترح السياسة الديمقراطية التي تعتمد الكونفدارالية الديمقراطية الملائمة لحالة التنوع والتعدد الشرق الأوسطي، كوسيلة سياسية قادرة على تجاوز الأزمة وبناء فلسفة سياسية تستطيع بها المجتمعات والشعوب ودول المنطقة من حل القضايا العالقة وتحقيق الحرية والديمقراطية.
تمهيد
مفهوم السياسة والفرق بينها وبين أعمال الدولة.
السياسية رؤية تحتاج النقد والتفكيك والتنوير والوعي.
على السياسي أن يكون ذاته ومجتمعه.
السياسة والعلم.
السياسية سبب الصمود والتحول للسلطة سبب التصفية.
السياسة والمقاومة.
السياسة والسلطة.
الكونفدرالية الديمقراطية وسيلة السياسة الديمقراطية.
تمهيد.
إن أحد الأسباب الرئيسية، لأزمة شعوب ومجتمعات ودول الشرق الأوسط، يتمثل في الفراغ السياسي والتجريف الذي حصل في المشهد السياسي والفكري والفلسفي والثقافي. هذا التجريف الذي سبب معه غياب النظرة و الرؤية السياسية الثاقبة و زيادة مساحات التخبط والفوضى واليأس والإحباط وغياب التحليل العميق وعدم توفر السياسي الثاقب والجريء، وبالتالي أصبح الشارع السياسي لا يملك رؤية مستقبلية ولا مشروع بديل للواقع المتأزم، وبل تصدر المشهد مستحاثات وبقايا فكرية وتابوهات وبديهيات لا تمت للسياسة وجوهرها المتجدد والحر بشيء بل أقرب للمقاربة والرؤية اللاهوتية والبعيدة عن استعمال العقل والفكر والفلسفة في السياسة. وكما تحول البعض من السياسيين لذيول وعرائس ومرتزقة السلطة والدولة، التي تحركهم كيفما تشاء بعيدة عن الشعوب والمجتمعات، وأصبح البعض منهم مشكلين لطبقة بيروقراطية ليبرالية هدفها الاستحواذ على المال والسلطة والسجود للدولة الإله.
إن التجريف و الأزمة السياسية في الشرق الأوسط أو الفراغ السياسي، لا يقف عند حدود المنهجية أو المشاريع السياسية، بل أنه يمتد لقيمة السياسة ذاتها وينظر لها كنفاق وازدواجية وتفاعل لا أخلاقي وممارسة سلطوية ونخبوية ضيقة فقط، وأحياناً في بعض دول المنطقة ومجتمعات القطيع السائدة، ينظر للسياسة كعمل خاص بالسلطة والدولة والنخب و بعض الأحيان كحلي أو نوعاً من الديكور وكأن السياسي كائن زائد لا محل له من الإعراب ولا تحتاجه المجتمعات والشعوب، أو أن السياسة رفاهية زائدة و محقة فقط لأصحاب السلطة والنفوذ، وهنا تحل الكارثة بفقد المجتمع لأحد عناصر قوته الهامة.
مفهوم السياسة والفرق بينها وبين أعمال الدولة.
لا بد أن نبين ما نعنيه بالسياسية مفهوماً وسلوكاً وهدفاً، لأن الاصطلاح لا يغطي كافة الأبعاد.
إن معنى السياسة الجوهريّ هو فنّ الحرية. أما الحرية بذاتها، فتعني الاقتراب من الحقيقة. وعند تناولنا السياسة والحرية والحقيقة، فإنّ وحدة البحث لابد أن تكون هي المجتمع. والسياسة أساساً تعني ممارسة الحرية والمساواة و الدّيمقراطية في سبيل استمرار المجتمع الديمقراطي ببعديه السياسي والأخلاقي و بماهيته تلك تحت كلّ الظروف والشروط.
ويمكننا القول عن السياسة، بأنها مساحة حرية المجتمع وساحة البناء والإبداع والتي يزداد فيها التطور ذهنيتة ومعنى وإرادة. بل وبالمستطاع المطابقة بين السياسة والحرية. موضوع البحث هنا هو إدراك المجتمع لذاته وخصوصيته ولهويته فكراً وسلوكاً، وتطويره إياهما، ودفاعه عنهما.
من المفيد الإشارة لبعض الأعمال والشؤون التي من المعروف أنها سياسة ولكنها في الحقيقة لا تعتبر سياسة وفق التعريف السابق و منها:
شؤون الدولة ليست أعمالاً سياسية، بل إدارية. لأن السياسة لا تمارس اعتماداً على الدولة، بل يمارس الحكم.
الأعمال التي لا تعنى بمصالح المجتمع الحياتية لا تشكّل سياسة أساسية. بل هي أعمال روتينية بمقدور المؤسسات الاجتماعية الأخرى تنفيذها.
الشؤون التي لا علاقة لها بالحرية والمساواة والديمقراطية ليست معنية أساساً بالسياسة.
أما الأعمال والشؤون المعنيّة بالسياسة أساساً، هي مصالح المجتمع الحياتية، معيشته واستمراريته، مأمنه ومأكله، والحريات والمساواة والديمقراطية التي تعرقلها السلطة والدولة. فالشؤون السياسية تختلف عن شؤون الدولة، بل ومتناقضة معها إلى حدٍّ كبير. وفي هذه الحالة، فبقدر ما تتّسع وتتركز الدولة، فإنّ السياسة تضيق وتتراخى بالمثل. فالدولة تعني القواعد، بينما السياسة تعني الإبداع. الدولة تحكم الجاهز، بينما السياسة تبدع وتشكّل وتدير. الدولة مهنة ووظيفة، والسياسة فنّ.
السياسية رؤية تحتاج النقد والتفكيك والتنوير والوعي:
إن السياسة هي رؤية وسلوك للحياة ووظيفتها هي إيجاد أفضل الأعمال وأحسنها، وهنا لابد لوجود الفكر والثقافة و الفلسفة السياسية، والسياسية ليست كمهنة وتوظيف وأوامر وسكون، بل هي حقيقة التنوير والسلوك الأخلاقيّ والتجديد المستمر. ولا يمكن الحديث بجديةٍ عن التنوير، وبالتالي عن النشاط الفكريّ، في المكان الذي تغيب فيه السياسة والأخلاق. فالمعلومات الفكرية التي تفتقد روابطها مع السياسة والأخلاق، قد تكون رأسمالا فكرياً أو شيئا آخر، وعليه، لتجاوز التجريف السياسي والفكري لابد من توفر النقد والتفكيك والتنوير والوعي المجتمعي.
نقد الفكر والواقع وهذا يعني عدم الاستسلام والجرأة على استخدام العقل دون قيد أو شرط أو سلطة بالمعنى الذي أراده “كانط”.
تفكيك المسلمات وتعرية الحقائق وتقويض التابوهات والجرأة على مناقشة التاريخ دون قيد أو شرط و الوصول للفهم بمعنى الحرية الذي أراده “سبينوزا”
التنوير والتفكير بلا خوف وبغير وصاية و بناء الفلسفة السياسية وتقديم البديل السياسي الذي لابد أن يوقف ويزيل حالة التجريف الموجودة.
بناء وعي الحقيقة والاحساس الصادق وهذا يستدعي عمل العقل والعاطفة والتوازن فيهما ويستدعي الحرية والدقة.
على السياسي أن يكون ذاته ومجتمعه.
ولأننا لم نصل بعد لمرحلة الفكر الحر وفهم السياسية وعلاقتها بالحرية والمساواة والديمقراطية و ترابطها بالفلسفة والثقافة، نلاحظ في الشرق الأوسط ومع الأسف تزايد سطوة جماعات الإسلام السياسي وتيارات القومية الأحادية أدوات الخارج للهيمنة والنهب والتقسيم، نتيجة انتشار اليأس والاحباط والفشل والتجريف السياسي و المستنقعات الحزبية و تطلع الكثيرين لمخلص ومنقذ دون وجود وعي وبوصلة اختيار صحيحة، فاليساريين والشيوعيين والاشتراكيين في دول الشرق الأوسط لا يختلفون عن المتدينين والقوميين الأحاديين والعنصريين وهذه مصيبة وازدواجية غريبة، وبل لا تختلف رؤيتهم في كثير من الأحيان عن السوقة والغوغاء والدهماء و المطبلين وسفلة الطبقة البيروقراطية للسلطة والدولة تجاه المشاكل العالقة وقضايا المجتمعات وشعوب المنطقة وحالة التعدد والتنوع الموجودة وكيفية إدارتها وحول حقوق المجتمعات والشعوب والتكوينات الاجتماعية في إدارة وحماية أنفسهم.
وهنا من الصحيح القول أنه على الانسان والسياسي أن يكون نفسه وذاته ومجتمعه وعلية المقدرة على الاختيار فهذا حق الانسان، وعلى المجتمعات أن تخرج من حالة القطيع وعدم الارداة والفكر الأحادي واللاهوتي والتجريف السياسي والأخلاقي والثقافي إلى حالة المجتمع الديمقراطي أو السياسي والأخلاقي والفكر الحر والذهنية التشاركية، وليس الاستمرار في السقوط في التفاهة والابتذال والانحطاط الفكري وتسطيح الوعي وتزييفه وتشوييه، ولو أخذنا أي سياسي من الشارع السياسي الشرق أوسطي أو لو نظرنا لأي مجلس تشريعي أو برلمان من برلمانات المنطقة أو لو رصدنا تفاعل المجتمعات وقواها وأحزابها السياسية مع شؤونها وقضاياها المصيرية والحياتية سنلاحظ حجم الكارثة ومقدار العمل والجهد الواجب بذله لبناء الإنسان الحر والديمقراطي وكذلك المجتمعي الحر أي السياسي الذي يستطيع أن يفهم ويمارس السياسة كذهنية تشاركية وأداء سلوكي مشترك قادر لحل القضايا وتأمين احتياجات المجتمع الحياتية.
السياسة والعلم.
أما غياب العلمية والفلسفة المجتمعية في السياسة الشرق أوسطية، فهذه مشكلة إضافية أخرى تزيد من حالة التجريف السياسي، فنحن من كفرنا الفارابي وابن سينا وابن الرازي و قتلنا الحلاج وسلخناه وقطعناه وأكتفينا بابن التيمية وأبو حامد الغزالي وقمنا بتصفية العقل من العناصر الإبداعية والتحررية ونحن الذين اختصرنا المرأة وكيانها ووجودها في جانب “وأتوهن من حيث من أمرناكم”.
فسلطة النص و ليس إدارة العقل هي حكمتنا لقرون وحتى اليوم، ورغم كثرة الجامعات وكليات العلوم السياسية وكليات الفلسفة وعلم الاجتماع واللغات ومراكز البحث والدراسات والنشر ووسائل الإعلام ووجود مقرات الأحزاب و المنتديات والصالونات الثقافية والوزارات المعنية في حكومات المنطقة، إلا أن العلم والمؤسسات العلمية والعقلية السائدة الموجودة لم تستطيع أن تغير مقارباتنا ونظرتنا للعالم، بل أعاقت ذلك، فنحن محكومون بالرؤية اللاهوتية وعلاقتنا بالعلوم استهلاكية ولسان حالنا يقول “سبحان من سخر لنا هذا” ولكن الحقيقة أننا كغالبية شعوب ودول المنطقة تعيش على ما ينتجه الغير ويصدره لنا وقوانا السياسية والثقافية والسلطوية، أصبحت عالة على مجتمعاتنا وشعوبنا و افقدتنا الكثير من الابعاد الإنسانية والاستقلالية و التي تتوجب الإنتاج والإبداع وليس فقط الاستهلاك وانتظار الغير.
السياسية سبب الصمود والتحول للسلطة سبب التصفية.
إن السياسة تاريخياً ولازالت سبب الصمود والانجاز والتحول للسلطة سبب التصفية والفناء. وتتضح ذلك في عدة تجارب تاريخية:
أثينا، لقد تمكّنت بسياستها المدينية من مواجهة الإمبراطورية البرسية العملاقة وإلحاق الهزيمة بها.
روما، فتمكنت من التحول إلى مركزٍ عالميٍّ بسياستها الجمهورية.
كما أن سياسة كلتا المدينتين لعبت دورا معيّنا في تنامي الثقافة الإغريقية الرومانية.
بابل، أبدت كلّ مهاراتها وحذاقتها في مزاولة سياسة الاستقلال والادارة الذاتية، كي لا تقع في نير قوى السلطات والدول المجاورة الأقوى والأكبر. ولا شك أنه لسياسة المدينة التي اقتدت بها دورها المحدّد في ذلك. ، والتي تبرهن أنّ السياسة حرية وإبداع.
قرطاجة، صمدت بسياسة المقاومة ردحا طويلا من الزمن تجاه هيمنة روما، لكنها لم تتخلّص من تكبّد الخسارة منذ أصبحت مهووسة بالتحول إلى إمبراطورية على غرار روما. ذلك أنّ التحول إلى إمبراطورية مناقض لسياسة المقاومة. بل إنه إنكار للسياسة.
تدمر لم تتجنب مواجهة النهاية المأساوية عندما تخلّت عن سياستها في التوازن والادارة الذاتية تجاه الإمبراطوريتين الرومانية والبرسية–الساسانية. لقد سردت مأساة تدمر إحدى الأمثلة الضاربة للنظر، التي تشير إلى أنّ المقاومة في سبيل الحرية تؤدي إلى النصر، بينما حبّ السلطة يؤدي إلى الكارثة.
وفي القرن الأخير رغم أننا عشنا ثورات وانتفاضات وقدمنا تضحيات كبيرة مع الحرب العالمية الأولى والثانية في عدد كبير من دول المنطقة ولكننا فشلنا كشرق أوسطيين في بناء حياة تشاركية وسياسات تخدم مجتمعاتنا ونظم ديمقراطية لامركزية، وأتى الغرب وبكافة منتوجاته العسكرية والسياسية والثقافية وقسم جغرافية المنطقة دون أي اعتبار سوى لمصالحه وسياساته وشكل الدول القومية التي مثلت أكبر ضربة وإهانة وتجريف للسياسة و التقاليد الديمقراطية والثقافة التكاملية لشعوبنا ومنطقتنا، وبذلك تم فتح الباب للإبادات والتطهير العرقي ونجاح الثورات المضادة بكل معنى الكلمة.
وحتى في العقد الأخير أو الربيع العربي أو ربيع الشعوب، أتى غالبه بالإخوان والتنظيمات الإسلامية نتيجة الفراغ والتجريف الحاصل في المشهد الساسي لأسباب عديدة منها، عدم قدرة الأحزاب والشارع السياسي من لعب دوره الريادي لإنجاح التحركات والثورات وتقديم البدائل الديمقراطية التي تحقق مصالح وأهداف الشعوب ومجتمعات المنطقة، فلم نستطيع بذلك أن نؤسس لنظم ديمقراطية جديدة، بل صار الحنين للبائد بعد رؤية الجديد المجرد من كل المعاير والمبادئ الإنسانية.
إن الفجوة كبيرة بين النخبة السياسية والجماهير في دول الشرق الأوسط و التي أضاعت من اقدامها معالم الطرق الصحيحة نحو الحرية والديمقراطية ومازال الخطاب السياسي مؤدلج بخطاب ديني استعبادي وقومي أحادي وذكوري تملكي تجاه الأخر المختلف دينياً وقومياً و وجوداً. فالخطاب السياسي لا يهتم بالفكر والثقافة والعلم فالعلم أبنية وقاعات ومكانة اجتماعية وتَكبر على العامة وثقافة تفاعلية فوقية ومعرفية وخدمية جوفاء فارغة وخرافة ووهم.
كما أن حصر الحياة السياسية في الشرق الأوسط، بأحزاب نخبوية وفئات ضيقة مغتربة عن الواقع الحقيقي المؤلم للمجتمعات والشعوب وعدم الانفتاح على كامل المجتمع وتنظيمه تعد من أهم التحديات، فالطاقة الكامنة في مجتمعات وشعوب المنطقة هائلة وتستطيع جرف أقوى السلطات الفاشية والدكتاتوريات إن تم المساهمة في التنوير وبناء الوعي و التنظيم المجتمعي وبالتالي ظهور الإرادة الحرة والحقيقة للمجتمع وممارسة السياسية الديمقراطية المستندة للدفاع الذاتي والدبلوماسية المجتمعية الديمقراطية و التي تسطيع عندها وبها حل القضايا والمشاكل العالقة وتأمين كافة الاحتياجات. وهنا يمكن للأحزاب أن تلعب أدواراً هامة كالعمود الفقري في بناء جسد الوعي المجتمعي وصقله وبذلك يكون الحزب نواة بدئية للمجتمع الديمقراطي والعضو والكادر الحزبي نموذج للإنسان الديمقراطي الحر والمؤسسي الذي يساهم في إزالة العوائق أمام المجتمع لتعمل أنسجته الأخلاقية والسياسية وبذلك تكون الثورة والتغيير حقيقة و الحياة الحرة والنظام الديمقراطي قادم لامحالة.
السياسة والمقاومة.
كلما زادت الدولة والقوى السلطوية والدولتية من تضيقها للمجتمع وتجريفها السياسي، يكون معه التراجع أو رفض الحرية والديمقراطية. وهذا سياقٍ من فرض الخنوع والاستعمار والقمع على المجتمعات الأكثر حرية وديمقراطية، وقانون الربح الأعظم لاحتكارات رأس المال والسلطة يقتضي ذلك. وهنا تكتسب السياسة معناها باعتبارها نهج المقاومة لدى القوى المجتمعية وقوى الحرية والديمقراطية. إذ لا يمكن إنجاح أية خطوةٍ على درب الحرية والمساواة والديمقراطية من دون مقاومة. ولا يمكن إعاقة الاستعمار أو سدّ الطريق أمام استغلال الاحتكارات للمجتمع. وتعريف السياسة بفنّ الحرية يتأتى من دورها هذا. فكلّ طبقةٍ أو مدينةٍ أو شعبٍ أو مجتمع أو تكوين اجتماعي أو أمةٍ عاجزةٍ عن ممارسة السياسة أو تمنع من مزاولتها، إنما يعني أنّ الضربة الكبرى قد لحقت بقدرتها على التعبير والإرادة وعندها يكون الاستعباد و التصفية والموت هو القدر المحتوم.
إنّ حركات التحرر الوطنيّ في التاريخ المعاصر كانت استمرار لتقاليد المقاومة الشرق أوسطية والتي مثلها الرسل والمتنورين لدرجة كبيرة و كان هدف حركات التحرر الاستقلال السياسيّ، حتى وإن كان محرّفاً على شكل دولةٍ مستقلة. أما تحريف الليبرالية للاستقلال السياسيّ بتحويله إلى استقلال الدولة القومية المزيف، فيعني الاستمرار بتقاليد مقاومةٍ سياسيةٍ جدّ مهمة لمجتمعات وشعوب المنطقة، على الرغم من كبحها جماح السياسة عن أداء وظيفتها الحقيقية.
إن التقاليد الكونفدرالية الديمقراطية هي التي تطغى بالأكثر على مسار التاريخ. ونقول: إنّ الميول السائدة طيلة تاريخ المدنية هي المقاومة، لا الخنوع. ولا يمكننا تفسير التاريخ بشكلٍ صحيحٍ دون العلم أنه لم تبق منطقة أو محلّ يتواجد فيه ولو إنسان واحد إلا وتواجدت فيه المقاومة والسياسة.
السياسية والسلطة.
إن السياسة مضطرّة للتواجد التنظيم والعمل في كلّ مكان وعلى المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لأنّ أجهزة السلطة سائدة في نفس الأماكن والمستويات. وبما أنّ السلطة ترتكز إلى كلّ وحدةٍ وفردٍ اجتماعيّ و التنظيم فيه وغزوه واستعماره، فينبغي على السياسة أيضا أن ترتكز إلى كلّ وحدةٍ وفرد و وتنظيمه وكسبه وتحريره. وهناك استحالة مواجهتها بالبنى التنظيمية القديمة المتمحورة حول الدولة. ينبغي ابتداء السياسة من المقاومة في مواجهة السلطة.
ونظراً لأنّ السلطة تولّد الأيديولوجية الليبرالية والصناعوية والرأسمالية والدولة القومية، فعلى السياسة أيضا أن تنتج وتنشئ أيديولوجية الحرية والصناعة الأيكولوجية والمجتمع الكومونياليّ والكونفدرالية الديمقراطية.
إن مذهب الرأسمالية اليسارية لم تمارس السياسة فقط تجاه السلطة. بل وطبّق السلطة مقابل السياسة. عزّزت تلك الأحزاب سلطة المذهب الديمقراطيّ الاجتماعيّ (رأسمالية الخط الوسط) بعد إصلاحه.
أما مذهب الحركات التحررية الوطنية (الرأسمالية اليمينية)، فتحوّل على الفور إلى دولةٍ قومية، ليؤدي دورا رئيسياً في نشر الرأسمالية في أرجاء العالم.
تتجسد أخطاؤهم ونواقصهم الجدية في أنهم تشبّثوا بجزءٍ من السلطة (بالدولة القومية) تجاه السلطة ذاتها، أو أنهم تركوا الميدان خاويا كليا مقابل السلطة مثلما فعل الفوضويون بصورةٍ خاصة، أو أنهم تماطلوا والتهوا بمنظمات المجتمع المدني. كما إنّ أيّا منهم لم يتحلّ بالوعي الممنهج للسلطة أو بمهارة إبداع السياسة البديلة، ولم يروا داعيا لذلك.
الكونفدرالية الديمقراطية تعتبر وسيلة السياسة الديمقراطية.
لغة العصرانية الديمقراطية لغة سياسية. إذ تتصور كلّ بناها النظامية وتنشئها بالفنّ السياسي. فماهية المجتمع الأخلاقيّ والسياسيّ للعلوم الأساسية تذكّر بالسياسة، لا السلطة. والواقع الذي يحياه المجتمع الأخلاقيّ والسياسيّ في راهننا، أي قضيته الأولى بشأن الحرية والمساواة والديمقراطية، هي قضية وجودية. ذلك أنّ وجوده محاط بالخطر. فهجمات الحداثة في اتجاهاتٍ متعددةٍ تقتضي منه صون وجوده قبل أيّ شيءٍ آخر. وجواب العصرانية الديمقراطية إزاء تلك الهجمات هو الدفاع الذاتي الذي يعني المقاومة. إذ تصعب ممارسة السياسة دون الدفاع عن المجتمع. أنّ المجتمع واحد؛ ألا وهو المجتمع الأخلاقيّ والسياسي. وتتجسد القضية أولاً في إعادة هيكلة المجتمع ضمن ظروف العصرانية الأكثر تطورا ونماء، بعدما أفنته السلطة والدولة لحدٍّ بعيد وعرّضتاه للاستيلاء والاستعمار والاضطهاد. تشكّل السياسة الديمقراطية إلى جانب الدفاع الذاتيّ جوهر السياسة المرحلية.
فبينما تطوّر السياسة الديمقراطية المجتمع الأخلاقيّ والسياسيّ، فإنّ الدفاع الذاتيّ يحميه ضد هجمات السلطة التي تستهدف وجوده وحريته وبنيته المرتكزة إلى المساواة والديمقراطية. إننا لا نتحدث عن حربٍ تحريريةٍ وطنيةٍ من نوعٍ جديد، ولا عن حربٍ اجتماعية. بل نتكلم عن صون هويته وحريته ودمقرطته والدفاع عن مساواته ضمن الاختلاف. وفي حال عدم وجود الهجوم، فلن يبقى داعٍ للدفاع أيضاً.
إنّ شكل الحياة السياسية للقوى المضادة للمدنية، والتي تشكّل الاتجاه الأساسيّ في التاريخ، هو شكل كونفدراليّ. لن تقبل كلّ المكوّنات الاجتماعية الارتباط ببعضها بعضا بروابط رخوة، إلا بشرط إبداء الاحترام لاستقلالها الذاتيّ. بل لن ترضى بوجود قوى المدنية السلطوية والدولتية إلا بهذا الشرط. والظروف التي يغيب فيها الرضى هي الظروف التي تعاش فيها حالة الحرب الدائمة. بينما يتحقق السلام بوجود الرضى. يتجسد مبدأ الإدارة المجتمعية المقابلة لظاهرة السلطة ولبنية الدولة القومية في السياسة والكونفدرالية الديمقراطية. فبينما تمارس السياسة كسياسةٍ ديمقراطية، فإنّ كلّ الوحدات الاجتماعية تساهم في المرحلة الكونفدرالية كقوةٍ فيدرالية. هذا النظام عالم سياسيّ جديد. فبينما تحكم المدنية والحداثة بالأوامر، فإنّ الحضارة والعصرانية الديمقراطيتين تمارسان إدارتهما بمزاولة السياسة الحقة بالنقاش والوفاق. ومهما حرّفت حقائق التاريخ والحاضر أو طمست، فإنّ التطورات الاجتماعية الأولية قد تحققت في كنف ريادة فنّ السياسة. وبينما تجهد الرأسمالية للحفاظ على سلطتها ضمن ظروف الأزمة الكونية بناء على إعادة هيكلة الدولة القومية، فإنّ المهمّة الأساسية لكافة قوى العصرانية الديمقراطية أي قوى الحرية والديمقراطية ردّا على الأزمة تكمن في تطوير النظام الكونفدراليّ الديمقراطيّ الهادف إلى صون وتطوير المجتمع الأخلاقيّ والسياسي.
الكونفدرالية الديمقراطية شكل سياسيّ أساسيّ للعصرانية الديمقراطية، وتعبّر عن دورٍ حياتيٍّ في نشاطات إعادة هيكلتها. ونظرا لأنّ الكونفدرالية الديمقراطية تعدّ الخيار السياسيّ الرئيسيّ للعصرانية الديمقراطية ضد الدولة القومية، فإنّ الكونفدرالية الديمقراطية تعتبر وسيلة السياسة الديمقراطية الأنسب لصياغة الحلول للقضايا العالقة.
يتحقّق صعود الحرية و”المساواة ضمن الاختلاف” والديمقراطية بأفضل السبل في المجتمعات الأخلاقية والسياسية التي تسودها السياسة الديمقراطية. ذلك أنّ الحرية والمساواة والديمقراطية غير ممكنة إلا بقوة النقاش والقرار والممارسة، التي ينفّذها المجتمع بقوته الوجدانية والذهنية الذاتية الجوهرية. ولا يمكن تحقيق ذلك بأية قوةٍ من قوى الهندسة المجتمعية. وتعرض الكونفدرالية الديمقراطية خيار الأمة الديمقراطية كوسيلة حلٍّ أساسيةٍ للقضايا الأثنية والدينية والمدينية والمحلية والإقليمية والقومية الناجمة عن نموذج المجتمع الفاشيّ النمطيّ ذي اللون الواحد والمتكشّف عن تراصٍّ وتناغمٍ كليٍّ والمسيّر بيد الحداثة عن طريق الدولة القومية. فلكلّ أثنيةٍ ورؤيةٍ دينيّةٍ وواقعٍ مدينيٍّ أو محليٍّ أو إقليميٍّ أو قوميٍّ الحقّ في احتلال مكانه ضمن الأمة الديمقراطية بهويته الذاتية وبنيته الفيدرالية الديمقراطية.
من المهم التأميد أنه بمقدور قوى الحداثة الرأسمالية وقوى العصرانية الديمقراطية أن تعيش معا ضمن أجواء السلام المستتبّ على أساس قبول وجود وهويات بعضها البعض والاعتراف بالإدارات الديمقراطية الذاتية، مثلما حصل تاريخيا في العديد من المرات بين قوى المدنية والقوى الديمقراطية. وضمن هذا النطاق وهذه الظروف، يمكن للكيانات السياسية الكونفدرالية الديمقراطية وكيانات الدولة القومية أن تعيش معا ضمن سلامٍ مستتبٍّ داخل حدود الدولة القومية وخارجها على حدٍّ سواء.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب