دراساتسياسية

قراءة في القمة البريطانية الإفريقية للاستثمار 23-24 إبريل 2024

رامي زهدي- خبير الشؤون الإفريقية، نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات

«العودة البريطانية لإفريقيا.. عودة متأخرة، لكن ممكنة»

“هل تمضي بريطانيا إلى حيث مضت فرنسا إلى خارج إفريقيا، أم أن بريطانيا تعي أخيرًا وتستوعب الدروس الإفريقية المتكررة للعالم؟!”

الشراكات العادلة والاحترام المتبادل والمنافع المتوازنة المشتركة، والإصغاء إلى صوت إفريقيا، وتقديم صداقة الشعوب على صداقة الأنظمة الحاكمة، والكف عن التداخل الضار بالشؤون الداخلية لدول القارة والبعد عن توجيه وتضليل إرادة الشعوب الإفريقية وتنمية الصراعات والحروب وشراء الذمم لتحقيق النفع ولو على حساب حياة الشعوب الإفريقية.. هذا هو ما تبحث عنه إفريقيا الآن، سيمضي الجميع إلى حيث مضت فرنسا خارج القارة إن لم تنتبه القوى الدولية ومنها بريطانيا إلى التطور الإيجابي الحالي في رؤية إفريقيا للتعاون مع العالم.

المؤشرات منذ العام 2020 تشير إلى أن القارة الإفريقية، قارة الأصل والأصول المتخمة بالمشكلات والتحديات، لن تستمر أبدًا في وضع يديها في أيدي سارقيها ومستغليها أو القبول بإطارات لتعاون غير جاد أو وهمي أو لا يفي أبدًا بتعهداته، ويبدو أن عصر النيات الطيبة والقول المنمق دون أفعال مخلصة جادة وحقيقية قد انتهى في إفريقيا.

المملكة المتحدة استضافت قمة الاستثمار البريطانية الإفريقية خلال يومي 23، 24 أبريل من العام 2024، قمة ثانية بعد قمة أولى في العام 2020 شاركت بها 21 دولة إفريقية، وما بين القمتين، عقدت قمم افتراضية في الأعوام 2021، 2022.

يستضيف رئيس الوزراء البريطاني “ريشي سوناك” ذو الأصول الهندية، حيث مثلت الهند أحد أكبر المستعمرات الإنجليزية لبريطانيا العظمي، عددًا من رؤساء الدول والحكومات الإفريقية في فرصة إيجابية لرئيس وزراء إحدى أكبر قوى العالم ليعود مجددًا بدولته في مواجهة ظروف صعبة، “سوناك” ذو المسيرة السياسية والإدارية البارزة حيث شغل سابقًا منصب وزير الخزانة البريطانية لعامين، وسبق ذلك توليه منصب الأمين العام للخزانة، ونائبًا بمجلس العموم البريطاني منذ العام 2015 بالإضافة إلى ترؤسه حزب المحافظين، كل هذا التاريخ الحافل بدا غير كاف لـ “سوناك” “المسكين” في مواجهة ظروف اقتصادية صعبة داخليًّا وخارجيًّا وتوتر سياسي في الشارع وآثار سلبية منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مطلع العام 2020، ثم أزمات متتالية، وباء كوفيد ثم حرب روسية أوروبية وصراع دولي ما زال متناميًا، كل هذا الزخم يضاف لأسباب أخرى وجيهة الطرح لتجعل هذه القمة مهمة جدًا لبريطانيا ربما أكثر منها كثيرًا بالنسبة إلى إفريقيا.

القمة في شكلها العام ومضمونها تهدف إلى تعزيز النشاط التجاري والاستثماري في كلا الاتجاهين، وتمثل بوادر فرص لعودة بريطانية متأخرة، لكنها ممكنة وواجبة للرجوع إلى القارة الأصل عبر تحرك استراتيجي ممنهج ومخطط لعودة بريطانيا مرة أخرى إلى إفريقيا ومحاولة تحقيق نتائج أفضل من تلك التي سعت إليها بريطانيا عبر الـ20 عامًا الأولى من الألفية الجديدة.

شبح التراجع والخروج الفرنسي من القارة وتنامي مشاعر وإجراءات الرفض الإفريقي للسياسة الفرنسية في إفريقيا يسيطر على بريطانيا التي تأمل تجاوز هذه الهجمة الإفريقية التحررية ضد الغرب والولايات المتحدة بصفة عامة، وضد قوى الاستعمار التقليدية القديمة بصفة خاصة، وضد فرنسا وإنجلترا بصفة أكثر خصوصية.

القمة جمعت رؤساء دول وحكومات من 24 دولة إفريقية، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال البريطانيين والأفارقة، حيث هدفت القمة إلى تعزيز الشراكات بين المملكة المتحدة وإفريقيا لخلق فرص عمل ودعم بيئة المال والأعمال المشتركة، خاصة في قطاعات التمويل والتكنولوجيا وريادة الأعمال، ويأمل الجميع في الإعلان عن أرقام لاستثمار مباشر وتمويل تتجاوز ما أعلن عنه في القمة الأولى في العام 2020، حيث أعلن وقتها عن صفقات بقيمة 6.5 مليار جنيه إسترليني بالإضافة إلى التزامات استثمارية وتمويلية أخرى بقيمة 8.9 مليار جنيه إسترليني، وتبقى الجدية والالتزام بالوفاء بالتعهدات، حيث تعاني القارة الإفريقية كثيرًا من أقوال بلا أفعال، وتعهدات دون إلزام أو التزام، وبالتالي دون تنفيذ حقيقي، وأحيانًا تستخدم فكرة الوفاء بالتعهدات كأداة للمساومة السياسية وتوجيه وصنع قرار إفريقي مُرضٍ لقوى دولية ولو على حساب القارة ومصالحها المباشرة وغير المباشرة، خاصة أن القارة تصل بحلول العام 2050 إلى عدد سكان يتجاوز 2 مليار نسمة، وسوف يكون أكثر من نصفهم دون سن الـ25 عامًا، وهي الفئة والعمر القادر على العمل والكسب والتنمية، وبالتالي الإنفاق، ولكنها أيضًا الفئة القادرة على الحرب والصراع والفكر المتطرف والإرهاب وإدارة الجريمة المنظمة والجريمة العابرة للحدود إذا لم يحسن استخدام طاقات هؤلاء الشعوب لصالح جهود التنمية وأمن وسلم العالم.

المواطن الذي يعاني جوعًا ومرضًا وتراجعًا في خدمات التعليم والصحة وعدم توافر مبادئي الحياة الكريمة الأولية لا يمكن أن تنتظر منه أوطانهم عملًا حقيقيًّا وطنيًّا تنمويًّا لصالح الوطن.

ولأن التوقعات الاقتصادية تشير إلى نمو اقتصادي متسارع يفوق المتوسط العالمي في عدة مناطق إفريقية ويطال هذا النمو عددًا غير قليل من دول القارة، ربما نصف عدد دول القارة وأكثر من 60 % من شعوبها، باتت القمة البريطانية ومثلها من قمم منافسة مهمة في هذا التوقيت، قمم أمريكية إفريقية، خليجية إفريقية، ألمانية، روسية، صينية، وحتى كورية جنوبية يجري الإعداد لها حاليًا، الجميع يركض في ماراثون تجاه القارة دون توقف أو لحظات لالتقاط الأنفاس أو حتى النظر إلى الخلف، إن لم “تَسبِق تُسبَق”، وترى بريطانيا أن أمنها ونموها الاقتصادي يرتبط بجسور قوية بالقارة الإفريقية التي شكلت ثروات وعظمة المملكة المتحدة عبر الزمن، حيث كانت بريطانيا يومًا ما صاحبة “اليد الطولي” والأكثر تأثيرًا في حياة الأفارقة، وهي أيضًا صاحبة ذات “اليد الأطول” المتهمة باستغلالٍ غير عادل لثروات ومقدرات القارة.

تعد بريطانيا وفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أكبر مالك للأصول الأجنبية في القارة الإفريقية طبقًا لإحصاء 2020، بالتالي جاءت دعوة 24 دولة إفريقية من أهم دول التواجد الاقتصادي والإستراتيجي البريطاني في القارة، أبرزها مصر، جنوب إفريقيا، كينيا، زامبيا، نيجيريا، غانا، أوغندا، الجزائر، إثيوبيا، المغرب، وتظل لبريطانيا مكانة فريدة كونها مركزًا عالميًّا للمال ومستثمرًا محوريًّا بارزًا في القارة الإفريقية، وتمتلك إرثًا تاريخيًّا لدى شعوب القارة يتضح في اللغة والعادات والتقاليد لدول عديدة في القارة خاصة في شرق وجنوب القارة.

الصين أفريقيا صديق مخلص

تبلغ قيمة الاستثمارات البريطانية في إفريقيا أكثر من 40 مليار جنيه إسترليني، ونسبة التجارة المشتركة مع معظم دول القارة 7.7 % طبقا لإحصاء 2019، وبالتالي تستطيع بريطانيا تقديم دور فعال في دمج الاقتصاد الإفريقي في الاقتصاد العالمي خاصة في مجالات التبادل التجاري، الاستثمار المباشر، البنية التحتية، التمويل، الطاقة المتجددة وكذلك تستطيع تقديم إسهامات كبيرة في مجال دعم مواجهة القارة للآثار السلبية للتغيرات المناخية.

أسباب مهمة متعددة تبرز إلى أي مدى يتنامى الاحتياج البريطاني للقارة الإفريقية أكثر من الاحتياج الإفريقي ذاته لبريطانيا، تحتاج بريطانيا إلى عودة سريعة ومؤثرة للقارة الإفريقية في مواجهة توسع النفوذ الروسي والصيني في القارة الإفريقية وفي مواجهة محاولات التنافس الأوروبي على القارة خاصة مع فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وتحتاج بريطانيا إلى تقديم المزيد في إطار تحسين صورتها لدى الشعوب الإفريقية، خاصة أنها منذ إعلان التوجه إلى إفريقيا في القمة الأولى 2020 لم تقدم شيئًا قويًّا يمكن الاستناد إليه والبناء في القمة البريطانية الإفريقية 2024، لكن بريطانيا التي تعاني ظروفًا اقتصادية وسياسية صعبة وتراجعًا في قيم التجارة مع إفريقيا، علي سبيل المثال إلى 35 مليار دولار العام الماضي في مقابل 43 مليار دولار في 2012، وتراجع حصة بريطانيا من ورادات إفريقيا إلى 2.1 % مقارنة بـ 7 % في 1997 و3.2 % في 2012، وتراجعًا في الصادرات البريطانية إلى إفريقيا وإلى 2.6 % العام الماضي مقارنة بـ 4.4 % في 2013.

أخيرًا، إن الأفارقة ما زالوا يتطلعون إلى ضمير عالمي صادق ومخلص ونابض بالإنسانية لا إلى عالم متخاذل طامع وجامح وداعم لسرقة ثروات ومقدرات الشعوب أو داعم لآلة قتل للإنسانية مثلما تفعل إسرائيل في المنطقة وسط دعم وحماية من العالم وفي مقدمتهم “بريطانيا”.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى