الرئيسيةتقارير ومنوعات

تدابير يائسة لأجل البقاء.. الفقر والتغيرات المناخية وتأثيراتهما الممتدة على الزواج المبكر والقسري للفتيات بمنطقة القرن الأفريقي

نِهاد محمود

باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الأفريقية العليا- جامعة القاهرة

مع الأحوال شديدة الصعوبة التي تمرُّ بها القارة الأفريقية من ظروفٍ واضطراباتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ متناميةٍ (الحرب الروسية-الأوكرانية وتأثيراتها الممتدة على أغلب سبل العيش، الأزمات السياسية والاقتصادية والمناخية وغيرها) بما في ذلك منطقة القرن الأفريقي التي نوليها الاهتمام في هذا الإطار، والتي لم تكن هي الأخرى بمعزلٍ عن هذه الاضطرابات غير المتوقفة، بما في ذلك من التغيُّرات المناخية التي يصاحبها أزمات كالمجاعات نتيجة لفترات الجفاف أو الفيضانات التي تعصف بالمنطقة من آن لآخر، والمتوقع استمرارها، حيث يتوقع أن تشهد المنطقة درجات حرارة أعلى من المعتاد بين شهري أغسطس وأكتوبر المقبلين (2024)، وفقًا لوكالة المناخ التابعة لإيغاد، وستشهد المنطقة -التي تعد واحدة من أكثر المناطق عرضة للتقلبات المناخية- موجات من الجفاف، والتي تؤثر بدورها على المحاصيل الزراعية وتوافر المياه، بل وتُغَيّر نمط الحياة تمامًا، وغيرها من تكاليف يتكبدها مواطنو القرن الأفريقي.

اقرأ أيضا: طالع العدد الـ30 من مجلة العرب عن شهر يوليو 2024

في خضم كل هذه الأجواء الصعبة وتضاؤل فرص كسب العيش، تشتد لدى الأسر الحاجة إلى تلبية الحاجات الأساسية من طعام وشراب، فلا يجدون أمامهم سوى تزويج فتياتهم الصغار (أطفالهم) للحصول على المال اللازم لبقائهم على قيد الحياة. في هذا الإطار تحذِّر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) من أن فتيات لا تتجاوز أعمارهن 12 عامًا يجبرن على زواج الأطفال “بمعدلات مثيرة للقلق” في منطقة القرن الأفريقي -وهي منطقة تواجه أسوأ موجة جفاف منذ 40 عامًا- مع لجوء الأسر بشكل متزايد إلى تدابير شديدة الصعوبة من أجل البقاء.

وفي بعض أجزاء إثيوبيا، زاد معدل زواج الأطفال في الفترة من يناير إلى أبريل 2022 بأكثر من الضعف، مقارنة بالفترة نفسها من العام 2021. ونتيجة لتأثيرات الجفاف تضاعف عدد الأطفال المعرضين لخطر التسرب من المدارس في جميع أنحاء إثيوبيا وكينيا والصومال ثلاث مرات في الأشهر الثلاثة (مارس وأبريل ومايو) من عام 2022 فقط، حيث وصلوا من 1.1 مليون إلى ما يقدر بنحو 3.3 مليون طفل، وهو ما يعني أن يُنظَر إلى الفتيات من هؤلاء الأطفال على أنهن مستعدات للزواج.

من جهة أخرى أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الأزمة من خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود. فالصومال على سبيل المثال كانت تستورد ذات يوم 92% من قمحها من روسيا وأوكرانيا، لكن خطوط الإمداد تأثرت للغاية الآن، ما يعني الارتفاع الكبير في الأسعار، أيضًا أن الأسر باتت لا تستطيع شراء المواد الغذائية الأساسية، ما يدفعها لإجبار بناتها على الزواج في أعمار مبكرة للغاية من أجل الأموال.

الزواج لأجل المال

بالنسبة للآباء الأشد احتياجًا للمال، فإن زواج الفتيات في هذه السن المبكرة يعني الحصول على مهور تساعد في إعالة بقية أفراد الأسرة، كما أن الزواج بالنسبة لهم يعني إسقاط فرد عن كاهل الأسرة، بما يكلفه من طعام وشراب وغيرها من نفقات، وفرصة لدخول العروس لعائلة أخرى ربما تكون أفضل حالًا (ميسورة الحال)، لكنه يعني في الوقت ذاته نهاية طفولتهن.

في هذا الإطار يقول “آندي بروكس”، مستشار اليونيسف الإقليمي لحماية الطفل بإقليمي شرق وجنوب أفريقيا: “إننا نشهد معدلات مثيرة للقلق من زواج الأطفال وختان الإناث في جميع أنحاء القرن الأفريقي، حيث تقوم بعض الأسر المعوزة بالترتيب لتزويج فتيات لا تتجاوز أعمارهن اثني عشر عامًا لرجال أكبر من خمسة أضعاف أعمارهن”.

إثيوبيا:

وفقًا لمصادر حكومية إثيوبية، زاد زواج الأطفال في إثيوبيا بمعدل 119 في المائة في المناطق الأكثر تضررًا من الجفاف في البلاد كمنطقة أوروميا، ومنطقة الأمم الجنوبية، بين يناير وأبريل 2021 والفترة نفسها من عام 2022. وفي نفس الإطار الزمني، زادت حالات ختان الإناث في منطقة الأمم الجنوبية بنسبة 27%. وبسبب تأثير الجفاف، تتناقص المهور النقدية والغذاء والماشية، مما يعني أن الأسر قد تفكر في تزويج المزيد من الفتيات. وتدفع الأزمة أيضًا الإثيوبيين إلى ترك منازلهم، بما في ذلك الأخصائيون الاجتماعيون الذين كانوا يدعمون الأسر لحماية الفتيات من زواج الأطفال وتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية.

الصومال:

لا يختلف كثيرًا الوضع في الصومال؛ حيث تؤدي الكوارث المرتبطة بالمناخ إلى تفاقم انتشار ظاهرة زواج الأطفال والزواج المبكر والقسري في البلاد-Child, early and forced marriage (CEFM)، كما يوضح “أحمد حسن” مؤسس AWCC، المنظمة غير الربحية المهتمة بشؤون المرأة والطفل بمقديشيو، على سبيل المثال تقول المنظمة إن حالات الجفاف أو الفيضانات المتزايدة تؤثر على سُبُل عيش المجتمع المحلي؛ وبالتالي، فمن الشائع أن تحاول الأسر إزالة عبء الأطفال الإناث من خلال تزويجهن. حيث تؤدي الفيضانات إلى انعدام الأمن الغذائي، وتكون الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي معرضة بشدة للتخلص من فتياتها الصغيرات وتزويجهن للرجال في المناطق الحضرية، وللرجال العائدون من أوروبا أو أمريكا ومعهم قدر وفير من الأموال، وعمومًا فإن الأشخاص الأثرياء في الصومال يستغلون ضَعف تلك الأسر التي تستجيب بسهولة لطلبات زواج فتياتهن.

ندلل على ذلك (ظاهرة الزواج المبكر والقسري) بالاتجاه إلى إحدى المناطق الريفية النائية بوسط الصومال، حيث تبدأ قصة “هاوو أحمد علمي”، التي عقدت خطبتها في سن الرابعة عشرة فقط لرجل يبلغ من العمر 50 عامًا، وهو صديق وقريب لوالدها كما تروي، والذي تلقّى الإبل والأموال للقبول بهذا الزواج الذي تصفه “هاوو” بأنه كان بمثابة نهاية لحياتها، حيث تم دفع المال وتقديم الإبل من أجل زيجة خالية من موافقتها أو اختيارها. إن الواقع القاتم الذي واجهته “هاوو” يتردد صداه في نتائج المسح الديموغرافي الصحي الأول للصومال لعام 2020، والذي كشف عن أن 16٪ من النساء المتزوجات في سن 20-49 عامًا تزوجن قبل أن يبلغن سن 15 عامًا، فضلًا عن 34٪ تزوجن في سن 18 عامًا. تلقي مثل هذه الإحصائيات بظلالها على الصومال، وتضعها بين أكثر البيئات معاناة للفتيات الصغيرات.

إن الانتشار المتزايد لزواج الأطفال في منطقة القرن الأفريقي، والذي تفاقم بسبب أشد موجة جفاف تشهدها المنطقة منذ أربعة عقود كما ذكرنا أعلاه، يزيد من تفاقم هذا الوضع المزري. بالنسبة لهاوو، بدأ الكابوس عندما ظهرت ميول زوجها المسيئة في وقت مبكر من زواجهما. لكنها ظلت صامتة، خوفًا من العواقب التي قد تترتب على شرف أسرتها وسبل عيشها، رغم ما تتعرض له من عنف واعتداءات. إلا أنها بعد خمس سنوات من الزواج المضطرب، وجدت “هاوو” الشجاعة لطلب الطلاق، لتقابل المزيد من الظلم حيث طالب زوجها بإعادة مهرها، مما تركها عاجزة ومنفصلة عن أطفالها.

بعد ذكر “هاوو” الكثير من المآسي الماضية التي عايشتها ولا تزال تجني آثارها، باتت لا تتمنى من المجتمع الصومالي سوى الاعتراف بالحقوق المتأصلة للفتيات في التعليم والاستقلال في اختيار شركاء حياتهن. فتقول: “أحث جميع الآباء الصوماليين على الامتناع عن فرض الزواج على بناتهم، وهو الزواج الذي قد يحطم حياتهن. تستحق بناتكم الحرية في متابعة تعلميهن واختيار شركاء حياتهن بشكل مستقل. إن إجبارهن على الزواج يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوقهن الأساسية”.

أرض الصومال وبونتلاند:

في تقييم أجري في أرض الصومال بواسطة اليونيسيف في 2022، أفاد بأن ما يقرب من ربع الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أعربوا عن ارتفاع في العنف القائم على النوع الاجتماعي بسبب الجفاف، بما في ذلك زواج الأطفال، والعنف المنزلي، والعنف الجنسي، مع زيادات تفوق 50% عن بعض المناطق الأخرى بالإقليم الانفصالي. وخلص تقييم آخر للاحتياجات الإنسانية في بونتلاند، إلى أن زواج الأطفال يمثل 59% من الحالات التي تم الإبلاغ عنها لمقدمي الخدمات، والتي كان الكثير منها يتعلق أيضًا بتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية.

كينيا:

في كينيا لا يختلف الوضع على الإطلاق، حيث تواجه الفتيات مخاطر أكبر تتمثل في زواج الأطفال وتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية. على سبيل المثال أصبحت 14 مقاطعة من أصل 23 مقاطعة متأثرة بالجفاف بالفعل، كما باتت بؤرًا ساخنة لتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، حيث تصل معدلات انتشار الختان إلى 98%. وتتعرض الفتيات في هذه المناطق الآن لخطر الختان في سن أصغر، خاصة حين تقوم الأسر بإعدادهن للزواج. كما أن هناك أيضًا تقارير عن فتيات يعشن في المناطق الحدودية يتم نقلهن إلى البلدان المجاورة للخضوع لتشويه أعضائهن التناسلية الأنثوية، أو تزويجهن رجالًا أكبر سنًّا في البلدان المجاورة.

من جهة أخرى ففي جميع أنحاء كينيا تضطر النساء والفتيات في المناطق المتضررة من الجفاف إلى السير لمسافات أطول للحصول على المياه والموارد الأساسية الأخرى، ما يجعلهن أكثر عُرضة للعنف الجنسي. لذا أصبحت النساء والفتيات يمشين أكثر من ثلاث مرات أكثر عن ذي قبل، لمسافة تصل إلى 30 كيلومترًا في بعض المناطق التي تعاني من الجفاف.

التحديَّات وسياسات المواجهة:

تعمل اليونيسف على توسيع نطاق خدمات حماية الطفل المنقذة للحياة والعنف القائم على النوع الاجتماعي للاستجابة لاحتياجات الحماية المتزايدة بين النساء والأطفال الضعفاء في جميع أنحاء القرن الأفريقي. ويشمل ذلك إدارة برامج مجتمعية للحد من مخاطر العنف والاستغلال وسوء المعاملة وزواج الأطفال، وتقديم الخدمات لمساعدة النساء والأطفال على التعافي فيما بعد العنف. وتدعو اليونيسف إلى توسيع نطاق الخدمات التي تعالج حماية الطفل والعنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل عاجل، بما في ذلك من خلال الخدمات الدائمة والفرق المتنقلة للوصول إلى الفئات الأكثر ضعفًا.

كما تقول الهيئة الأمميَّة إن البيانات المتعلقة بزواج الأطفال وتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية محدودة للغاية (ما يعني أن النسب الحقيقية قد تكون أكثر للغاية مما هو معلن)، وذلك بسبب نقص التقارير والخدمات في منطقة القرن الأفريقي. يدلل على ذلك تحليل لليونيسف أشار إلى وجود مساحات واسعة من القرن الأفريقي تفتقر إلى وجود مرافق مخصصة للإبلاغ عن الحالات المتعلقة بالتسرب من التعليم أو ختان الإناث أو تزويجهن مبكرًا وقسرًا.

في الأخير نقول إنه لا غنى عن تضافر الجهود المحلية والإقليمية والدولية (الحكومية وغير الحكومية)، من أجل توفير سُبُل العيش الآمنة المستقرة لهذه الأسر، حتى لا تبحث عن بدائل لكسب المال عبر تزويج فتياتهن بهذه الطرق غير الآمنة. وفي هذا الإطار تقول اليونيسيف: “نحن بحاجة ماسة إلى مزيد من التمويل لتوسيع نطاق استجابتنا في إثيوبيا وكينيا والصومال، ليس فقط من أجل إنقاذ الأرواح على المدى القصير ولكن لحمايتهن على المدى الطويل”. بالتوازي مع ذلك كله لا بد من العمل على رفع الوعي بمخاطر التسرب من التعليم والزواج المبكر والقسري وتشويه الأعضاء التناسلية، والعنف المُمَارَس ضد الفتيات والنساء على أوسع نطاق ممكن، عبر كافة الوسائل والسُبُل المتاحة والأكثر انتشارًا بين المواطنين.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى