يعدُّ السلوك الأخلاقي أهم مدخلات الحكامة القياديَّة، حيث يتم توجيه الفعل الإنساني بصفة عامة توجيهًا صحيحًا ويضبطه؛ لأنه يشكِّل رقيبًا داخليًّا، ويزود الذات بأطر مرجعيَّة ترشد العمل، فهو يشكِّل البعد الوجداني لشخصيَّة القائد. فالسوك الأخلاقي ذو أهميَّة كبيرة في تأطير العلاقات الاجتماعيَّة، لأنها أساس في التنشئة الاجتماعيَّة وإعداد الموطنين ليكونوا لبناتٍ صالحةً متينةً للوطن، فالسلوك الأخلاقي، ركيزة لا يُستغنى عنها في كل العلوم لإعداد جيل قوي متكامل.
أولا: السلوك الأخلاقي:
1- مفهوم السلوك الأخلاقي:
هناك العديد من التعاريف للسلوك الأخلاقي ومنها:
- يعرفها الباحثون بأنها “مجموعة عامة من المعتقدات والقيم والمبادئ التي تحكم سلوك الفرد في اتخاذ القرارات وتمييز بين ما هو صواب أو خطأ، جيد أو سيئ”.
- “المبادئ والمعايير التي تعتبر أساسًا للسلوك المستحب، من أفراد العمل ويتعهد أفراده بالالتزام بها”.
- وهي المبادئ والمعايير التي تعدُّ مرجعًا للسلوك المطلوب لأفراد المهنة الواحدة، والتي يعتمد عليها المجتمع في تقييم أدائهم إيجابًا أو سلبًا.
والسلوك الأخلاقي له امتدادات في جميع مجالات الحياة اجتماعيَّة أم اقتصاديَّة أم سياسيَّة أم دينيَّة، والتي تشكل في مجموعها السلوك الأخلاقي.
اقرأ أيضا: الدكتور سمير الوصبي يكتب.. التنمية الروحية المستدامة
2- تشخيص السلوك الأخلاقي:
منذ الثمانينيات من القرن الماضي تغيرت المجتمعات وتغيرت الأوضاع في الأسر، وانشغل الوالدان بصورة غير محددة، وأصبحت مواجهة المسؤوليات عمليَّة تصدم القائمين بها، فهل بالإمكان القول إننا نواجه اليوم جيلًا بأكمله لم يتأصل لديه السلوك الأخلاقي الذي يجب أن يكون موضع اختبار، وكيف يسلك العاملون في مجال الحكامة القياديَّة إزاء مواقف الصراع والأزمات الأخلاقيَّة التي تتفجر في مواقف التعامل مع المحيطين بهم، سواء الأسر أم الزملاء أم المجتمع الكبير، وتستلزم منهم التمسك بأخلاقيات محددة منها: الإيمان، الشجاعة، الإخلاص، العدالة، المسؤولية.
وفي التسعينيات من القرن الماضي ناقشت دراسات عدة، منها دراسة سوكيت Socket (1993)، أوسر Oser (1994)، كولينرود Colenrud (1997)، وتيري Tirri (1999) أخلاقيات العمل في إطار مناقشة أكثر عمقًا للسلوك الأخلاقي، قاصدين بها نقطة الارتداد عند مواجهة مواقف الأزمات أثناء الممارسة المهنيَّة في إطار عمليَّة ديناميَّة يتم من خلالها تأسيس وفهم المعاني المرتبطة بالتفاعلات الاجتماعيَّة إزاء مواقف الممارسة العمليَّة اليوميَّة.
فالأهميَّة المطلقة لوجود هذا النسق الأخلاقي بغض النظر عن الوعي أو عدم الوعي بالسلوك الأخلاقي المحدد لما لهذا الوجود من دور في تحديد معالم واضحة لممارسات عمليَّة في أرض الواقع.
وفي تساؤل مبكِّر يقول ستيفنس Stephens (1985): “هل تتم عمليَّة التربية (الأخلاقيَّة) بما تشتمل عليه من تفاعلات وأشكال للتواصل على أنها عمليَّة تلقائيَّة تحدث بالفطرة من غير احتياج إلى دستور أخلاقي يحدد مسارها؟” وفي إجابة ملفتة يقول ستيفنس: “في غياب دساتير ولوائح أخلاقيَّة محددة تحكم العمل نلجأ إلى ممارسات واقعيَّة يحتكمون فيها إلى ما هو سائد في المجتمع من قيم، والتي لا تشبع احتياجاتهم كمتخصصين، وقد يجعل ذلك بالإمكان أو من المحتمل أن تبرز إلى الساحة اجتهادات فرديَّة أو محاولات من قبيل الصواب والخطأ، وهو ما لا تحمد عقباه في كثير من الأحيان.
أما كيدر وميرك Kidder& Mirk (2004) فيوجِّهان سؤالًا من المهم أن يطرحه كل فرد على نفسه: “هل يجب أن نحرص على أن نكون لائقين أخلاقيًّا مثلما نحرص على أن نكون لائقين صحيًّا؟” ويستعرضان للإجابة عن هذا السؤال نقاطًا مهمة يجب الالتفات إليها، وعلى رأسها درجة وعي الفرد بالقضايا الأخلاقيَّة في مواقف الحياة العامة وفي مجال المهنة، وأهميَّة هذا الوعي للنهوض بالقيم والالتزام بها، وهل تجد هذه القيم طريقها للتطبيق العملي أم هي مجرد أبواق لإصدار الشعارات؟ وهل هي قيم متسقة أم متصارعة، وليس من اليسير تطبيقها؟ وقد تدفعك واحدة في طريق وتجذبك الأخرى إلى ثان، وبخاصة في مثل هذا المجال، وما أهميَّة وجود لغة وأدوات خاصة ومحددة؟
ويشير ييمان Yeaman(2005) إلى دور المعتقدات الدينيَّة كأصول ثابتة تنطلق منها السلوكات الأخلاقيَّة، ويظل لها في الوقت ذاته بعد ثقافي – اجتماعي يفسح المجال لتنويعات تتجاوز الدساتير واللوائح.
إن الوعي بأهميَّة السلوك الأخلاقي للفرد يكمن في ممارسته العملية تجاه المواقف، وهو يزاول مهامه بصورة تلقائيَّة طبيعيَّة، وهي أخلاقيات متضمنة في واقع الممارسة الفعليَّة ونابعة منها.
ثانيا: أهداف الحكامة القياديَّة
لا تكتمل العناصر الإجرائية والمنهجية المحددة لمفهوم الحكامة القياديَّة للشيخ زايد دون تحديد الأهداف القياديَّة، وهي تتعدد تبعًا لاختلاف التصورات والفرضيات ونظرتها إلى الطبيعة الإنسانيَّة وعلاقتها بالمجتمع وقيمه، ومختلف الخبرات التي شكَّلت الوعي الجماعي للجماعات البشريَّة، ويرجع تعدد التصورات على مستوى تحديد الأهداف القياديَّة في نقاط منها: مدى ثبات الهدف القيادي وتغيره، علاقة الهدف القيادي بالخبرة وعلاقته بالحاضر والمستقبل، علاقة الهدف القيادي بالوسيلة والطابع الفردي والاجتماعي.
1: مدى ثبات الهدف القيادي وتغيره: إن الفلسفات القديمة التي تبحث في الميتافيزيقا ترى في الهدف القيادي حقيقة مطلقة ثابتة لا تتغير، وعليه، فإدراك الهدف المطلق يكون بإطلاق العنان للعقل. لذلك تكون العمليَّة القياديَّة موجَّهة وإملائيَّة تغيب معها أشكال الإبداع والابتكار، أما الفلسفات الحديثة التي ترفض البحث في الماورائيات؛ فالهدف القيادي من منظورها متغير تبعًا لتغيرات الحياة ومستجداتها، ومقياس صدقية الأهداف هو مدى استعمالها وتجربتها وتحقيقها للمنافع، لذلك اعتبر جون ديوي الأهداف “هي تلك التي تنبع أو تصدر عن المواقف المشكلة التي تظهر من خلال الأنشطة القائمة”. فالفلسفة التقليديَّة ترى في العمل القيادي تحقيقًا لما يجب أن يكون، وبذلك فأهدافها تتجه إلى المستقبل، أي إعداد الفرد للحياة القادمة. أما الفلسفة الحديثة فهي تجسيد للحياة الحاضرة والمستقبليَّة؛ فالاهتمامات الحاضرة للفرد هي أساس بناء مستقبله، ولذلك فالانشغالات القياديَّة تنطلق من واقع حاضر الفرد لبناء مستقبله.
وتشكِّل الخبرة أساسًا لتكوين الأهداف القياديَّة وبنائها من منظور الفلسفة الحديثة، فما يعيشه الفرد وما عاشه، إضافة إلى رغباته واهتماماته، وقدارته العقليَّة أساس لإقامة الهدف بصفة عامة؛ لأن القائد حين يقف على مشكلة فهو يوظِّف كل إمكانياته للتفكير والذكاء وإبداع الحلول انطلاقًا من خبراته؛ فالنشاطات الميدانية في جانب التسيير والتدبير والرحلات التي يقوم بها الفرد هي التي تشكل لديه الخبرة الضروريَّة لمجابهة الإكراهات والأزمات الاجتماعيَّة، والأصل هو أن القائد يستدعي مكتسباته المعرفيَّة والعمليَّة ليحقق التعامل الأنجع مع المحيط.
2: الأهداف القياديَّة بين الطابع الفردي والاجتماعي: يمثل الفرد أساس بناء المجتمع، لذلك فهو يحاط بكل أنواع الرعاية والاهتمام لتكوين المجتمع، لذلك “تمثل القيادة الحكيمة وسيلة لصب الأفراد داخل القوالب الفكريَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي ترغب فيها الدولة، ويتحدد الهدف القيادي في نطاق الجماعة وليس الفرد، فالجماعة تسمو على الفرد، وحريته تغيب وتنعدم أمام الجماعة. أما دعاة الاتجاه الفردي، فيرون أن الهدف القيادي ينبع أساسًا من إرادة الفرد ورغبته ليتوافق مع حريته ومصلحته، لأنه سيشكل مصدر إبداع؛ فالفرد يمثل القدرة والطاقة على إضفاء الجديد وتطوير المجتمع. وهناك أمر آخر يتعلق بعلاقة الهدف التربوي بالقيم، وهو روح الأهداف القياديَّة، فالقيم متعددة فرديَّة واجتماعيَّة، وماديَّة وروحيَّة، فالتأسيس للأهداف القياديَّة ينبغي أن يراعي سلَّم القيم، حتى إذا حدث تعارض وصراع بين مجموعة قيم يجد السلم الذي يحتكم إليه، فالواقع الاجتماعي متغير لا يعرف الثبات، لذلك وجب وضع تصورات للأهداف القياديَّة تتماشى وروح القيم السائدة لبناء شخصيَّة قياديَّة متكاملة تتفاعل إيجابيًّا مع مجتمعها.
إن الحكامة القياديَّة عمليَّة ضروريَّة وحاجة فرديَّة واجتماعيَّة؛ فهي هادفة لأنها تنبع من طبيعة الإنسان ومطالب المجتمع، والمتتبع للتطور الحضاري الإنساني يجد أن مفهوم الحكامة القياديَّة يقوم أساسًا على ما هو سائد اجتماعيًّا وثقافيًّا، لهذا تنوعت الأهداف التربويَّة تبعًا لكل حضارة وكل مذهب فكري سائد. فالأهداف قد تكون عامة وخاصة، وقد تكون فلسفيَّة أو إجرائيَّة، وقد تكون معرفيَّة أو سلوكيَّة، أو عمليَّة، وقد تكون فرديَّة أو اجتماعيَّة، وقد تكون قريبة المدى أو بعيدة المدى، وقد تكون مباشرة أو نهائيَّة أو مرحليَّة، أو قد تكون نسبيَّة أو مطلقة؛ فالحكامة القياديَّة ضروريَّة لأنها تحافظ على النوع الإنساني واستمرارية وجوده وتهذيبه وتنمية قدارته لحصول توافق بين الفرد وبيئته الطبيعيَّة والاجتماعيَّة لإحداث تطور اجتماعي ورقي حضاري؛ فالحكامة القياديَّة عمليَّة تساعد الفرد على تنمية استعداداته ومختلف جوانبه الجسميَّة والنفسيَّة والعقليَّة والخلقيَّة، فعندما يكتسب الفرد مختلف الخبرات الوظيفيَّة عبر توجيهاتها التدبيريَّة لمجالات وقطاعات الدولة ما يجعله فردًا نافعًا أي أن الحكامة القياديَّة تهدف لبناء وإعداد الإنسان المتمثل للقيم، الصالح لنفسه ومجتمعه وصياغة شخصيَّة الإنسان، فإذا كانت تربيته قائمة على أساس المبادئ العليا والفضائل ستكون بالتأكيد سببًا في إضفاء صبغتها على شخصيته.
إن الحكامة القياديَّة ترتبط بالعمل وتهيئة وإعداد الإنسان جسديًّا وفكريًّا لوظيفة، وتكوينه وإعداده لمواجهة مشاكل الحياة المعقدة تحقيقًا لإنسانيته وضمانًا لكرامته التي منحها الله إياه، وهي من يدفع النشاط الإنساني والتنظيم السياسي والاقتصادي أيضًا، وهي من يرسم معالم العلاقة بين الفرد والعالم الخارجي. وتعنى الحكامة القياديَّة بتهذيب السلوك وتطويره في إطار المجتمع، لهذا ينظر إليها أنها كعمليَّة نموٍّ فرديٍّ واجتماعيٍّ تحقق مصالح الفرد والجماعة، فهي مسألة حيويَّة وضرورة اجتماعيَّة.. إنها مسيرة من الجهد والكفاح لبلوغ الأهداف ذات الاستمداد الأخلاقي.
ولعل من أهداف الحكامة القياديَّة الكبرى إرشاد الأجيال الجديدة وتوعيتها بالتراث الثقافي، لأن التراث هو أحد مكونات الأمم والشعوب، فالتربية تعمل على نقل التراث بين الأجيال، خاصة ما تعلق منه بالقيم وتكرسها في الثقافة الاجتماعيَّة لذلك يجب أن تؤكد الأهداف على القيم الدينيَّة والإنسانيَّة والاجتماعيَّة معا. كما أن الحكامة القياديَّة محرك للمجتمع، فهي من يرتقي بالفرد في السلم الاجتماعي، وتفجر طموحاته وتزيد من آماله وتخلق التفاعل الدائم والمستمر بين الفرد والبيئة الطبيعيَّة والاجتماعيَّة؛ فتجعل الإنسان قادرًا على ملاءمة حاجاته مع الظروف المحيطة به عن طريق المؤسسات التربويَّة والاجتماعيَّة. إن الحكامة القياديَّة عمليَّة مستمرة لا تنتهي، تنتقل عبر الأفراد والأجيال المتلاحقة، فهي ما تدفع عجلة الزمن للبقاء، لأنها تقوم على المشاركة، فتكسب الفرد حضارة الأجداد وتهيِّئه لإضافة وتطوير حضارة المستقبل، هدفها أنسنة الإنسان، تجعله يعيش الحياة بمعاييرها وقيمها وسلوكاتها، وأطرها الاجتماعيَّة ومتشبعًا بالمعرفة، مما يساعده على مواجهة المستجدات وحل المشكلات اليوميَّة. وتتميز الحكامة القياديَّة بكونها عمليَّة اجتماعيَّة تفاعليَّة، من خلال وعي وإدراك الأهداف الإنسانيَّة، ما يجعلها تهدف إلى تحرير عقول الأفراد وتجديدها، فيجد الفرد ذاته من خلال ما تحمله من رؤية طموحة ومشروع حضاري ما يدفع الفرد لتنمية قدراته ومهاراته وينخرط في المجتمع عبر المشاركة الإيجابيَّة الاجتماعيَّة.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب