دراساتسياسية

أحمد شيخو يكتب.. الأحزاب السياسية بين الانتهاء والريادة الديمقراطية

الكاتب باحث وسياسي كردي سوري.. خاص منصة العرب الرقمية

هل الأحزاب السياسية أدوات مرحلية ظهرت وستموت تحت تأثير وتداعيات ومستلزمات أنظمة الهيمنة العالمية الرأسمالية منذ ثلاثة قرون ومنظريهم وخاصة أفكارهم الاستشراقية التي كان لها التأثير الواضح في نشوء مختلف التيارات والتوجهات من اليمينية إلى اليسارية والليبرالية في منطقتنا وحول العالم؟

هل تحتاج المجتمعات والشعوب والدول دائماً إلى الأحزاب السياسية في مراحل نضالها وحياتها؟ ومتى يقل دور الأحزاب؟ ولماذا؟ وما المشهد الحزبي القائم في المنطقة؟

هل هناك تشابه بين الأحزاب والأديان؟

كيف يمكن تطوير الأداة الحزبية لخدمة المجتمعات والشعوب؟ وما الأدوار الممكنة والمفيدة والضرورية التي تستطيع أن تقوم بها الأحزاب في مرحلتنا الحالية؟ وما الشخصية الحزبية الريادية أو الكادر الأكاديمي المطلوب بناؤه ليكون نواة المجتمع الديمقراطي؟

ماذا يعني حل القضية الكردية للمنطقة وللشرق الأوسط؟

كانت الشخصيات الحكيمة والكهنة والأطراف السياسية والمذاهب الدينية في مجتمعات العصور القديمة تلعب دور الأحزاب المعاصرة. كما كانت السلالات المتحاربة في الساحة والأفرع العسكرية وعلماء الطبقة البيروقراطية المتنازعة تستميل عدداً كبيراً من الحلفاء لمصافّها، في سعي منها لإحراز التفوق وبسط النفوذ.

وتزامناً مع ولادة القضايا الاجتماعية، تظهر أيضاً الأحزاب المتميزة بمختلف مقترحات وسبل وأدوات الحلّ. ولطالما تواجدت الأحزاب على مرّ العصور، علنيةً كانت أم سرية. فاللجوء إلى قوة الحزب هو السبيل المنطقيّ الأفضل، في حال عدم كفاية القوة الشخصية للتدخل في أية قضية اجتماعية، أو للتصدي لأية إدارة داخلية أو خارجية. فلكلّ مواجهة حزبها. حتى الأديان والمذاهب التي تشتمل عليها والطرائق الدينية أيضاً تلعب دور الحزب في انطلاقتها. فكلّ واحد منها في نهاية المآل حزب قائم بذاته، أياً كانت الهوية التي يسمّي بها نفسه أيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً. وفي عهد الهيمنة العالمية والحداثة الرأسمالية، اتّخذت هذه التقاليد التاريخية أشكالاً جديدة، متحولةً بذلك تدريجياً إلى الأحزاب المعروفة بمعناها الراهن من قواعد وأفرع ومكاتب ومجالس مركزية وهيئات قيادية ورئيس.

تؤدي الأحزاب أدواراً مهمةً من قبيل: إبراز الشرائح الاجتماعية التي تعتمد عليها أو تهدف إليها، وتمثيلها، واستبيان أحقيتها، وإعادة صقل معالمها حسب المعايير العصرية. كلّ هذه الحجج تبرهن استحالة التخلي بسهولة عن دور الحقيقة الحزبية داخل المجتمعات. والزعم بعدم جدوى الأحزاب ليس بالأمر اليسير لأجل مجتمع يطمح إلى صون نفسه والرقيّ بذاته. لكنّ هذه الأوضاع لا تعني أنه لا يمكن الاستغناء بتاتاً عن الأحزاب. فكلما تطور مجتمع ما، وتقاسم شؤونه مع كافة أعضائه ومنسوبيه؛ خسر التحزب أو المحازبة معناه وجدواه. كما ولا يشعر مجتمع ما بالحاجة إلى المحازبة، عندما يكون في مستوى كلانات بدائية أو يعيش على شكل أنساب قبليّة. فجميع الكلانات أو القبائل هي في الواقع بمنزلة أحزاب. ونشوء الأحزاب دليل على وجود طبقات ومصالح مضادة لها ضمن المجتمع. بالتالي، تفقد التحزبات المختلفة معناها، كلما زالت الفوارق الطبقية وتقاطعت المصالح. وأحياناً تؤسّس عدة أحزاب لأداء نفس الوظيفة الاجتماعية. لكنّ أمثال تلك الأحزاب لن تنأى بنفسها عن الفناء في وجه حزب أثبت جدارته من حيث الثبات والقيام بدوره المأمول. كلّ السرود الآنفة تسرد أسباب استحالة تخلينا عن الأحزاب الاجتماعية. بل وحتى إنّ امتلاك كينونة الدولة أيضاً لن يكفي تماماً لتغطية الحاجة إلى التحزب.

المشهد السياسي:

لكن لو نظرنا لواقع الأحزاب ودول المنطقة وحالة التحزب الأجوف والفراغ الفكري والسياسي والثقافي الموجود سندرك بعضا من حالة الضعف والهزيمة التي لحقت بالكثير من الأحزاب التي كانت لها صولات وجولات ولها ملايين المنضمين والمؤيدين، المشكلة أن الغالبية من الأحزاب والتيارات السياسية وكذلك حركات التحرر الوطنية وبمختلف مشاربهم وتناقضاتهم كانوا منتوجات للأفكار الاستشراقية الحداثوية أو تأثروا وتم بناؤهم تحت هذه الأفكار والظروف السائدة، بحيث إن بوصلة توجهاتهم كانت لخدمة الهيمنة العالمية وأدواتهم الإقليمية، رغم أنهم ظنوا أنهم مستقلون ويخدمون أوطانهم وشعوبهم، لكن بعد حوالي 60 أو 70 سنة تبين أن الأفكار التي كانت تحملها هذه الأحزاب والهياكل والأطر السياسية كانت بتوجيه من الخارج كالأفكار القومية والسلطوية- الدولتية والإسلام السياسي والجنسوية المقيتة.

طبعا يمكننا أن نرى هذه الحقائق من خلال ما يعيشه أغلب الأحزاب القومية واليسارية واليمينية والإسلامية التي فشلت في إدارة مجتمعاتها والدول التي ظنت أنها تقودها، ولكن مع حالة الأزمة والفوضى في المنطقة تبين هشاشة وسوء إدارة وتابعية هذه الأحزاب للخارج، وخاصة تلك الأحزاب التي قادت الدول القومية الأحادية التي هزمت أمام أول عاصفة وأزمة حقيقية لبعدها واغترابها عن تمثيل والقرب من الحقيقة المجتمعية، وإن لم يكن كذلك فكيف يمكن أن نجد إنسانا يكون في الصبح يساريا وفي الظهر يمينيا وفي الليل ليبراليا أو إسلاميا، فالحقيقة ليس هناك انتماء أو فكر وأداء يمثل الحقيقة المجتمعية بصدق، بل إنها كانت أحزابا أدواتية للوصول للسلطة والحكم فقط، وليس لمعالجة القضايا الأساسية التي قام الكثير منها لحلها أو تحزب حول حلها.

ولعل حالة الأحزاب اليسارية في المنطقة وكذلك القومية التي أضاعت بوصلتها وتخلت عن شعاراتها التي كانت ترددها ليل نهار فنرى في دول المناطق أحزابا يسارية، ولكنها فاشية، أو أحزابا شيوعية ومتحالفة مع الإسلاموية الشيعية أو السنية، وهناك الليبرالي المصلحي الذي يتحالف مع الكل وحتى الشيطان للحصول على المناصب والكراسي. حتى أصبح بعض الأحزاب في دول المنطقة موسمية ومنسباتية، فتؤسس قبل الانتخابات وتحل بعد الانتخابات، وكأنها فقط وسيلة لدخول الانتخابات والوصول للبرلمان أو الإدارة المحلية وبعض الكراسي والمناصب.

كما أن ثنائية المعارضة والمولاة أصبحت لعبة لا جدوى منها مع تحكم ونفوذ الدولة العميقة في هذه الثنائية، ففي الكثير من دول المنطقة الأحزاب الموجودة في السلطة أو المعارضة هي أحزاب دولتية ولأجل السلطة والدولة، ولها أدوار معينة ومحددة في السلطة أو البرلمان أو خارجها، تؤديها حسب موقعها وهم يتفقون في الأمور التي تهم الدولة وأجهزتها ويتخالفون ويتصارعون لتقديم مشاهد مسرحية في البرلمان أو في الإعلام لخداع الجماهير، وإيهام أن هناك معارضة وموالاة. كما هي الأحزاب السياسية في تركيا وفي الكثير من دول المنطقة، فكل أحزاب تركيا -ما عدا حزب الشعوب الديمقراطي- له موقف واحد وهي تؤيد كل ممارسات وأفعال وتدخلات واحتلالات تركيا داخلياً وخارجياً.

وهناك الأحزاب الصغيرة التي تشكلها الأحزاب الكبيرة لأدوار معينة لسد الطريق أمام كتل وأحزاب أخرى، أو لقول إن الحزب الفلاني والفلاني أيضاً في توافق مع المسار السياسي للحزب الكبير.

ومن المهم التطرق إلى المشاريع والأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحملها الأحزاب السياسية بغض النظر عن الأشخاص والوجوه التي في أغلب الأحيان والأحزاب تظل نفسها وكأنها أحزاب شخصية أو عائلية لا تخرج عن النطاق الضيق، كما هي سلطات ودول المنطقة القوموية التي تدعي أنها جمهورية وديمقراطية وقومية وهي تتمسك بالسلطة ولا تتنازل عنها إلا إلى القبر.

من الصحيح ونتيجة تبلور المشهد السياسي في المنطقة في ظل الهيمنة العالمية وأدواتهم السلطوتية-الدولتية من القوموية والإسلاموية والجنسوية وأزماتهم المتفاقمة، هناك ضغوطات كبيرة ومساحة التعبير والتنظيم والتوعية السياسية ضيقة غير كافية في دول المنطقة لتواجد ونمو مسارات وسياقات سياسية متنوعة ومختلفة تستطيع أن تعبر عن نفسها ورؤيتها وحلولها، لكن ورغم ذلك لم تقم هذه الأحزاب بالخطوات والجهد والعمل اللازم لتطوير نفسها وأدواتها وأساليبها فهي إما ذات أساليب تصادمية وإنكارية للآخر فتتم غلقها ومنعها أو أنها ذات أساليب تصالحية مرنة جداً لا تستطيع حماية نفسها وأعضائها ورؤيتها، إن كانت موجودة، من الذوبان والانصهار والفناء، فالنضال السياسي والأيديولوجي والفكري يحتاج لفكر متنور وقادر على الرؤية الصحيحة وأساليب وأدوات تستطيع قراءة التحديات وخلق آليات المواجهة والنضال المناسبة. وهناك نوع من النضال الحزبي والشعبي الديمقراطي يرفضه بعض الدول القومية لأنه يمس هذا الكيان الدولتي المصطنع الأحادي الذي يقوم على النمطية والتجانس والمركزية الشديدة والتابع للخارج، وهمه تقزيم وإضعاف خصوصيات وألوان وألسنة الشعوب والمجتمعات.

وعندما لا يستطيع الحزب تمثيل الحقيقة المجتمعية وصقل الطبقة والفئة المستهدفة أو عندما لا تكون بالمستوى اللازم لتقديم القراءة والرؤية الثاقبة للأحداث وتمثيلها مع حالة النفاق والتضاد بين القول والفعل لن يبقى حول الحزب الكثير من الأعضاء والمؤيدين، علاوة على حالة الجهل السياسي والثقافي والفكري المتواجد في المنطقة بين النخب السياسية والثقافية وفي المجتمعات والشعوب التي حاولت القوى السلطوية- الدولتية فرضها لكي تستطيع فرض أجندتها ورؤيتها التي تخدم أهدافها ومصالحها.

وعليه فالحالة السياسية والحزبية هي أيضاً تعاني من أزمة كما هي الاقتصادية والأمنية، بل إن التصحر السياسي والفراغ السياسي الموجود هو أحد أسباب الأزمات الأخرى وتصاعدها، في الوقت الذي هو مطلوب من الفعل الحزبي السياسي قيادة نضال وكفاح التغيير والإصلاح وطرح الحلول، ولكن هذه الأحزاب تحتاج من يطرح عليها حلولا لتخرج هي من أزماتها وتقوقعاتها، وتكون أحزابا بقدر المسؤولية، وتعيش زمانها لا زمان غيرها، الذين أنجزوا ربما ورحلوا، ولكن في الوقت الحالي تحتاج إلى ما هو جديد ويتناسب مع الواقع والشروط الحالية كما هي الأحزاب اليسارية والقوموية وحتى الإسلامية التي دفنت نفسها في الماضي دون الاعتماد عليه كقيم ومبادئ وتطويره وتجديده وفق الظروف والشروط والتحديات الحالية. الممكن والصحيح هو العيش في الحاضر والاستفادة من دورس الماضي لا العيش في الماضي وكأننا مستحثات لا نستطيع القيام بالتجديد والإبداع وتقديم الحلول والأفكار والأطروحات الجديدة للأزمات الحالية، وكما هناك حاجة لتجديد الخطاب الديني فهناك حاجة لتجديد الخطاب القومي المتخشب، رغم فشل كل محاولات فرض النمطية والتجانس واللون الواحد من قبل التيارات والدول القومية، كما هو حال بعض اليساريين والأحزاب الشيوعية الذين لا يريدون تطوير وتجديد أنفسهم وآرائهم وأحزابهم رغم أنهم ينتهون ويضعفون كل يوم حتى أصبحوا عديمي الأثر والوجود في المشهد السياسي في دولهم ومجتمعاتهم، وسينتهون إذا استمروا على مواقفهم وجمودهم الفكري والفلسفي السياسي.

وعليه فمن الصحيح القول إن هذه الأحزاب والتيارات السياسية هي أدوات سلطوية- دولتية غير قادرة على إبداع الفكر والحوار السياسي للحياة ومتطلباتها الحياتية، ناهيك عن الضعف الثقافي والجهل ببواطن وتواريخ المنطقة والأمور والاعتماد على ما هو جاهز من أصحاب السلطات والمال والهيمنات عبر الوسائل التقنية والإنترنت والإعلام الممول التي تتحكم بها قوى الهيمنة والرأسمالية العالمية وأدواتها وتوجهاتها وأزلامها.

والإشكالية الكبيرة أن الأحزاب السياسية ورغم ادعائها أنها ضد جهات وأطراف معينة، لكن لو تتبعنا سلوكياتها ومسيرة حياتهم ونمط حياة القيادات وأفراد هذه الأحزاب فسنجد أنهم يتشبهون بالذين يتم وصفهم بالجانب الآخر السلبي، فكيف ستنتصر على شخص وجهة وأنت تخضع له في أسلوب ونمط حياتك لأسلوبه ونمط حياته، فالنضال والمعركة خاسرة حتى قبل أن تبدأ، طالما أن الاثنين يتبعون نفس نمط الحياة، ويتبعون نفس الوسائل والطرق، فنفس الطرق تؤدي إلى نفس النتائج، رغم الادعاء بالأهداف المختلفة، وفي هذه حقيقة مهمة يجب عدم إغفالها، فالكلام النظري والتعبئة الجماهيرية والحزبية لن تكون ناجحة ومفيدة في حال وجود نفاق وازدواجية وخلاف بين النظري والعملي، وهنا يكمن التعريف الصحيح في الأيدولوجية، وهي ليست مجموعة عقائد ومبادئ ثابتة فقط بل هي نمط وطريقة الحياة والحداثة المتبعة وليس السفسطة والثرثرة والقالبية والدوغمائية في واد بعيد عن الواقع والحقيقة ومتطلبات ومصالح المجتمعات والشعوب.

ونستطيع القول إن الأحزاب والتيارات السياسية وبهذه الأشكال والأنماط هي أحزاب وقوى سياسية سلطوية_ دولتية، ترغب أن تكون القائدة للدولة والمجتمع كنمط فاشي، وليس لها علاقة بالديمقراطية أو بالمجتمع الذي يبحث عن من يمثله ويمثل حقيقته ويدافع عن مصالحه وليس من يستخدمه للوصول للسلطة والحكم ثم تركه فريسة ومادة خادمة للسلطات القادمة وأصحاب رؤوس الأموال تنهش فيه وتأكل حقوقه بدون وجه حق وتحت اسم الثورة والسلطة الجديدة، أين كانت تسمياتها السياسية وانتماؤها الديني والعقائدي والقومي والسياسي؟

أما بالنسبة للنظام الذي يطرحه المفكر والقائد عبدالله أوجلان، العصرانية الديمقراطية كبديل للهيمنة العالمية الرأسمالية على المنطقة وأدواتها وتقسيماتها وأحزابها فهو النظام الديمقراطي الذي يبحث عن المجتمعات والشعوب والأمم أولاً، فالحزبية أو الريادة الديمقراطية تعني التلاحم الأيديولوجيّ والعمليّ مع عناصر هذا النظام. أي أنّ مصطلح الحزب الذي كان يناط سابقاً بالدور الطليعيّ، قد تمّ تمكينه على شكل ريادة العصرانية الديمقراطية نظرياً وعملياً. أما المهمّة الأولية للريادة الجديدة، فهي تغطية الاحتياجات الذهنية والإرادية للمجتمع الاقتصاديّ والأيكولوجيّ والديمقراطيّ، الذي يشكّل الدعامات الثلاث لهذا النظام في الإدارة الكونفدرالية الديمقراطية المدينية والمناطقية والإقليمية والوطنية والعابرة للقوميات. ومن الضروريّ بمكان تشييد البنى الأكاديمية بما يكفي كمّاً ونوعاً. هذا وبالمقدور إنشاء هذه الوحدات الأكاديمية الجديدة بأسماء مختلفة تتوافق ومضامينها، بحيث لا تقتصر فقط على انتقاد العالم الأكاديميّ للحداثة، بل وتصوغ البديل اللازم أيضاً إلى جانب ذلك. أي أنّ المهمّة الأساسية هي إنشاء الوحدات الأكاديمية بشأن كافة ميادين الحياة الاجتماعية حسب الأهمية والحاجة، وفي مقدمتها ميادين التقنية الاقتصادية، الزراعة الأيكولوجية، السياسة الديمقراطية، الدفاع– الأمن، المرأة– الحرية، الثقافة– الهوية، التاريخ– اللغة، العلم– الفلسفة، والدين– الفن. ذلك أنه محال إنشاء عناصر العصرانية الديمقراطية، دون وجود فريق كادريّ أكاديميّ متين. أي، وكيفما لا معنى للكادر الأكاديميّ من دون عناصر العصرانية الديمقراطية، فعناصر العصرانية الديمقراطية أيضاً لن تفيد أو تنجح في شيء من دون الكوادر الأكاديميّة. بمعنى آخر، فالكلّيّاتية المتداخلة شرط لا ملاذ منه في سبيل المعنى والنجاح.

يجب التخلي عن مفاهيم حداثة النظام العالمي الرأسمالي وتخطّيه بكلّ تأكيد، والذي يبدو على المرء كرداء اللعنة والعبودية لفصله بين الفكر والقول والعمل. فعلامات النّبل والجلال هي ضرورة عدم التمييز إطلاقاً بين الفكر والقول والعمل، والتحلي بالحقيقة دوماً، وعيشها وارتداؤها ضمن كلّيّاتية متكاملة. وكلّ من يعجز عن تجسيد ثلاثتها معاً، فعليه ألا يخوض حرب الحقيقة أو يتكلم عن السياسية والنضال المجتمعي. فحرب الحقيقة لا تقبل تحريفات وآراء ومصطلحات الحداثة الرأسمالية العالمية المهيمنة، ولا تستطيع العيش بها، فالكادر الأكاديميّ هو الدماغ والتنظيم والأوعية الشعرية المنتشرة في الجسم (المجتمع). وبما أن الحقيقة متكاملة وأن الحقيقة هي الواقع الكلّيّاتيّ المعبّر عنه، فالكادر هو الحقيقة المنظّمة والمتحولة إلى ممارسة وأداء وسلوك.

وفي تجربة الشعب والمجتمع الكردي الحزبية والسياسية والريادية الكثير من الدروس والعبر لكل أحزاب وتيارات النضال في المنطقة والعالم، كونه تعرض لمؤامرات دولية، ويعيش واقعا فيه الكثير من التحديات، وظل يشكل أمة ليس لها دولة قومية كباقي الشعوب ومعرضا للإبادة والتطهير العرقي، وكانت الأحزاب الكردية تريد تمثيل المجتمع وصقله وتوعيته وخلاصه من الإبادة والانصهار والتصفية والموت وإيجاد آليات الحماية والدفاع الذاتية المشروعة والسياسة الديمقراطية وبناء منظومة العلاقات وممارسة الدبلوماسية الشعبية باسم الشعب الكردي مع المحيط والعالم للوصول إلى فرض قضيته على الساحة السياسية والعسكرية في الإقليم والعالم للوصول لإنجاز وتحقيق الحرية والديمقراطية له وللشعوب المجاورة والمتشاركة معه، عبر إحياء التاريخ والثقافة الذاتيين، وكذلك البحث والتجديد وتقديم كل ما هو مفيد وصالح ومثمر للساحة والمشهد السياسي النضالي والحزبي الذي تم توسعته ليكون المجتمع بكامله في غمرة النضال والبحث عن حرية الشعب الكردي في بناء النظام وإدارة المجتمع والشعب عبر أفق ديمقراطية واسعة وريادة سياسية وأيدولوجية وفلسفية للحياة السياسية وللكادر الحزبي الأكاديمي الذي يمثل نواة الحل والديمقراطية لمجتمع الحل وهو المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي والاقتصادي، كبديل للرأسمالية وقومويتها الدولتية وتقسيماتها في المنطقة.

يأتي استقبال الشعب الكردي لحزب العمال الكردستاني (PKK) بحفاوة واهتمام عظيم منذ أيام ولادته في نهاية السبعينيات وتحوله لأكبر حزب أو إطار تنظيمي ديمقراطي كردي شعبي، ثم تجاوزه البعد الكردي إلى منظومة المجتمع الكردستاني KCK))، ثم إلى الشرق أوسطية في مشروعه الكونفدرالية الديمقراطية لأمم الشرق الأوسط من:

  • ملئه فراغاً كبيراً في المجتمع الكرديّ وشعوب المنطقة وفي السياقات المجتمعية الديمقراطية نتيجة تواجد الأحزاب الساقطة والتابعة للقومويات الدولتية الحاكمة على الكرد وشعوب المنطقة ورعاتهم الإقليميين والعالميين، فلم يكونوا أحزاب الشعب ولم يكن لديهم الثقة والإيمان بالشعوب وقوتهم رغم حالات الضعف المفروضة.
  • تلبيته حاجات حياتيةً ضمن المجتمع الكردي وضمن شعوب وأمم المنطقة. وكلما أثبت (KCK وPKK) ثباته ومبدئيته في القول والعمل، تضاعف الإقبال عليه والقبول به داخل المجتمعات والشعوب والأمم.
  • حفاظه على اعتباره وعلى الشعور بعدم الاستغناء عنه ضمن المجتمعات والشعوب، رغم بعض النواقص، وبعض الأضرار التي تسبّب بها، إنما ينبع من تلبيته حاجةً تاريخيةً واجتماعيةً ملحوظة، ومن قيامه بدور كهذا.
  • طرحه المشروع الديمقراطي المجسد لقيم المنطقة وثقافتها والدمج بين التاريخ والثقافة والعلوم المعاصرة وإنجازه تركيبات فكرية وفلسفية ومجتمعية ديمقراطية جديدة كالأمة الديمقراطية والعصرانية الديمقراطية.
  • تجاوزه القوموية والإسلاموية والجنسوية واعتماد أخوة الشعوب وحرية المرأة وريادتها مع الشباب لجهود التغيير والإنجاز والبناء.
  • اعتماده على المجتمعات والشعوب كاستراتيجية وأصول موارد لاستقلالية الفكر والإرادة والمشروع والهدف وكاستراتيجية طويلة للبقاء والنضال دون الخضوع لغير الشعوب والمجتمعات والوصول لهدف الحرية والديمقراطية مع فتح الأبواب للعلاقات والتواصل المرن مع الجميع حتى القوى السلطوية- الدولتية والمهيمنة العالمية مع الحفاظ على الهوية الأيدولوجية.

إنّ مقدرة الأحزاب والأطر التنظيمية السياسية المختلفة وحتى بعض منظمات المجتمع المدني وكافة الأطر والصيغ المجتمعية ومنهم الأحزاب الكردية والعربية ومنهم حزب العمال الكردستاني PKK الذي يمثل أحد الفواعل المهمة ليس في المجتمع الكردي، بل في المنطقة من غير الدول، يتوقف على أداء أدوارهم في المرحلة الجديدة، وهو مرتبط بمدى إعطائهم الجواب اللازم للاحتياجات التاريخية، وتأديته مهامّهم الراهنة بصيغ وأشكال صحيحة وسليمة.

فواقع الأمة العربية وحالة الربيع العربي أو الخريف ما زال يحتفظ بتداعيات وتحديات كبيرة أمام الأحزاب والسياسة العربية، وحالة ظهور حركات الإخوان الإرهابية وتخبط الأحزاب القومية وقالبيتهم وجمودهم مع الأحزاب والتيارات اليسارية والشيوعية والتقدمية التي أضاعت البوصلة، فمرة تقف مع الإسلام السياسي، ومرة مع الليبراليين اليمينين، وكأن ليس أمامهم إمكانية تطوير وممارسة التجديد وإبداع الفكر استناداً على الجهود والأفكار العظيمة التي كان لها الفضل في توجيه وقيادة الشعوب حول العالم لسنوات طويلة. فالمرحلة تتطلب مراجعة شاملة من الأحزاب العربية أو السياسيين العرب لبناء سياسة عربية مجتمعية تكون قادرة برؤيتها السياسية والفكرية ومشاريعها الديمقراطية والبيئية والاقتصادية على أن تكون رائدة في الفعل المجتمعي المنظم لتحقيق مصالح الشعوب والمجتمعات العربية قبل الدول العربية رغم وجود الكثير من التحديات والصعوبات المختلفة.

أما الأمة الكردية وواقع المجتمع، فمثلاً الاعتراف بالهوية الكردية وبروز إرادة الحياة الحرة لا يعني أنّ القضية الاجتماعية بلغت حلّها النهائيّ. بل يشير فقط إلى قطع أشواط مهمة على هذا الدرب. وتحتلّ تلبية حاجات الهوية والحرية بضمانات قويمة وتأمين سيرورتها مرتبة الصدارة في لائحة القضايا العالقة. ذلك أنّ الهوية الكردية وطموحات الحياة الحرة التي تفتقر لأية ضمانات قانونية واقتصادية وسياسية ودفاعية، قد تسحق أو تعرّض للمجازر على يد أعدائها في كلّ لحظة. ولهذه الأسباب تحديداً، يتعين على الأحزاب والسياسة الكردية أداء دورهم الإيجابيّ، وليس فقط النجاح في المهامّ السلبية كما كانت لمدة طويلة من الزمن، أي في مهامّ إعاقة السلبيات وسدّ الطريق عليها. وفي هذه المراحل يتطلب إنجاح المهام في البناء الذي يطغى عليه الجانب الإيجابيّ. ولن تتمكن الأحزاب السياسية وكافة الأطر المجتمعية السياسية من إنجاح تلك المهامّ التي يكمن في خلفيتها بناء الديمقراطية والتحول الديمقراطي، إلا بنيل الهوية الديمقراطية الجديدة، وإضافة المعاني المرادة على تلك الهوية.

يتميز بناء وإنشاء الأمة الديمقراطية بالأولوية كمشروع للحل الديمقراطي وكسياق مجتمعي وديمقراطي وتكاملي لحل القضايا والأزمات وبناء الحياة الحرة والديمقراطية لكل المجتمعات والشعوب والخصوصيات المختلفة في المنطقة ودولها وهي التي تمهد وتؤدي إلى التشارك والعيش المشترك والأخوة والديمقراطية والحرية والعدالة والتنمية ومواجهة الإرهاب والفقر والتحديات المختلفة. وبينما يتطلب هذا الإنشاء إنجاز الثورة في الذهنية والفكر وعلم الاجتماع، فهو متعلقٌ أيضاً بإنجاز المهامّ الديمقراطية أي الأخلاقية والسياسية معاً. وبالرغم من كلّ التضيق ومحاصرات نظام الهيمنة العالمية وأدواتها الإقليمية والمحلية، إلا أنّ ريادة الأحزاب والسياسة ومختلف الأطر التنظيمية المجتمعية ستوفّق بقدر ما تتبنى دورها ضمن هذا الإطار.

ولابد من ذكر بعض النقاط الهامة للكينونة السياسية في سبيل نجاح الحياة السياسية وريادة الأحزاب لبناء الديمقراطية وحل القضايا:

  • فلسفة الحياة الحرة كنمط للحياة السياسية:

وهنا لا بدّ من تدريب السياسيين والشخصيات الحزبية والكوادر لأنفسهم، ومن تحويل فلسفة الحياة الحرة إلى نمط لحياتهم. وبالتحصن بالهوية الأيديولوجية والسياسية، ستستطيع الأحزاب حماية أنفسهم، والتحلي بالقدرة على إطلاق الحملة والالتحام بالمجتمع في وجه شتى الهجمات التي تستهدفها، سواء من الداخل أم من الطرف المضادّ. وإلى جانب التسلّح بالتعبئة الأيديولوجية والسياسية التامة، يتوجب على السياسيين والكوادر الاتصاف خاصةً بالقدرة على الالتزام بأخلاق الحياة الحرة تحت كلّ الظروف. أي أنه يتعين على كلّ كادر حزبي تحديث وتوطيد مقدرته في التحول إلى “الفرد” المشبع الذي يسمى في الثقافة الشرق أوسطية بـ”الإنسان الكامل”. كما ينبغي عليه التمكن من إفشال وشلّ تأثير كافة أنماط الحياة والأيديولوجيات السلطوية والقوموية والجنسوية والدينوية والليبرالية التي تحض على التشرذم والأنانية والمتسببة بالابتعاد عن الحقيقة والحياة السياسية الناجحة. بمعنى آخر، فالحاجة إلى الأناس الكاملين، والتي طالما تمّ الشعور بها على مدار العصور، هي ضرورةٌ ماسةٌ في يومنا الراهن بالأكثر، وغير ممكنة إلا بالتحول إلى كوادر تشاركية ديمقراطية متحضرة. ولا يمكن الشروع في إنشاء الحياة الوطنية الديمقراطية إلا تأسيساً على أمثال هؤلاء الكوادر والشخصيات السياسية. على كلّ كادر وسياسي أن يمثّل المئات من تنظيمات الأمة الديمقراطية لإنجاح مهامّه. وإلا، فكادرٌ أو حزبٌ متأثرٌ بأيديولوجيات وأنماط الحياة المذكورة أعلاه، لا يمكن إلا أن يكون مصدراً للمشاكل. في حين إنّ كلّ كمال أيديولوجيّ وسياسيّ وأخلاقيّ وتنظيميّ، هو ضمان كلّ كادر ريادي لإنجاز وظيفته في بناء الأمة الديمقراطية بنجاح ظافر.

  • الوحدة الأيدولوجية في العلاقات بين الأعضاء ضمن الحزب والهياكل السياسية المختلفة:

تعكس العلاقات بين الأعضاء، أو يجب أن تعكس جوهر العلاقات الاجتماعية. وبقدر ما تجسد المجتمع التاريخيّ في ذاتها، فهي تجسد أيضاً المجتمع المستقبليّ. إنها أساساً علاقاتٌ أيديولوجية. أي إنها علاقات الحقيقة التي تتبدى فيها الأيديولوجيا، وتفضي إلى تجلّيها فيها. بمعنى آخر، فاتحاد عضوين أو رفيقين حسب التعبير المستعمل في كل حزب لا يدلّ بمعناه هذا على الوحدة الأيديولوجية فقط. بل وينبغي عيشه كوحدة الحقيقة التي آلت إليها الآفاق الأيديولوجية. ولئن وصل أيّ رفيقين فعلاً إلى سرّ الرفاقية فاتّحدا، فينبغي النظر إلى ذلك على أنه تمثيلٌ وطيدٌ للحقيقة. ومصادقة رفاق الدرب تعني نيل النصيب من الحقيقة الممثّلة، ومن لا يهتمّ بالحقيقة الكبرى، يجب ألا يسلك هذا “الدرب”. أما اللاهثون وراء الرغبات الساذجة والغرائز والمصالح البسيطة، فلن يكونوا أعضاء وأصدقاء وسياسيين ذوي شأن. ولا يمكن مصاحبتهم إطلاقاً. كما لا يمكن للمهووسين بالعقائد العمياء وبالعواطف المتزمتة أن يكونوا أعضاء وأصدقاء ورفاق الحزب والسياسة الواحدة. ومن لم يتخطّ أيديولوجيا علاقات الزيجة، ولم يحطّم جدار علاقة الأنوثة– الذكورة الساذجة، ولم يحرّر عالمه الذهنيّ من القيود، فعليه ألا يثرثر عبثاً عن الرفاقية السياسية، وألاّ يتحمس هباءً لولوج هذا الدرب. ينبغي تنزيه علاقات الرفاقية عن شتى ضروب العلاقات والأفكار والأقوال والممارسات التي تعيق المرء من السير على درب الحقيقة ومن بلوغ هويتها التي تمثلها؛ من قبيل: المال، الأملاك، الملكية، علاقات الزيجة، الولع بالموادّ الاستهلاكية، الاندفاع خلف النفس والهوى، الهرع وراء السلطة، والإصابة بالجرأة العمياء أو بالجبن المشين أو ما شابه. كما يتوجب على علاقات الرفاقية السياسية أن تتصدى بحسم لهكذا مخاطر، وأن تتسلح في نفس الوقت بالتعبئة الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية والتنظيمية المؤهّلة لتجسيد الحقائق الكبرى قولاً وعملاً، أياً كانت الظروف والشروط.

والحزب الذي يجري تصوّره موحّداً ومتراصّاً، لن يتحقق إلا بتأطيره بعلاقات رفاقية سياسية من هذا القبيل. وحينها فقط يمكنه تمثيل المجتمع التاريخيّ ومستقبله وإرادته. وليس بمستطاع أي حزب أن يؤدي دوره التاريخيّ والاجتماعيّ، إلا من خلال علاقات رفاقية سياسية بهذه المبادئ والمقاييس.

وفي المجتمع الكردي، وفي العديد من مجتمعات وشعوب المنطقة، تواجه الأحزاب والسياسيين، قضيتا السّلم والحرب المترابطتان ببعضهما بعرى ديالكتيكية وثيقة. فالاعتراف بحقّ التحول إلى أمة ديمقراطية هو أدنى مستويات الحلّ والأقرب مسافةً إلى الحلّ السلميّ للقضية الكردية. لكنّ القوى المصرّة على إبقاء التطهير العرقيّ مسلّطاً على الكرد وكردستان، لا تودّ الاقتراب حتى من معادلة الحلّ الديمقراطيّ السلميّ المؤطّر بوحدة وتكامل الدولة القومية. بل تلحّ على التشبث بحقّها وقوتها في تنظيم الإنكار والإبادة. كما أنّ احتكارات القوة والاستغلال الدولتية القومية، التي تتقاسم كردستان والكرد فيما بينها وكذلك عملاءها وأزلامها من ذوي الأصول الكردية، ترغب في استمرار سياسة التطهير العرقيّ ثانيةً، بعد تمويهها بخدعة “الحقوق الفردية”. إذ تعتبر ذلك من ضمن حقوقها الوطنية والطبقية التي لا غنى عنها.

لا يتيح هذا الموقف المجال أمام السلام والحلّ الديمقراطيّ، حتى ولو ضمن وحدة الدولة القومية. وعندما يغيب السلام والحلّ الديمقراطيّ، فإنّ ثمنه هو شنّ حرب الإبادة الجماعية المتكاملة على جميع الصّعد وبكافة الأساليب، العسكرية منها والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدبلوماسية والنفسية. وبالأصل، فما يطبّق على أرض الواقع هو تنظيم حرب التطهير العرقيّ على الكرد. ذلك أنّ الحرب المسيّرة على الأغلب بنحو أحاديّ الجانب منذ أكثر من مائة عام، والتي تهدف إلى محو الكرد من صفحات التاريخ، وإلى إخراجهم من كونهم مجتمعاً حراً؛ إنما هي حرب إبادة جماعية، تكالب فيها حلفاءٌ كثر على الكرد.

لقد كان بالمستطاع تحقيق سلام ثمين وحلّ ديمقراطيّ وطيد على خلفية النتائج المستخلصة من الصراع الذي دام طيلة السنوات الأربعين الأخيرة. فالاعتراف بحقّ التحول إلى أمة ديمقراطية كان الحلّ الأفضل والأنجح والقابل للتطبيق، دون الحاجة إلى دولة قومية كردية، بل وحتى دون الحاجة لتحويل الدول القومية الحاكمة إلى أشكال من الطراز الفيدراليّ. لكنّ الأوليغارشية السياسية من جهاز الدعاية والتحريض في الدول والشرائح الكائنة داخل الدول التي تحكم وتحتل كردستان وخاصة تركيا وإيران، والمتأثرة جداً بتقاليد التطهير العرقيّ؛ ما انفكّت عاجزةً بأيّ شكل من الأشكال عن البتّ في قرار السلم والحلّ الديمقراطيّ. فرغم محاولات وقف إطلاق النار التي أعلنها الشعب الكردي وإطاره السياسي الديمقراطي من منظومة المجتمع الكردستاني KCK مرات عديدةً من طرف واحد، إلا أنه لم يلق الجواب اللازم. بل ساد وضعٌ أشبه بالسير بين الأشواك. ولكن، جليٌّ جلاء النهار أنّ هذا الوضع لن يستمرّ طويلاً. وهناك سياقان:

  • السلم والحلّ الديمقراطيّ المستدام والمشرّف:

الذي يتّفق فيه الطرفان على ثوابته ومبادئه الأساسية. والسلام المشرّف والحلّ الديمقراطيّ يقتضيان كفاءةً فكريةً وسياسيةً عظمى. وينبغي تشاطر الحلّ السلميّ والديمقراطيّ المأمول مع كافة أبناء الشعب. حيث لا يستلزم فهمه وإفهامه فحسب، بل ويتطلب أيضاً أن يعبّأ الشعب بشأنه تأسيساً على ذلك، وأن تنظّم صفوفه ويهيّأ عملياً. أي إنه يستوجب عقد آلاف الاجتماعات لتداوله والبتّ فيه، وتسيير آلاف أشكال التنظيم والممارسة العملية. ذلك أنّ موضوع الحديث هو سلامٌ تاريخيّ، ونمط حلّ سياسيّ ديمقراطيّ سيكون مثالاً تقتدي به شعوب المنطقة والإنسانية قاطبة، ويظهر هنا دور الأحزاب والسياسيين والكوادر الأكاديمية.

  • الحرب الجديدة الحاسمة:

 بحيث تكون أشدّ ضراوةً وأعلى مستوى بكثير مما مرّت عليه حرب العقود الثلاثة المنصرمة في كردستان. وهنا يظهر أهمية التركيز على قضايا الحرب التي يلوح أنّ كفتها هي الراجحة. فقد سيّرت تجربة الحرب المخاضة طيلة العقود الأربعة الماضية بمستويات وأنماط معينة إلى مستوى ما. ولكن، محالٌ أن يكون طراز الحرب المقبلة على هذه الشاكلة. فقبل كلّ شيء، لم يعد الشعب كما السابق. ويجب تسيير الحرب والمقاومة على مستوى حرب شعبية حقيقية. وبعد تجربة حرب دامت أربعة عقود برمتها، فإنّ قيادة الدفاع عن الشعب الكردي وكردستان أي قيادة “قوات الدفاع الشعبيّ HPG” مكلّفةٌ بالاستعداد لمقاومة ولحرب شاملة بين الريف والمدينة، وبتطوير وتسيير والإشراف على الحرب المحتملة التي سيخوضها عشرات الآلاف، والتي ستشمل جميع المناطق في نفس اللحظة دون تمييز بين الليل والنهار أو بين الشتاء والصيف أو بين القرية والمدينة أو بين الجبل والسهل. هذا وعلى الأحزاب في كردستان والمنطقة مشاطرة المسؤولية الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية ومسؤولية البتّ في شأن سياق الحرب الجديدة، رغم خوضها تحت لواء منظومة المجتمع الكردستاني KCK وبهدف بناء الأمة الديمقراطية وكونفدرالية الأمم الديمقراطية في الشرق الأوسط. ولا يمكن تكرار عهد الحروب والمقاومات والانتفاضات السابقة، وحتى لو جرى، فلن تلقى قبولاً أو رواجاً. وينبغي للأحزاب شحذ مهاراتهم وكفاءاتهم بناءً على ذلك. ومهما ارتفع مستوى الحرب الجديدة، إلا أنه من الضروريّ إعطاء الجواب الشافي لجميع القضايا والإشكاليات التي ستطفو على السطح، وذلك عبر التحلي بالقدرات الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية، وبمهارة العزم الذي لا يتزعزع. وتندرج في هذا المضمار مسؤولية دراسة جميع الظروف الداخلية والخارجية، وتحمّل النتائج التي ستفرزها الحرب بجميع أبعادها، وتحويلها لصالحه في الزمان المناسب. أما التقصير في تلبية الحاجات أو الاتسام بالكمال، فلن يرحّب بها. فحقيقة الشعب والحزب القائمة لا تسمح بذلك بتاتاً.

وفي كردستان وبجميع أجزائها من الآن فصاعداً، سيحظى كلّ شيء بمعناه، وسيرى النور ويحيا تأسيساً على سلام مشرّف وحلّ ديمقراطيّ ثمين، أو ارتباطاً بحرب شاملة حاسمة. ذلك أنّ المراحل التاريخية تمرّ عامرةً بقرارات وممارسات تاريخية. وما خلا ذلك هو محض رياء وأوهام ستنثرها الرياح. ومن يقصّر في تهيئة نفسه لهكذا مراحل، أو يستعدّ لها ويعجز عن تلبية متطلباتها، فرداً كان أم تنظيماً أم شعباً، دولةً كانت أم حزباً أم كائناً ما كان؛ فلن يخلص من الرمي به في مزبلة التاريخ. ولن تتمكن الأحزاب من أداء الوظيفتين التاريخيتين في معالجة ودراسة الحاضر من كلّ الجهات، وفي القيام بالاستعدادات الضرورية بأتمّ صورة للانطلاق نحو الممارسة العملية بنفس الجرأة والبسالة؛ إلا استناداً إلى الدروس المستخلصة من تجارب الماضي. ومن غير الواقعيّ التعويل على انتهاء المرحلة إما بالنصر الساحق أو بالهزائم النكراء. بل ستؤول المرحلة لصالح إرساء سلام مشرّف وتكريس حلّ وطنيّ ديمقراطيّ أكثر شفافية. وما عدا ذلك هو ضياعٌ في متاهة الإبادة الجماعية. لكنّ وضع البشرية القائم حالياً لن يسمح بذلك البتة.

النتيجة:

كلّ الظروف تضفي على احتمالات مستجدات المستقبل المنظور أهميةً تعادل ما كانت عليه الثورتان الكبريان الفرنسية والروسية في التاريخ المعاصر. وسواءٌ تحققت بالحرب أم بالسلم، فإنّ الشعب الكرديّ لا يحلّ القضية الوطنية الديمقراطية العالقة من أجله فحسب. بل إنه ينجز انطلاقةً ثمينةً من أجل عموم الشرق الأوسط والإنسانية جمعاء. وهو بانطلاقته هذه لا يضيف دولةً قوميةً جديدةً إلى أجهزة الدول القومية التابعة للحداثة الرأسمالية، والتي تتكاثر يومياً. كما لا يواكب بها ركب ما رصفت الحداثة أرضيته منذ زمن بعيد من أجواء رأسمالية أو احتكارات أو عالم صناعيّ. بل إنه يتوهج بأشعة حضارة جديدة وحداثة جديدة. وستكون انطلاقة تلك الحداثة، التي بوسعنا تسميتها أيضاً بالعصرانية الديمقراطية، مؤهّلةً لإنارة درب الحلّ المأمول واللازم لثقافة الشرق الأوسط، التي تمرّ من أحرج مراحل تاريخها وأشدّها فوضى. إذ تتجلى جدارة هذا الدور في الحلّ منذ الآن، بعدما برهن حضوره. هذا السياق المعاش، والذي بمقدورنا نعته بنوع من “الحرب العالمية الثالثة”، إنما يصطفي الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني (PKK)، ويرشحه لأداء دور شبيه بما قام به الكرد الأوائل على حوافّ سلسلة جبال زاغروس– طوروس مع بزوغ فجر تاريخ الحضارة، وللقيام به هذه المرة لصالح الحضارة الجديدة والعصرانية الديمقراطية، وعلى هدى المجتمع الديمقراطيّ الخالي من الطبقة والدولة، والمرتكز إلى المدينة الأيكولوجية والاقتصاد المنزّه من الربح. لذا، ستمثّل المرحلة المقبلة من حيث النتيجة عصر إنشاء الأمم الديمقراطية، سواء كانت الغلبة فيها للحرب أم للسّلم. وعليه، فمن أحشاء ثقافة الحضارة الشرق أوسطية، التي صيّرتها الحضارة الطبقية والمدينية والدولتية حمّام دم بألاعيبها ومكائدها المستمرة على مدى آلاف السنين، والتي تصارعت فيها القبائل والأديان والمذاهب والأمم؛ سوف يسطع عصر العصرانية الديمقراطية مرتفعاً على أرضية وحدة وتكامل الأمم الديمقراطية.

على ثقافة الشرق الأوسط أن تدرك أثناء تحديثها لذاتها أنّ السبيل إلى ذلك يمرّ من ثورة الحقيقة التي هي ثورة ذهنية وثورة نمط الحياة. إنها ثورة الخلاص من الهيمنة الأيديولوجية للحداثة الرأسمالية ومن نمط حياتها. هذا ويجب عدم المبالاة بعلماء الدين والشوفينيين العرقيين الزائفين المتشبثين بالتقاليد. فهم لا يحاربون الحداثة الرأسمالية، بل يطمعون في حصة زهيدة مقابل أن يكونوا حرّاساً أوفياء للنظام القائم. لذا، يستحيل التفكير قطعياً في أنّ أمثال هؤلاء يكافحون في سبيل الحقيقة. علماً أنهم ليسوا مهزومين روحياً وحسب تجاه الحداثة، بل وهم في وضع التّملّق والتّزلّف أيضاً. ولئن كانت الحركات اليسارية والفامينية والأيكولوجية والثقافية القديمة تطمح إلى مناهضة الحداثة بمنوال مبدئيّ، فهي ملزمة بمعرفة كيفية خوض حرب الحقيقة ضمن كلّيّاتيتها، وإسقاطها على أنماط حياتها أيضاً.

تحظى حرب الحقيقة بالمعنى وتحرز النجاح، كلما دارت رحاها في كافة مجالات الحياة، وفي جميع الميادين الاجتماعية، في الوحدات والمكوّنات الاقتصادية والأيكولوجية الكومونالية، والمدن الديمقراطية، والأماكن المناطقية والإقليمية والوطنية وما وراء الوطنية. لا يمكن خوض حرب الحقيقة، دون معرفة العيش كالرّسل والحواريين البارزين في مطلع فترات ولادة الأديان، ودون التهافت على الحقيقة. وحتى لو تمّ خوضها دون ذلك، فنجاحها مستحيل. إنّ الشرق الأوسط في مسيس الحاجة إلى حكمة الإلهات المستحدثات، وإلى أمثال موسى وعيسى ومحمد، وأمثال القديس بولص وماني وويس القرني ومنصور الحلاّج والسهروردي ويونس أمره وبرونو. ذلك أنّه من غير الممكن إنجاح ثورة الحقيقة، دون التحلي بالإرث المستحدث للقدامى الأوائل، والذي لم يأكل عليه الدهر أو يشرب. فالثورات والثوريون لا يموتون، إنما يثبتون أنّ الحياة ممكنة فقط بتبنّي ميراث هؤلاء. وثورة الشرق الأوسط هي ثورة توحيد الفكر والقول والعمل. وهي جدّ غنية من هذه الناحية. والعصرانية الديمقراطية ستقدّم مساهماتها وتؤدي دورها التاريخيّ، بإضافة انتقاداتها بشأن المدنية والحداثة الرأسمالية إلى هذه الثقافة.

ينبغي على فرد الحضارة الديمقراطية أن يحيا ضمن تكامل ووحدة كفاح الفكر والقول والعمل الدؤوب إزاء فرسان المحشر الثلاثة للحداثة الرأسمالية (الرأسمالية، الصناعوية، والدولتية القومية). وبالمثل، عليه خوض كفاح حياة الفكر والقول والعمل المتواصل مع ملائكة الخلاص للعصرانية الديمقراطية (المجتمع الاقتصاديّ، المجتمع الأيكولوجيّ، المجتمع الديمقراطيّ). وما لم يفعل ذلك، فلا يمكنه تحقيق كينونته أو إنشاء ذاته كقائد للحقيقة. كما لن يكون القائد المنجز للعدالة والحرية وعالم الديمقراطية، ما لم يواظب على وحدة وتكامل الكفاح والحياة داخل مكوّنات الكومونات الاجتماعية ومكوّنات الأكاديميات بالقدر عينه. لن تكون انتقادات الكتب المقدسة والإلهات الحكيمات ذات قيمة، إلا في حال توجيهها رداً على تحويلها إلى أداة بيد المدنية والحداثة المهيمنتين. وما يتبقى منها، إنما هو ميراث حياتنا الذي لم يتقادم، وهويتنا المجتمعية. ومناضل الحقيقة في العصر الديمقراطيّ، هو ذاك الذي ينقش هذه الهوية ويرسخها في شخصيته، ويحيا إرث الحياة ذاك ويحييه بحرّية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

أحمد شيخو.. الأحزاب السياسية

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى