رأي

 إبراهيم أبو خزام  يكتب.. وطنيون بلا مذاهب 

في ساعات الخطر واليأس لم يجد رجال التاريخ بين أيديهم أداة أفضل من استدعاء الوطنية لتثبيت الأمة وبعث الأمل

ما الوطنية؟ هل هي “غريزة” متأصلة بالفطرة، أم معتقد ينشأ بالتربية والمعرفة، أم خليط من الغريزة والعقيدة مثلها مثل الظواهر الغامضة التي لا تفسرها علوم المادة مثل الهيبة، والقيادة، والموهبة، والحب والبغض.. إلخ؟

ولأن الوطنية مفهوم غامض، فإن من السهل ادعاءها أو تجريد الغير منها، وبسبب غياب المقاييس لمعرفة درجة تأصل الظواهر، فمن السهل أيضًا، نشوء النزاع بين الأفراد حول درجة وطنيتهم، فإلى اليوم لم تصل البشرية إلى إيجاد المقاييس لمعرفة درجات الظواهر الغامضة، فهي لم تعرف بعد، مقاييس الحب مثلًا، وهو ما دعا الشعوب في مختلف الثقافات، إلى اختراع قصة إنسانية لاتخاذها باعتبارها معيارًا للقياس عليه، مثل قصة قيس وليلى في تراث العرب أو “روميو وجولييت” في أدب الغرب، وفي كل الثقافات شاعت مثل هذه المقاييس.

وهكذا فقد شاعت في كل الأمم والحضارات محاولات إيجاد المقاييس للظواهر الغامضة مثل الهيبة والقيادة والبطولة عن طريق إبراز النماذج، ففي آداب كل أمة نماذج لرجال القيادة والبطولة والهيبة تسرد الخصائص والمناقب دون أن تفلح – بصورة قاطعة – في وضع مقياس ثابت.

إن الوطنية، مثل غيرها من هذه الظواهر، تفتقر – حتى اليوم – للمقياس المؤكد بسبب كنهها وطبيعتها، وذلك ما دفع المفكرين والفلاسفة إلى الاكتفاء باستحضار نماذجها وسرد خصائصها، وليس في أدبيات العرب – فيما أعلم – دراسة علمية عن ظاهرة الوطنية تخرج عن السياق المتبع وتغامر بوضع المقاييس، فكل ما لدينا يتبع النهج المألوف، يسرد الخصائص ويروي قصص النماذج ليضع تحت نظر الناس مثال الوطنية ويغرس في النشء القدوة الصالحة.

ولعل أفضل ما قرأت، في أدب العرب، ما كتبه المرحوم الدكتور (أديب نصور) في ستينيات القرن الماضي، فقد كتب كتابًا سماه (وطنيون وأوطان) سجل فيه خطب ووقائع حياة قادة ورجال دولة عظام في مختلف الأمم والحضارات، وهم قادة ورجال جسدوا معنى الوطنية بفكرهم وسلوكهم وانتشلوا أممهم وشعوبهم من السقوط باستدعاء الوطنية وإيقاظها، فعند تعرض الأمم والشعوب للمحن القاسية، فلا شيء ينجيها من الهلاك إلا قيادة رجل عظيم، يحشد جهد الأمة، يوحد صفوفها ويفجر طاقاتها وليس له من وسيلة أفضل من استدعاء الوطنية وإيقاظها، فهي التي تبعث الشجاعة في الجنود والثبات في الأمة، وفي ذروة المعارك، تنتصر الوطنية العالية على القوة الغاشمة مهما كانت التضحيات.

إن الوطنية، على الأرجح، غريزة متأصلة في المقام الأول، تتأصل في الناس جميعا بصورة شبه متساوية، فالناس مثلما يتساوون في إنسانيتهم فإنهم يتساوون في وطنيتهم، وإنني لأعجب من الذين يزعمون أنهم أكثر وطنية من غيرهم، وليس هناك أعجب من ذلك إلا جهالة المؤتمر الوطني العام الليبي الذي وضع تشريعًا سماه (قانون النزاهة والوطنية) وجعله معيارًا لتولي الوظائف وقيادة الدولة، وهو تشريع قلب المقاييس وأنشأ العار إلى يوم يبعثون.

إن الغرائز، بشكل عام، حالة فطرية أودعها الخالق في مخلوقاته منذ الأزل وإلى الأبد، وفي الغرائز تستوي المخلوقات جميعًا ومنها غريزة محبة الأوطان، وقد قالت العرب (إن الإبل تحن الى أوطانها).

إن المساواة النابعة من أصل الظاهرة، لا تعني المساواة في ممارستها أو إظهارها، فالواقع أن الوطنية وإن كانت غريزة في المقام الأول، فإنها تتطور إلى عقيدة في المقام الثاني عن طريق (الصقل) بالتربية والمعرفة والمران، ومثلما يطور الفنان موهبته الطبيعية والقائد هيبته الربانية بالصقل والمران، فإن الوطنية تصقل بالمهارة في (إدارتها) ومن هنا ينشأ الاختلاف بين الناس.

إن (إدارة) الوطنية هي ما يظهر الفوارق وهي التي تخلق التباين، وبينما يتجمد البعض عند طور الغريزة فيغدو مواطنًا قليل النفع لا خير فيه، فإن غيره قد يندفع نحو الشطط والمغالاة ويغدو شوفينياً متعصباً لا رجاء منه، أما الوطني الصميم، فإنه بالإدارة الناجحة يصل (الاتزان) فتغدو الوطنية حالة من (الاعتزاز) والولاء وتلك هي الوطنية في أجمل تجلياتها.

منذ القدم ذهب الفلاسفة إلى أن الفضيلة هي الحالة الوسطى بين وضعين متعارضين، فليست القيم الإنسانية إلا اعتدالًا بين وضعين، فالشجاعة هي حالة الاعتدال بين الجبن والتهور، والكرم هو الاعتدال بين البخل والإسراف، واليسر هو الاعتدال بين الفقر والبطر، ومن المحتمل أن الإنسان نفسه يمثل الاعتدال بين الملائكة والشياطين، أما الوطنية فإنها تصل ذروة مثاليتها بالاعتزاز حين تجري إدارتها بالعقل لا بالعاطفة وبالمسؤولية لا بالتهاون.

إن الوطنية تصاب بعطب شديد حين تسوء إدارتها فتتحول من هبة فطرية معتدلة إلى غريزة جامحة منفلتة بسبب (التمذهب) بالانحياز الأعمى لفرد أو جماعة أو رأي أو عقيدة أو توجه انحيازًا للعاطفة أو المصلحة أو سوء التقدير أو خطأ الفهم والتأويل والتفسير.

إن التاريخ مليء بالدروس عن أخطار التمذهب، فهو المسؤول الأول عن تدمير الأديان والعقائد والدول والحضارات، ومن الغريب حقًا، أن التمذهب في معظم الأديان والعقائد ينشأ لأسباب ظرفية لا تتعلق بالأصل والجوهر، ففي المسيحية انبعث الخلاف من طبيعة المسيح لا من جوهر شريعته وفي تاريخ الإسلام انطلق التمذهب من صراع الزعامة لا من أصول العقيدة وعرفت الشيوعية مذاهب البلشفيك والمنشفيك قبل بداية العمل والتطبيق، ويذهب ظني اليوم، إلى أن الوطنية الليبية مصابة بعطب شديد بسبب سوء إدارتها والتعبير عنها فقد وقعت بين يدي من يفرط إلى حد بيع المستقبل ومن يشتري تعصبًا لفرد أو قبيلة أو منطقة أو مصلحة تافهة.

تندفع ليبيا الآن نحو مرحلة مفصلية خطيرة بسبب ضعف الوطنية، وقد تعلمت من التاريخ أن اجتياز المحن يتطلب استدعاء الوطنية في اللحظات الحاسمة، ولا يتسع المقام لأضع تحت نظر الناس أمثلة تاريخية شهيرة عن دور الوطنية في تحقيق الانتصارات وربح المعارك، ففي ساعات الخطر واليأس، لم يجد رجال التاريخ بين أيديهم أداة أفضل من استدعاء الوطنية لتثبيت الأمة، وتصليب الإرادة وبعث الأمل لتحقيق النجاة.

إن نجاة ليبيا، في هذه الأيام العصيبة، مرهونة بتفاعل عاملين لا ثالث لهما، هما (رجل دولة) يوقظ الوطنية ويحرك المشاعر، ويحمل فوق كتفيه مشروع استعادة السيادة والاستقلال والكرامة، ورجال وطن يلتفون حوله يحملون على كاهلهم بناء الدولة، ووضع أسس التنمية والتقدم والازدهار ذلك أننا في حاجة إلى بناء الوعاء قبل الاختلاف حول ما نصب فيه.

وعلى الوطنيين بمختلف توجهاتهم ومواقفهم الالتفاف حول قيادة عظيمة إلى حين ضمان النجاة، ولا بأس بعد ذلك من العودة إلى حصوننا القديمة، أما اليوم فإننا بحاجة إلى وطنيين بلا مذاهب!

بعد ان تناولنا موضوع ما الوطنية؟ يمكنك قراءة ايضا

نرصد أبرز أحداث عام 2021 في الساحة الليبية.. «الفشل يخيم على العملية السياسية»

ماذا حدث في 2021؟ ترامب يغادر والمغرب وتونس يلفظان الإخوان وطالبان على عرش أفغانستان

يمكنك متابعة منصة العرب 2030 على الفيس بوك

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى