إعداد- نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الأفريقية العليا، جامعة القاهرة
أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي نقلة نوعيّة في القارة الأفريقية خلال الآونة الأخيرة، وبخاصة فيما أضفته من توفير نافذة يتم عبرها خلق الأفكار ومشاركتها وتبادلها في هذه المجتمعات الافتراضية (مثل فيسبوك، إكس، انستجرام، تيك توك، وغيرهم). ويجد المتتبع لاستخدام هذه الوسائل وخصوصًا في أفريقيا أنها باتت تحمل في طياتها عوائد إيجابية وأخرى سلبية، على نحو لافت. على الجانب الإيجابي عملت وسائل التواصل الاجتماعي على ربط الأشخاص المنفصلين جغرافيًا بالقارة وخارجها، ويسّرت التواصل بين أغلب المستخدمين، ومكّنتهم من التواصل السريع والفعّال، بما في ذلك من تدفق غير مُقَيّد للمعلومات، كما وفّرت فرصًا للتعلم عبر الإنترنت وخلقت عددًا من فرص العمل التي تطلّبتها منصات التواصل الاجتماعي. أضف لذلك أنها أصبحت بمثابة نافذة للأفارقة لدحض فكرة إن القارة الأفريقية هي “القارة المُظلمة- البدائية”، وما يرتبط بها من سرديّات غربيّة. أما على صعيد الجوانب السلبية، تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي مُهدِرة للوقت، كما أنها تخلق جيلًا معاديًا للمجتمع ورافضًا في بعض الأحيان للتواصل الاجتماعي الحقيقي، ما يُحدِث فجوة بين المجتمع وهذه الأجيال الناشئة (جيل زد على سبيل المثال). أضف لذلك أن هذه الوسائل وفّرت سواء متعمدة أو دون قصد سُبُلًا للتنمر والاعتداء عبر الإنترنت. على مستوى الدولة ككل يسّرت هذه الوسائل أنشطة شبكات الجريمة المنظمة، كما سهّلت عمل التنظيمات الإرهابية المسلحة، ما وضع الحكومات الأفريقية أمام تحدٍ معقد ومتعدد الأبعاد، يستلزم البحث حول المقاربة الأكثر ملائمة للتعامل مع هذه الوسائط وإعادة النظر في السلطة التي تمنحها هذه المنصات لمُستخدميها، دون أدنى قيود.
- اقرأ أيضا: المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي يكتب.. الشعب المصري بين المخطط العدواني والحرب النفسية
تنامي أعداد مُستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي:
تشير التقديرات إلى أن مُستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من الأفارقة في ارتفاع مستمر، وصل إلى أكثر من ٣٨٤ مليونًا في عام ٢٠٢٢م. ومنذ فبراير ٢٠٢٢م، استخدم حوالي ٥٦% من السكان في شمال إفريقيا وسائل التواصل الاجتماعي، بينما بلغت النسبة ٤٥% في جنوب إفريقيا. وكانت أفريقيا الوسطى متراجعة كثيرًا في هذا الاستخدام، حيث بلغت حصتها ٨% فقط. وفيما يتعلق بالوسائل الأكثر رواجًا بين مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في القارة، فضّل المستخدمين في غانا وكينيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا تطبيق واتساب. أما المستخدمون المصريون والمغاربة فقد فضّلوا موقع فيسبوك. أما فيما يتعلق بالعام ٢٠٢٤م يشير الشكل التالي إلى حجم استخدام وسائل التواصل وفقًا لأقاليم القارة الأفريقية الفرعيّة الخمس كما يلي:
شكل رقم (١)
النسبة المئوية لمُستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بالقارة الأفريقية وفقًا لأقاليمها الفرعيّة الخمس
Source: Statista 2024, On: https://shorturl.at/OPn2L
وكما يوضح الشكل السابق فقد وصلت نسبة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في شمال أفريقيا حوالي 40.4%، فيما كانت النسبة الأعلى في جنوب أفريقيا -بفارق طفيف- 41.6%، أما في غرب القارة فقد قُدِّرَت نسبة المُستخدمين بحوالي 15.8%، فيما تذيّلا كل من شرق ووسط أفريقيا القائمة بنسب 10.1%، 9.6%، على الترتيب.
عوائد ومكتسبات:
ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي كثيرًا في تسليط الضوء على كثير من المشكلات التي تواجه الأفارقة الذين يعيشون في الشتات. خاصة أنه غالبًا ما لا يكون الشتات آمنًا مثل الأوطان الأصلية، وغالبًا ما يكون الأفارقة في الدول الأجنبية عُرضة للممارسات العنصرية. في كثير من الحالات، كانت منصات الإعلام الجديد (وسائل التواصل الاجتماعي) تتطرق إلى معاملة الأفارقة في الشتات بشكل أسرع من وسائل الإعلام التقليدية، بما يعني أن هذه الوسائل الجديدة وفّرت منصة للتوعية بما يحدث لهؤلاء الضحايا، على نحو جعلها صوتًا لمَن لا صوت له، خاصة مع تهميشهم بوسائل الإعلام الأخرى. تجلّت قوة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص خلال الغزو الروسي لأوكرانيا عام ٢٠٢٢م عندما أهملت المساعدات العديد من الطلاب والأُسَر الأفريقية في أوكرانيا، حيث تم إعطاء الأفضلية أولًا للأشخاص من ذوي البشرة البيضاء، وهي الأمور التي تم تسليط الضوء عليها كثيرًا من خلال منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. على سبيل المثال أظهرت العديد من مقاطع الفيديو التي تمت مشاركتها عبر هذه المنصات ما يتعرض له الأفارقة الفارين من معاملات عنصرية، كمنعهم من قِبَل قوات الأمن الأوكرانية من ركوب القطارات خارج أوكرانيا لإفساح المجال للأوكرانيين أولًا، وغيرها من الممارسات العنصرية. ومع هذا التسليط المُمَارس من قِبَل وسائل التواصل الاجتماعي استجابت الحكومات الأفريقية وتدخّلت لحل الأزمة، حيث قامت من خلال سفاراتها بحشد الأموال والخدمات اللوجستية لإعادة مواطنيها إلى وطنهم بأمان، ما يوضح بشكل جلّي ما يمكن أن تلعبه هذه المنصات على أرض الواقع من تسليط للضوء على مثل هذه المشكلات وتشكيل رأي عام إزائها يؤدي لسرعة الاستجابة معها، وهو ما لم يكن ليحدث لولا وجود هذه الوسائل.
كما وفّرت وسائل التواصل الاجتماعي منصة مجانية للتعرف عن قُرب على مناطق وبلدان أفريقية، لم تكن لتراها لولا هذه الوسائط، كمواطن أوروبي أو أمريكي على سبيل المثال، ربما لن تسنح لك الفرصة لزيارة إحدى الدول الأفريقية، كما أنك على الأرجح لن ترى إلا ما يُبَثّ لك عبر وسائل الإعلام التقليدية، التي لاتزال تحرص على بثّ مشاهد نمطية عفا عليها الزمن، تتصل بربط القارة الأفريقية بالاضطرابات والمجاعات والأوبئة والرجال ذوي الصدور العارية، والرقصات والأغاني الصاخبة، والسحر، وغيرها من المشاهد التي يتم نشرها على نحو واسع النطاق، مقابل غضّ الطرف عن حقيقة القارة كما هي في الواقع، كقارة تمتلك مراكز ومدن حضرية، جامعات، مراكز للفِكر، دول تمكنت بنجاح من الخروج من دوامات الاضطرابات والإبادة الجماعية كرواندا، دول أخرى تمردت على الحكم العنصري كجنوب أفريقيا، دول تعدّ واحة للديموقراطية كالسنغال. في هذا الإطار ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها على نطاق واسع بين الشباب في شتى بقاع العالم، وبين جيل الشباب الأفريقي على وجه التحديد الذي يمثل حوالي 60% من سكان القارة (تحت عُمر 25 عامًا)، والمُستخدِم الأكبر لهذه الوسائل، تجد أن هذا الجيل بات يمتلك من الأدوات ما يُمَكِّنه من عرض قصص ويوميات عبر هذه المنصات، يتكشّف خلالها صورة أفريقيا الحقيقية المُغايرة للصورة الذهنية التقليدية المثبتة منذ عقود، عبر منصات الإعلام الغربي.
شكل رقم (2)
أبرز مكتسبات وسائل التواصل الاجتماعي وفقًا للسياق الأفريقي
Source: Johannes Bhanye & Others,”Social Media in the African Context A Review Study on Benefits and Pitfalls”, ResearchGate, Jul 2023, On: https://rb.gy/lqle3y
مخاطر وتهديدات:
على نحو آخر يتكشّف لنا خلال تتبع استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي في القارة الأفريقية، إنه مثلما يمكن تسخيرها في إيجاد بدائل لبعض المشكلات وتوفير منصة للتعبير عن الآراء والمواقف، إلا أنها توفر في كثير من الأحيان منصة لتسهيل عمل الجماعات المسلحة الإرهابية؛ حيث يمكن استغلالها من قِبَل هذه التنظيمات العنيفة المنتشرة بالقارة، التي تعدّها أداة منخفضة التكلُفة لجذب وتعبئة مزيد من الأتباع والمجندين الجدد والتواصل معهم عبر هذه المنصات وتدريبهم. يؤكد ذلك ممارسات بعض الجماعات الإرهابية، كداعش، حركة الشباب، بوكو حرام. وهو ما يؤثر لاحقًا على قُدرة الحكومات الوطنية الأفريقية المتعلقة بتبني سياسات مكافحة هذه الأعمال العنيفة المُمَارسة من خلال هذه التنظيمات.
لتأكيد ما سبق نشير إلى ما توصلت له دراسة صدرت عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعنوان (وسائل التواصل في أفريقيا – Social Media in Africa)، في نوفمبر 2018م، ذكرت الدراسة فيما يتعلق باستخدام الجماعات المتطرفة لوسائل التواصل الاجتماعي في أفريقيا أن تنظيم داعش يمتلك الاستراتيجيات الأكثر تطورًا التي مكّنته من الاستفادة من منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك مقارنة بكل من حركة الشباب وبوكو حرام، كما كان استخدام بوكو حرام لوسائل التواصل الاجتماعي الأقل تطورًا بين التنظيمات الثلاث، إلا أنه بات أكثر تطورًا منذ مبايعتها لتنظيم داعش في عام ٢٠١٥م.
إجمالًا يمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعي في أفريقيا كما يترتب على استخدامها مزايا لافتة يكاد لا ينافسها بها أحد، من حيث تسليط الضوء على القضايا الأكثر تهميشًا بوسائل الإعلام التقليدية أو نقل صورة حقيقية للقارة الأفريقية بعيدًا عن الرؤية المعتادة بأنها قارة الظلام والمجتمعات البدائية وغيرها من التشبيهات المُستهلَكة حول القارة، بالتوازي مع كل ذلك من عوائد يبرز عددًا من المخاطر التي تتحمل تكلفتها البلدان الأفريقية، لاسيما مع استخدام هذه الوسائل من قِبَل التنظيمات العنيفة المتطرفة، بهدف تعبئة مجندين جُدد ومزيد من الربط مع غيرها من الجماعات والشبكات الإجرامية الأخرى، بما يُحقق لهم مزيد من بسط النفوذ والانتشار على الأرض، ما يؤدي لتقويض قدرة الحكومات الوطنية على التصدي لهذه التنظيمات، وبما يضاعف من التأثيرات السلبية لهذه المنصات. لذا نأمل أن تتبنى البلدان الأفريقية بالتعاون مع الجهات الإقليميّة والدوليّة ذات الصلة بالأمن السيبراني وغيرها، ما يُمَكِّنها من إيجاد المقاربات الأكثر ملائمة للتعامل مع هذه الوسائل، كوضع برامج وسياسات وطنية تؤدي لتعظيم المنافع المُحقَّقة من استخدام هذه الوسائل، وفي الوقت نفسه يتم تبني استراتيجيات موازية على الصعيدين الإقليمي والدولي، من أجل مكافحة الإرهاب عبر هذه الوسائل، كما نأمل أن يُراعى تبادل الخبرات حول السياسات التي أحدثت تأثيرًا في مكافحة التطرف عبر الإنترنت على المستويات الثلاث الوطنية والإقليمية والدولية. لكن ينبغي خلال ذلك ألا يتم استغلال التأثيرات السلبية لهذه الوسائل، كممارسات التنظيمات الإرهابية واستخداماتها غير الآمنة لهذه المنصات ذريعة لتقويض هذه الوسائل وإفراغها من مضمونها وما تحققه من عوائد ومنافع بالغة التأثير.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب