تعيش مجتمعاتنا وشعوبنا ودول المنطقة في حالة أزمة مركبة ومتعددة الجوانب، يتصدرها المشاكل الملحوظة والمعيشة بكثرة في السنوات الأخيرة وهي المشاكل الأمنية والاقتصادية والسياسية، ولكن باعتقادنا القسم الأكبر من الأزمة تكمن في وجود مشاكل ذهنية وفكرية وفلسفية في الثقافة الاجتماعية ونظم الإدارة السائدة، وعدم وجود قراءة دقيقة وعلمية للمعطيات الموجودة وإمكانيات الحل، مهما حاولت بعض الجهات تفسير الأمور بمنطق أحادي الجانب. إضافة إلى أن محاولات الإصلاح والتغيير والتحول الديمقراطي، ينصدم في منطقتنا بقوى وطبقات نخبوية سلطوية دولتية احتكارية، تريد الحفاظ على مصالحها الضيقة ونفوذها، حتى لو كانت على حساب الشعوب والمجتمعات التي تبحث عن الحرية والديمقراطية والعدالة والتنمية. علماً أن القوى المركزية ومراكز القوة في النظام العالمي الرأسمالي المهيمن لا تريد أي تحرك مجتمعي وسياسي في الشرق الأوسط أن يكون إلا تحت حاكميتها، ولا تعارض مصالحها.
اقرأ أيضا: أحمد شيخو يكتب.. العراق وسوريا بين الأمن القومي ومشاريع التمدد
تعاني الشعوب الأربعة الكبيرة (العرب، الكرد، الفرس والترك) من مشاكل عديدة.
ولو نظرنا إلى حال الشعوب الأربعة الكبيرة (العرب، الكرد، الفرس والترك) في الشرق الأوسط، سنجد ذلك بسهولة، العديد من الثغرات وحالة الغربة بينهم وعدم الفهم الكافي لمخاوف كل شعب وطموحاته، نتيجة الثقافة الأحادية والحالة التقسيمية والسلطات الدولتية التي لا تهمها سوى بقائها على سدة الحكم والسيطرة على موارد الشعوب وتركها هذه الشعوب تعاني الفقر والجوع وعدم الاستقرار، بوجود الكثير من القضايا العالقة.
تعاني الشعوب العربية من مشاكل وقضايا متراكمة كثيرة، داخلياً وخارجياً، وكذلك وجود عدد من التناقضات بين بعض الدول العربية، وضعف الإرادة الوطنية الحرة لدى البعض الآخر وكذلك هشاشة المنظمات العربية الإقليمية، والتناقضات مع الجوار وخاصة بعض الدول التي تحاول استغلال أية فرصة أو فترة ضعف في الدول العربية، للتسلسل والتوغل على حساب المصالح المشتركة للشعوب والدول العربية وأمنهم واستقرارهم، ولعل تصرف وسلوك بعض الدول الإقليمية من القضية العربية المركزية، فلسطين، وما جرى في غزة من إبادة إسرائيلية للشعب، تبين هذه بوضوح، فبعضها زادت تعاملاتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل، رغم كلامها المؤيد في الإعلام، والبعض الآخر يحاول الاستفادة من غضب الشعوب العربية وضعف أداء المنظومة الرسمية العربية لجلب مزيد من الشباب العربي لتوجهاتها وتياراتها الخاصة، لخدمة مصالحها ومشاريعها التوسعية.
أما الشعب الكردي المقسم بين الدول الأربعة، فهو يعاني من إبادة جماعية فريدة، وخاصة في الجزء الأكبر الذي ضُمّ للدولة القومية التركية التي تشكلت عام (1923م) فمنذ حوالي مئة سنة، وما زال هناك رفض تام وإنكار لوجود الشعب الكردي في تركيا، وتمارس حرب إبادة بحقه، ولو نظرنا إلى وضع وحالة السجن والعزلة المطلقة للمفكر والقائد أوجلان المسجون منذ 26 سنة وخاصة منذ 40 شهراً الأخيرة، سنلاحظ ذلك، حيث تمنع السلطات التركية من لقاء القائد أوجلان مع محامييه وأهله، وفي السنوات الأخيرة تجاوزت السلطات التركية الحدود الدولية بين سوريا والعراق بشكل يتجاوز كل القوانين وسيادة الدولتين سوريا والعراق، وباتت تنفذ عمليات عسكرية ضد الشعب الكردي وإرادته الحرة في هذه الدول.
أما الشعب التركي فهو بين فكي السلطة والمعارضة اللتين تخصان أدواراً للدولة العميقة التركية التي يتحكم فيها غلاديو الناتو، حتى لا يكون هناك خروج عن مسار وسياسات حلف الناتو، وبعض التناقضات الثانوية بين تركيا والغرب أو بين تركيا وإسرائيل يجب أن لا تضلل وتخدع أحداً، إلا من كان يدور في فلك العثمانية الجديدة كحركة الإخوان الإرهابية، أو من يستفيد من تركيا وسلطتها.
وفي إيران، وبلد التعدد الأكثر من حيث القوميات والإثنيات، فما زالت الإسلاموية السياسية أو بالأصح الشيعة القومية، تحاول الاستفادة من الثقافة الإيرانية الرافضة لقوى الهيمنة والتحكم والضغط على المجتمعات في إيران، لتبقي مشروعها (ولاية الفقيه) في الحكم والصدارة، كما لا يخفى على أحد أن هذه السلطة الإسلاموية الفارسية تحاول الحرب خارج أرضها دائماً، وتناقضاتها مع إسرائيل والغرب، وإن بدت للبعض حقيقية ومعبرة وطريق مختلف، فإنها تلتقي معهم في أمور عديدة في الأيدولوجية الرسمية الدولتية.
مشاريع التوسع على حساب الشعوب العربية والكردية تلتقي في نقاط عديدة
ونعتقد أن العثمانية الجديدة وكذلك مشروع الشيعة القومية المتجاوزتين لحدود تركيا وإيران، كمشاريع توسع على حساب الشعوب العربية والكردية، تكملان المشروع الإسرئيلي أو الإبراهمية ويلتقيان معه في نقاط عديدة. ويمكننا القول أكثر أن التناقضات بين روسيا والصين في الشرق الأوسط وحول العالم مع حلف الناتو وأوربا وأمريكا وبريطانيا هي تناقضات لمراكز قوى في النظام العالمي الواحد لتقاسم الهيمنة والنفوذ، ولن يكون هناك مشاريع بديلة جديدة بين كل هذه التناقضات والصراعات، لأنهم يجتمعون في الأيدولوجية الرسمية، وفي الذهنية الأحادية السلطوية والفكر والممارسة الاحتكارية، مهما اختلفت ألوانهم وأشكالهم وطرقهم، فسلوك الطريق نفسه يؤدي إلى النتيجة نفسها.
إفلاس النظم السياسية
في العقد الأخير، تحركت الأمواج الراكدة بعد فرض الأنظمة القومية الأحادية على شعوب الشرق الأوسط، بشقيها العلماني والديني أو الدولتية الجمهورية والدولتية العملياتية، وقالت الكثير من شعوب الشرق الأوسط كلمتها، وعبرت عن تطلعاتها، في حياة كريمة وحرة وعادلة، مؤكدة إفلاس النظم والتيارات السياسية، والتي حكمت في غضون خمسين أو سبعين السنة الأخيرة، ولكن الخوف من التغيير الجذري أو التحول الديمقراطي الذي ربما لن يكون في صالح قوى الهيمنة ونظم الاستبداد، جعلت قوى الاستبداد والهيمنة، تفلت تيارات التطرف والإرهاب من السجون، وتدعمها لتنهش وتبتلع أية تحركات شعبية ومجتمعية لتصبح ذات لون وصبغة واحدة تكفيرية والغائية تشوه التحركات الجماهيرية.
فراغ فكري
والحق أن المنظومة الثقافية والفكرية والفلسفية في الشرق الأوسط تعيش حالة فراغ وتبعية وكذلك تشرذم كبيرة، بسبب غياب المشروع الوطني التكاملي الثقافي الذي يرفد كل مجالات الحياة الأخرى بحجج وطاقات وفلسفات النجاح الوطنية، في ظل عصر العولمة والذكاء الاصطناعي الذي يبحث عن الفرد المواطن أو العبد الجديد الذي انفصل عن مجتمعه وواقعه، إضافة لوجود ولاءات وانتماءات لغير الوطن والشعب، وإنما للسلطات وللممولين وأهوائهم ورغباتهم.
ولا بد لنا أن نشير إلى حالة الحياة السياسية والأحزاب والتيارات السياسية التي تم تحجيمها وإضعافها في منطقة الشرق الأوسط، حتى أصبحت ليس لها تأثير في الشارع ومحصورة ببعض شخصيات كبيرة بالعمر، وبأفكار تعيش قبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، ناهيك عن تلاعب السلطات في معظم دول المنطقة وتدخلها في حياة المجتمع السياسية، علماً أن الحياة السياسية لأي مجتمع هي تعبير عن حيويته وتجديده ورغبته العارمة في النقاش والتداول وإيجاد الحلول لمشاكل وقضايا الناس.
الأمة الديمقراطية مشروع لحل أزمة المنطقة
ورغم ضعف الحالة السياسية والمشاريع الحقيقية، فإن الأمر لا يخلو من الجيد والصادق والمشاريع الواعدة التي تحاول أن تتبنى أولويات ومصالح الشعوب والمجتمعات ولم شملها وجمعها في تحالفات وأمم ديمقراطية تستطيع مواجهة التحديات المختلفة التي ذكرناها، ومن أهم هذه المشاريع التي نعتقد أنها كانت ثمرة العقد الأخير، أو أنها كانت ثمرة تراكم خمسين سنة وظروف العقد الأخير سمحت له بالتأسيس والوُجود العملي والتطبيق بين الشعوب، هو مشروع الأمة الديمقراطية للقائد أوجلان الذي طرحه بعد قراءة نقدية للتاريخ الكوني وخاصة تاريخ الشرق الأوسط ودولها وشعوبها وبتدفقها المركزي والديمقراطي، والذي يركز على ثلاث نقاط رئيسية هي بناء مجتمع ديمقراطي وتحقيق حرية المرأة وبناء مجتمع أيكولوجي يحترم فيه الإنسان الطبيعة، ويتفاعل بإيجابية مع كل ما هو موجود في هذه الحياة من الماء والهواء والطاقة، وليس فقط التعامل معها من مبدأ الربح الأعظمي، ورغم رفض قوى الاستبداد والهيمنة لهذا المشروع، ولكنه صامد ويستمر في الحياة، ويعطي الأمل لشعوب المنطقة، كما هي الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كأحد نماذج تطبيق الأمة الديمقراطية، التي استطاعت هزيمة داعش ومقاومة الاحتلال التركي وتحقيق الحرية والديمقراطية لشعوب ومجتمعات شمال وشرق سوريا.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب