رأي

د. عبدالرحمان الأشعاري يكتب جانب من فقه المعاملات في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

يؤسس الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم معاملته مع الآخرين، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، على الصدق والوفاء والكرم والتسامح والتعايش والخلق الطيب وحسن الظن بهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يلقى الناس بوجه طلق ويبدأهم بالسلام وجميل الكلام، ويجالسهم بكل لطف ورفق وأدب، ويسأل عن أحوالهم ويشاركهم في أفراحهم وأحزانهم، يقول الحق سبحانه وتعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، والإشارة هنا إلى خلق النبي العظيم مع أصحابه رضوان الله عليهم جميعًا، ومع كل الناس مسلمين وغير مسلمين (وإنك لعلى خلق عظيم)، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وفي لفظ “لأتمم صالح الأخلاق”، فقد بعثه الله عز وجل يدعو إلى الخير والصلاح ومكارم الأخلاق.

اقرأ أيضا: المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي يكتب.. تناقض بين التهنئة الأمريكية للعرب بشهر رمضان وسلوكهم الإجرامي في حق شعوبنا

دأب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته على معاملة الناس بالحسنى والمشاركة في كل عمل ينفعهم وتكون له آثار إيجابية على المجتمع، ومن ذلك حلف الفضول، جاء في السيرة النبوية لابن هشام: “تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول”، وهو الحلف الذي قال عنه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُه”. والمراد بالمطيبين هنا حلف الفضول.

فالنبي صلى الله عليه وسلم من خلال مشاركته في هذا الحلف التاريخي في مكة للدفاع عن المستضعفين، يبصم على أعلى وأرقى مستويات المعاملة الإنسانية، ويقف على أحد أهم المقاصد الكبرى من مقاصد الشريعة الإسلامية.

والنبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب طيبته وعظيم خلقه، فهو مفاوض قوي وذكي، ففي صلح الحديبية الذي جرى بين كفار قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يحج المسلمون بيت الله الحرام، اختار المشركون سفيرًا لهم، وهو سهيل بن عمرو، لعقد الصلح، وبعد الاتفاق على قواعد الصلح، قال صلى الله عليه وسلم: “هات اكتب بيننا وبينك كتابًا”، فدعا الكاتب، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: تكتب بعد باسمك اللهم: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فاعترض سهيل بن عمرو، وقال: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: امحها يا علي، واكتب محمد بن عبد الله، فقال علي رضي الله عنه: والله لا أمحها أبدًا يارسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هاتها يا علي، فمحاها بيده عليه الصلاة والسلام، لأنه يعلم تمامًا أن علي لن يمحو كلمة رسول الله.

والمفيد في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يتخلص من مبعوث قريش، ففاوضه بكل مرونة وبعيدًا عن الغلظة والشدة، ذلك لأنه كان يعلم أن هذا الصلح سيكون فيه الخير كله، وسيكون هو مقدمة فتح مكة.

والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام يغضب أيضًا إذا انتهكت حرمات الإسلام، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: “دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطيفة مثنية، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما هذا يا عائشة؟، قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فبعثت إلي بهذا، فقال: رديه يا عائشة فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة”.

والرسول صلى الله عليه وسلم فضلًا عن ذلك، يتسم بالصدق في جده وحتى في هزله وبسطه، وأسوق في هذا السياق حديث المرأة العجوز التي جاءت النبي عليه الصلاة والسلام تقولُ لَهُ: يا رسولَ اللهِ ادع اللهَ لي أنْ يدْخِلَني الجنةَ، فقال لَها: يا أمَّ فلانٍ إِنَّ الجنَّةَ لا يدخلُها عجوزٌ، فانزعجَتِ المرأةُ وبكَتْ ظنًّا منها أنها لن تدخلَ الجنةَ، فلما رأى ذلِكَ منها، بيَّنَ لها غرضَهُ أنَّ العجوزَ لَنْ تدخُلَ الجنَّةَ عجوزًا، بل يُنشِئُها اللهُ خلقًا آخرَ فتدخلُها شابَّةً بكرًا، وتَلَا عليها قولَ اللهِ تعالى من سورة الواقعة الآية 35: إِنَّا أَنشَأْناهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أبْكًارًا عُرُبًا أُتْرَابًا”.

ومثله ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قابضٌ بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا، ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا”.

وبخصوص أهل الذمة، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل الهدية من المرأة اليهودية حينما أهدت إليه شاة في غزوة خيبر، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي دعاه في المدينة على خبز شعير وإهالة سنخة، وعامل اليهود بيعا وشراء، حتى إنه عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير اشتراه لأهله، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: “إن النبي صلى عليه وآله وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، ورهنه درعًا من حديد”.

وعليه، فإن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس كثير جدًا، وحفظ في سنته مع الرجال والنساء والأطفال، وفي مجالات عدة، ومناسبات كثيرة يعامل كل واحد من جلسائه بحسب حاله، فيتبسط مع من يتبسط معه، ويستحي ممن يستحي منه، كما في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: “أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ”.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى