د. عبد الرحمان الأشعاري يكتب.. غزة تفضح شعارات حقوق الإنسان الغربية
الكاتب مدير مركز العرب بدولة المغرب
ما يجري في غزة وفي جنوب لبنان انتهاكات صارخة وفاضحة لحقوق الإنسان بكل المقاييس، فلأول مرة تتابع المنظمات الحقوقية الدولية هذه الأحداث الدامية بعينين وأذنين لا تبصران ولا تسمعان، كما لو أن تلكم الأحداث تجري في كوكب آخر غير كوكب الأرض.
منظمات أوروبية وأمريكية، رسمية وغير رسمية، تصدر تقارير دورية عن حالة حقوق الإنسان في العالم، تتابع كل الأحداث وترصد أدق التفاصيل، بما في ذلك بعض الحالات الفردية الشاذة والشاردة، لكن عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية تختفي وتدس رأسها في التراب، وهذا دليل واضح على أن هذه المنظمات الأوروأمريكية تعتمد في تعاطيها مع القضايا والملفات المطروحة بانتقائية شديدة، وبما بات يعرف بازدواجية المعايير.
تقرير “الخارجية” الأمريكية
ومن هذه التقارير تقرير وزارة الخارجية الأمريكية، الذي تصدره كل سنة بمساعدة بعثاتها الدبلوماسية المنتشرة في العالم، وكذلك شركائها الموجودين في كل دول العالم، بما في ذلك الدول العربية والإسلامية من جمعيات ومؤسسات وبلديات وجامعات، وجميعها تتلقى تمويلًا من الوكالة الأمريكية للتنمية، يرصد هذا التقرير حالة حقوق الإنسان بشكل تفصيلي، كما يقدم خلاصات وتوصيات لكل دولة على حدة، يدعوها من خلالها إلى احترام حقوق الإنسان والالتزام بالقوانين الدولية الصادرة في هذا المجال، وفي حالة عدم الالتزام تتلقى هذه الدول عقوبات اقتصادية، وتحرم من تنظيم الملتقيات الدولية المهمة في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والحقوقية، وأيضًا الرياضية، ونذكر في هذا السياق دولًا مثل إيران وكوبا وفنزويلا، وغيرها من الدول التي تعادي الغرب؛ وعلى الخصوص أمريكا وطفلتها المدللة إسرائيل.
تقرير يقدم الولايات المتحدة الأمريكية كما لو أن موضوع حقوق الإنسان متجذر في ثقافة وسلوك مواطنيها، خصوصًا منهم الذين يمارسون الفعل السياسي، غير أن حرب غزة رفعت حجب الترديد وأزالت اللبس وكشفت القناع، وأظهرت أن أمريكا بعيدة كل البعد عن حقوق الإنسان، وأن ما تصدره من تقارير حقوقية ليس سوى شعارات ولوحات استشهارية.
أمريكا التي تقدم نفسها أيضًا راعية للسلام في العالم، هي من تستنفر كل قواها من أجل الدفاع عن هذا الكيان الغاصب، الذي يرتكب جرائم وحشية تهز الضمير الإنساني في حق مدنيين أطفال ونساء وشيوخ عزل، تتوزع بين القتل والذبح والحصار والتجويع بغاية ليس فقط القضاء على “حماس” ولا على المقاومة الفلسطينية، ولكن أيضًا إذلال الأمتين العربية والإسلامية، إذ هي من تزود الكيان بأحدث الأسلحة الفتاكة وأحدث أنظمة الدفاع الجوي مثل منظومة “ثاد”، وهي تعلم علم اليقين أن تلكم الأسلحة موجهة لاستهداف هؤلاء المدنيين.
لقد سقطت الولايات المتحدة الأمريكية سقطة حقوقية وإنسانية وقانونية مدوية؛ بدعمها الكامل والمباشر لحرب الإبادة الجماعية بقطاع غزة وشنها حملة اعتقالات واسعة في حق طلبة الجامعات، الذين خرجوا فقط للتعبير عن استنكارهم ورفضهم لهذه الإبادة الجماعية، وهي بذلك تكون قد ضربت بعرض الحائط كل الأعراف والقيم والقوانين الدولية، وأفقدت كل هيئات الأمم المتحدة مصداقيتها وأفرغتها من محتواها، بل إن الناشط الحقوقي فرانسوا دوروش، رئيس منظمة “عدالة وحقوق بلا حدود” في فرنسا، ذهب إلى أكثر من ذلك، عندما اعتبر أن هناك صمتًا وتواطؤًا دوليين تجاه ما يجري في غزة ولبنان من اعتداءات لا سابق لها في تاريخ الإنسانية، مؤكداً في حوار إذاعي ضمن برنامج “ضيف الدولية”، أن “القتل بالمجاعة وحرمان الناس من الطعام والمياه جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية”.
وقال في ذات الحوار: “الجرائم الصهيونية في قطاع غزة كشفت زيف الإذاعات الغربية وازدواجية المعايير والتوظيف السياسي للقانون الدولي، بحسب ما تقتضيه مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين في الصراعات الدولية”، مضيفاً: “والدليل على ذلك أن أمريكا تعرقل تطبيق هذه المبادئ لإدانة ومحاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه في فلسطين المحتلة، بينما تسارع محكمة الجنايات الدولية لنجدة وتقديم الدعم لأوكرانيا وإصدار مذكرات اعتقال في حق قادة وجنرالات بالجيش الروسي، في حين أن نفس المدعي العام يرفض التحرك لنجدة شعب يتعرض لمذبحة حقيقية وعلى مدار الساعة”.
تقرير الاتحاد الأوروبي
تتصدر كل تقارير الاتحاد الأوروبي ديباجة تحمل من معاني ودلالات حقوق الإنسان الشيء الكثير، وتحث جميع شعوب العالم على احترام هذه الحقوق، ومما جاء فيها أن “احترام كل حقوق الإنسان عماد المجتمعات الحرة والمستقرة والمزدهرة”.
فمن خلال هذه التقارير السنوية حول حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم، يتبين بجلاء كما لو أن حقوق الإنسان من الثوابت في المجتمعات الأوروبية، وأنها سلوك مترسخ في هذه المجتمعات فردًا فردًا، لكن حرب غزة عبرت عن الحقيقة المرة، وكشفت زيف وكذب ادعاءات هذه التقارير وأبطلت كل محتوياتها، وأكدت أن حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي مجرد واجهة تخفي وراءها مجموعة من الأفكار الهدامة، النازية، المتطرفة والعنصرية التي تعتبر الرجل الأبيض متفوقًا جينيًا، ودونه لا يستحقون سوى الرفس والركل والقتل والحصار والاعتقال والتجويع، تمامًا مثلما فعل الصرب بمسلمي البوسنة والهرسك، ولما سئل قائد صربي: لماذا تقتلون المسلمين؟ قال: “إنهم لا يأكلون الخنازير”.
ثم إن الاتحاد الأوروبي يقدم دعمًا لبعض المنظمات والجمعيات الحقوقية المنتشرة في عالمنا العربي، من خلال برامج التوعية والتدريب والرصد والتوثيق وإقامة الحملات الحقوقية، وغير ذلك، ويكاد يكون الممول الوحيد لهذه المنظمات، لكنه تمويل ودعم مشروط بالالتزام بالتوجهات السياسية لدول الاتحاد الأوربي، التي تؤيد وتدعم جميعها الكيان الصهيوني وتمده بالأسلحة الفتاكة المحرمة دوليًا ليقتل بها أهالي غزة، وتدعو المنظمات الحقوقية العربية إلى إدانة أعمال المقاومة الفلسطينية في تقاريرها، دون الإشارة إلى جرائم الإبادة الجماعية التي يقترفها الكيان كل يوم ضد أطفال ونساء وشيوخ غزة العزل أمام مرأى ومسمع كل العالم، وهو ما يتناقض كليًا مع قواعد ومبادئ حقوق الإنسان، التي ظل الغرب يروج لها في كل المحافل والملتقيات الدولية، ويحاكم على أساسها الدول التي تتخلف عن الامتثال لها، بل ويقيم الدنيا ولا يقعدها على مجرد شخص صودر حقه في التعبير عن الرأي أو الإضراب، أو تأسيس جمعية أو تعرض لاعتقال تعسفي، وما إلى ذلك، والأمثلة بهذا الخصوص كثيرة ومتعددة.
صرخة مسؤولين أمميين
وسط هذا الصمت وهذا التعتيم الحقوقي الغربي، دوت صرخة حقوقية أبطالها مسؤولون أمميون يتهمون الدول الغربية بالنفاق وازدواجية المعايير، يتقدمهم الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أدان أخيرًا قصف شمال غزة من قبل الطيران الإسرائيلي، لا سيما الذي تتعرض له المستشفيات، كما أدان في وقت سابق، وفقًا لما جاء في الموقع الرسمي للأمم المتحدة وبشكل لا لبس فيه، استمرار الخسائر في الأرواح على نطاق واسع بغزة، بما في ذلك في الغارات الجوية الإسرائيلية ببيت لاهيا، التي قتلت العشرات من الفلسطينيين، من بينهم العديد من النساء والأطفال، مشددًا على ضرورة احترام المدنيين وحمايتهم في جميع الأوقات، وهو موقف جر على أنطونيو غوتيريش غضب الغرب وغضب إسرائيل، الذي عدّته شخصًا “غير مرغوب فيه” ومنعته من دخول الأراضي المحتلة.
مسؤول أممي آخر يقول وبكل شجاعة، إن “إنهاء الحرب المستمرة منذ ما يزيد على السنة في قطاع غزة يمثل أولوية”، مطالبًا دول العالم بالتحرك لمواجهة “التجاهل الصارخ” من جانب إسرائيل للقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأضاف مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أخيرًا، في كلمة ألقاها خلال افتتاح الدورة الـ57 لمجلس حقوق الإنسان التابع لهيئة الأمم المتحدة في جنيف، بحسب ما جاء في وكالة “رويترز” الدولية: “يتعين على الدول ألا تقبل، ولا يمكنها أن تقبل، التجاهل الصارخ للقانون الدولي، بما يشمل القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وأوامر محكمة العدل الدولية، لا في هذا الموقف ولا في أي موقف آخر”.
فرانشيسكا ألبانيز، مسؤولة أممية أخرى تشغل منصب المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، انتقدت بشدة الدعم السياسي والعسكري المتواصل الذي تقدمه دول عدة، أغلبها غربية، لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، مؤكدة أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، منددة بمساعدة هذه الدول النشطة لسلوك إسرائيل “الإجرامي”.
وقالت ألبانيز، في مؤتمر صحفي بجنيف: “من المذهل أنه في مواجهة الهاوية التي وصلت إليها الأراضي الفلسطينية المحتلة… ظلت معظم الدول الأعضاء غير نشطة في أفضل الأحوال، أو تساعد السلوك الإجرامي لإسرائيل وتدعمه”.