د. عبدالرحمان الأشعاري يكتب.. غزة تغير خريطة أوروبا السياسية
المتابع لما جرى من انتخابات تشريعية في كبريات الدول الأوروبية يدرك جيدًا مدى تأثير أحداث غزة في نتائج هذه الانتخابات، التي عرفت فوز تكتل أحزاب اليسار الأوروبي لأول مرة مند سنوات عديدة.
وعلى الرغم من أن هذا الفوز يعتبر فوزًا نسبيًّا إلا أنه قطع الطريق على اليمين المتطرف، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى السلطة، بحيث نجح في حبس أنفاس أوروبا كلها على مدى أسبوع كامل، قبل أن ينتفض اليسار المعروف بمساندته لقضايا التحرر العالمية ومنها القضية الفلسطينية ويغلق كل المنافذ على التيار السياسي المعروف بمعاداته للهجرة والمهاجرين من ذوي الأصول غير الأوروبية.
غزة تنقذ المهاجرين
اتجهت معظم تصريحات المحللين السياسيين في أوروبا حول الفوز النسبي لليسار خاصة في فرنسا إلى أنه فوز جاء خوفًا من وصول اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين إلى سدة الحكم، إلا أن هذه التصريحات غضت الطرف عن أن هذا الفوز جاء أيضًا تضامنا مع أهل فلسطين عمومًا وأهل غزة على الخصوص، فمن المعروف أن أحزاب اليسار في القارة العجوز يساندون كل قضايا التحرر العالمية ويدافعون عنها، ومن أبرز هذه القضايا القضية الفلسطينية، وهو السبب الذي جعل الجالية العربية والمسلمة تتطلع إلى فوز اسم يساري يهدئ من وتيرة الحرب عليها، ويعطيها الأمل في إمكانية مواصلة الحياة في دول تتبنى عقيدة علمانية متطرفة.
ومن هذه التصريحات تصريح المحلل السياسي بمركز الدراسات الغربية في باريس أحمد الشيخ، الذي قال: فوز “الجبهة الشعبية الجديدة” يعود في جانب كبير منه إلى حالة الخوف والفزع التي انتابت قطاعات كبيرة من الفرنسيين، جراء تصاعد نفوذ اليمين العنصري المتطرف، فكان تصويتهم يسير في هذا الأفق أكثر منه تصويتًا إيجابيا لإنجازات اليسار”، مشيرًا إلى أن هذا الفوز من شأنه أن يساعد في “إعادة بناء أحزاب اليسار والتأسيس للغة جديدة يمكن أن تكسب عقول وقلوب المواطنين في هذه البلدان، ومواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهها الحكومات الوطنية في أوروبا”.
وتقول الخبيرة أوليفيا لازارد، العضو بمركز كارنيغي للأبحاث في أوروبا، إن الهزيمة غير المتوقعة لليمين المتطرف في الجولة الثانية جنبت فرنسا خطر “الارتداد إلى نوع من الخطاب السيادي والقومي، الذي أصبح متشددا ومعاديا بشكل واضح لأوروبا”، مضيفة في تعليقها لإذاعة “شومان” في مؤسسة “أورونيوز” أن فرنسا “لا تزال في الوقت الحالي واحدة من المعاقل الرئيسية في أوروبا ضد صعود اليمين المتطرف، وهذا يعني أن أوروبا ستبقى آمنة لفترة طويلة نسبيًّا عندما يتعلق الأمر بقضايا الدفاع”.
وهذا هو ما يفسر، حسب تصريح لباحث سياسي آخر، نسبة المشاركة المرتفعة في الدورة الثانية لانتخابات فرنسا، فالهدف في تصوره “لم يكن الانتصار لليسار، بل إسقاط خطر تطرف اليمين الصاعد في أوروبا، الذي أصبح يهدد قِيم العيش المشترك”.
ولكن، وبالنظر إلى أرشيف وأوراق أحزاب اليسار الأوروبي الأدبية، نجد أن هذه الأحزاب ظلت تدافع عن كل قضايا التحرر العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين.
الاعتراف بدولة فلسطين
قالت رئيسة الفريق النيابي لحزب “فرنسا الأبية” السيدة ماتيلد بانو، إنه خلال الأسبوعين المقبلين “سنعترف بدولة فلسطين”.
هذه العبارة جزء من تصريح صحفي خصت به رئيسة الكتلة النيابية لحزب “فرنسا الأبية” ماتليد بانو وسائل الإعلام الفرنسية والدولية عقب الكشف عن تقديرات نتائج التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، عرضت من خلالها برنامجها الانتخابي ووضعت على رأسه الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهي محاولة منها للتأثير على المواطنين الفرنسيين من ذوي الأصول العربية والإسلامية، الذين دأبوا في الفترة الأخير على الخروج في مسيرات تضامنية مع أهل غزة ومنددة بالعدوان الصهيوني على الفلسطينيين من الأطفال والنساء والمسنين.
ويعتبر حزب “فرنسا الأبية” أحد أهم مكونات اليسار الفرنسي الذي يطلق عليه “الجبهة الشعبية الجديدة”، المتصدر للانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث حصل على ما يناهز 188 مقعدًا في البرلمان الفرنسي، وأنقذ بالتالي المواطنين الفرنسيين من ذوي الأصول غير الأوروبية من كماشة اليمينيين المتطرفين.
وأضافت ماتيلد بانو في تصريح عقب الكشف عن تقديرات نتائج التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية: “في الأسبوعين المقبلين، سنرفع الحد الأدنى للأجور إلى 1600 يورو، ونلغي التقاعد عند سن 64 عامًا، ونعترف بدولة فلسطين”.
واتفقت الأحزاب السياسية التي تمثل اليسار، التي تشمل الاشتراكيين والخضر من اليسار المعتدل والحزب الشيوعي وحزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلنشون من أقصى اليسار على تشكيل تحالف، متعهدة بوضع حد أقصى لأسعار السلع الأساسية مثل الوقود والأغذية، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى صافي 1600 يورو شهري، ورفع أجور العاملين في القطاع العام، وفرض ضريبة الثروة وإدخال تعديلات على ضريبة الميراث، وإلغاء التقاعد عند سن 64 عامًا والعمل من أجل عودته كما في السابق إلى سن الستين.
أيضا وعد التحالف اليساري الناخبين بوقف مشاريع بناء الطرق السريعة الجديدة، واعتماد قواعد لمكافحة هدر مياه الشرب، وإلغاء تعديلات نظام التقاعد التي نفذها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وقت سابق، مضيفًا أنه سينهي إجراءات التقشف التي فرضت بموجب قواعد ميزانية الاتحاد الأوروبي، وإدخال تعديلات على السياسات الزراعية المشتركة مع دول الاتحاد الأوروبي.
حراك ضد الكيان الصهيوني
الحراك السياسي الذي ضرب دول الاتحاد الأولى وخلف حالة من الارتياح سادت معظم دول القارة العجوز بعد سقوط اليمين المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، لا يعني أبدًا أن القلق قد انتهى، إذ سرعان ما حل داخل الأوساط السياسية الأوروبية قلق آخر اعتبره الباحثون والمهتمون بالعلوم السياسية أشد من سابقه، وهو الموقف من الكيان الصهيوني، حتى أن النائب مايكل روث عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني، قال في تصريح لصحيفة “تاغشبيل” الألمانية، إن “ميلانشون لا يختلف عن لوبان كثيرًا، كونه مناهضًا لألمانيا وأوروبا” في إشارة إلى مساندته ومناصرته للقضية الفلسطينية.
فمن المعروف أن الناشط اليساري جان لوك ميلانشون المرشح لترؤس الحكومة الفرنسية المقبلة له مواقف مناهضة لحكومة نتنياهو الإرهابية، ومواقف مختلفة عن باقي الزعماء الأوروبيين السياسيين لما يجري في منطقة الشرق الأوسط ككل، وهو الأمر الذي يقلق الجارة الألمانية، التي ترى في فرنسا -القوة الاقتصادية الثانية في منطقة اليورو بعد إنجلترا- الشريك الاستراتيجي الأول، وتعول عليها في ضمان نجاح مخططاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فميلانشون لا يترك مناسبة من المناسبات إلا وبعث برسائل مشفرة للكيان الصهيوني تندد باعتداءاته وهمجيته وعنصريته تجاه فلسطين والفلسطينيين، التي لم يشهد التاريخ مثلها من قبل، يقول المحلل السياسي الألماني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط كيرستن كنيب، في تصريح صحفي: “إن التزام ألمانيا التاريخي تجاه إسرائيل هو أكثر من مجرد هدف سياسي، بل إن أمن تل أبيب ووجودها هما سببا وجود الدولة في ألمانيا، وهما يمثلان معًا جوهر المصالح الألمانية”، وهو ما قد يربك سياسة قصر البوندستاغ في منطقة الشرق الأوسط عمومًا وفي فلسطين خصوصًا باعتبارها سياسة داعمة ومساندة لـ “دولة إسرائيل”.
واضح إذن أن هذا الحراك من شأنه أن يحدث المزيد من الإشارات الإيجابية للقضية الفلسطينية، وهو ما يؤكد أن قطاع غزة وردًّا على من ينتقدون فصائل المقاومة الفلسطينية، فعل فعله في كل السياسات عبر ربوع العالم، وغيَّر الكثير من المفاهيم والاعتقادات الباطلة، وفضح المخططات الغربية الداعمة للكيان المجرم وأربك كل حساباتها، وأعاد للقضية الفلسطينية مكانتها وتوهجها كقضية مركزية لدى كل شعوب العالمين العربي والإسلامي ولكل أحرار العالم.