علي عمر التكبالي يكتب.. ذات يوم غنت فيه البلابل
سوف تعرفون يا أحفادي ذات يوم عما كتبت، واللون الذي به رسمت، وفي أي طريق سرت، وأين وقفت، ولماذا توقفت.. أعلم أنكم لن تجدوا كثيرا من الدسم واللحم، ولا كثيرا من الحلوى السائلة، تنزلق على الثنايا الزاهية، أو من الأوداج الساهية. ولكنكم حتما ستجدون طفلة بهية الإيهاب، زاهية الثياب تلوّح لكم بذراع واهية: “من هنا حضن الحقيقة”.
عشت في زمن العنفوان القافز من المذياع العتيق، المحمول فوق الأكتاف الصلدة.. أمسكت بكف إخوتي في الشوارع المغبرة، نتنفس غازا لا نراه، ونسمع هتافا لا نعرف مداه، ونمضي في طريق لم نفكر في منتهاه.. كنا نريد أن نصل كما أخبرونا في حكايات التفاح الذي يفوح، والماء الذي يرد الروح، فركبنا تلًّا ونزلنا وهدا، ومشينا دهرا واسترحنا شهرا. شاقة كانت الطريق، ومربكة كانت الطريق وهي تزوغ منا، وتتلاعب بنا، ولكننا رأيناها تمد ذراعيها في وسط دائرة من نور، وتكشف بشعاعها الأحمر بقايانا ونحن نهزم العصور.. أجساد ضامرة فوق أقدام متعبة، ولكن متوثبة، ووجوه شاحبة بعيون ذابلة ولكن متوقدة، تتخطى الموت المتربص في كل البقاع.
وصلنا يا أحفادي وصلنا، وهنأنا بعضنا وسجّلنا بأحمر الأحبار من فقدنا، ثم نسينا ومضينا، واتكأنا على من كان أكبر سنا، وخبر الدرب خيرا منا. كنا مثلكم صغارا، همنا الكتاتيب والمدارس مدانا، وحلوى يومنا الكتاب، والمكتبات مواعيد لقانا.
قرأنا وقرأنا وقرأنا، وجُبنا الطرقات المجهولة والمأهولة، وارتدنا الفلوات والفيافي ثم عدنا، وأصر كبارنا على أن نتعلم، فتعلمنا كل ما كان يعلّم. كان أمل حياتنا، وذروة منانا أن نسمع بأن العرب فد فعلوها، وأنهم مزقوا الستور وخرقوها.. دعونا في صلواتنا، وتمنينا في لقاءاتنا، وجعلنا منها درة حكاياتنا، ومطمح أمانينا. لكم كنا نشعر بالفخر ونحن نتحلق حول المذياع، رافعين مناقيرنا إلى السماء، وعيوننا تشع بالضياء.. كانت أياما مجيدة هان فيها كل شيء انتظارا لذلك الشيء.
وذات يوم قائظ نفخت الشمس فيه أنفاسها، فاستحال الفجر ظهيرة، واكتوت الرمضاء فصارت شهباء، سمعنا بطلائع المجد يحرثون الطريق إلى هناك.. إلى جوهرة المدن، مكمن الكبرياء، وسدة الشرفاء.. غبار وضباب، وحضور وغياب. خطب رنانة، وعبارات ولهانة، ورقاب مشرئبة فوق أصابع مشدوهة، تبحث عن الحقيقة في الجثث المذبوحة.. احترقنا وبكينا، وفجعنا وجزعنا وحزنا ثم تأسينا. شهدنا الرجل المغدور يقوم من الرماد كطائر الفينيق، فيجمع البلور المكسور، ويعيد بناء السور.. تعلمنا كما تعلمنا حينما كنا صغارا، ونبذنا ما ورثنا من حكايا قديمة، وتعاويذ عقيمة، وسرنا فوق دروب من شوك النار نطوي أجداث الهزيمة، وننزلق على دروب الاستنزاف والثأر، شاخصين إلى يوم يمحى فيه العار.
وذات يوم مكتوم النفس، جهم السحنة لبد في تلبّد الغيم فوقنا، ودعنا أيقونة الرجال في عصرنا.. حملناه كالطفل المولود حديثا على أكتفانا، وسرنا به في الطرقات الحبلى بالبشر، يقودنا حتى في موته إلى مثوى السؤدد والفخر. مات المثل كما سنموت بعد أن غرس في قلوبنا الحق الذي لا يموت.
في قلوب الشعب الحي يموت الجسد ولا تموت الفكرة، يخفت النبض والإيقاع، وخشخشة الأنفاس، وترنيقة العين، وتبقى الرغبة، تتحفز كلما حضرت الذكرى. فرغم البؤس والحبس، والتحقير والتصغير، والتكالب علينا، والهزء بنا، والشماتة فينا بقي على العهد من شرب من ينبوع الحكمة، فتعهّد النبتة، وحمل الكلمة، ليودعها في القلوب الغضة، كي تبعث من جديد الأمة، فعدنا ونحن أشد بأسا، وأكثر جرأة.
وذات يوم زاهي الألوان تغني فيه البلابل على الفنن، وتترفق فيه الشمس بالزاحفين على الوهن، ظهرت نجمة الشمال في الصباح، وآذنت ببدء المعمعة. البحيرة المطعمة بالنفط تحترق، والطائرات الرعناء تحترق، والدبابات الكاسرة تحترق.. والتراب واليباب والهضاب تحترق. “العرب قادمون،” عبارة جزوعة مزقت السكون، فانفلت المكان والزمان والكيان. وصرخ الطغاة والقساة، والعتاة “النجدة النجدة”.. جاء اليوم الذي قالت عنه الكتب، ولهجت به الخطب.. “أنقذونا.. أنقذونا”.. مسحنا المدى التي ثأرت لأمسنا، وشفينا القلوب التي انفطرت من يأسنا، وكفكفنا الدموع التي نزّت لحزننا، وسرنا نحمل المستقبل في ذواتنا، والماضي في ذاكرتنا. أيها الجيل المتبرعم على أغصان النور. أخطأنا ونجحنا، وقعدنا وسرنا، فاكتبوا فوق قوس النصر الذي تركنا، أسماء من سيحمل راية المجد الذي به حلمنا.
تذكروا أن الأيام القادمة تحمل أسى كبيرا، وتدس في ثناياها أمرا خطيرا. لم يعد العدو يأتي من الحدود، ولكنه يتسرب كالهواء من الجدران والشقوق والثقوب، ويندس في الحروف والصور، وحتى في الجلاليب واللحى والجيوب.. بانت نذوره للعيان، واخترق نذيره الآذان، وتلقفت هواه القلوب، فانحنت له الجباه، ولانت له الدروب، وعلا رأسه فوق كل البنيان. لم تعد المعركة يا بني سلاحا يشهر، أو ذخيرة تعد، ولم تعد جيشا يقهر، أو جحافل تصد. لقد صار عدونا منا وفينا، يعيش في مرابعنا، ويقتات من مآسينا. ويجوب شوارعنا ويرتاح فوق مراسينا. عدونا نحن الذين لعقنا العلقم بالعسل، وخلطنا السم بالدسم، فبدأت عوارض المرض تظهر علينا، فكذبنا ونفينا، وسرنا بلا عيون إلى شفير الهاوية.
نعود إلى مرافئنا حينما تعود لنا الكف التي تكتب من اليمين إلى اليسار، وحينما يطل فكرنا بوجهه الصبوح في النهار، فتنبثق الليالك في البرية، بكل حرية، وتنبجس العيون، وتورق الأشجار. سيدخل الضوء إلى وعينا، والحب إلى فكرنا، والماء إلى جذورنا، ومن ثم سينكشف الزيف المزروع مشاتل مشاتل في حديقة الدار.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب