في إيران دائمًا هناك رواية واحدة للأحداث ومصدر واحد للأخبار لأي حدث كبيرًا أو صغيرًا حتى لو كان سقوط طائرة رئيس وموته بعد ساعات من اختفائه، لذلك لن يكون هناك إجابات على الكثير من التساؤلات حول وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية أمير عبداللهيان الرجل الأقوى في رسم سياسة الصقور في إيران وتعاملاتها الخارجية، وبالفعل خرجت علينا هيئة الأركان الإيرانية تنشر التقرير الأولي الصادر عن لجنة التحقيق العليا لبحث أسباب سقوط مروحية الرئيس الإيراني.
ومنها أن مروحية الرئيس واصلت مسيرها المخطط مسبقًا ولم تخرج عنه، وطيار المروحية أجرى اتصالًا مع المروحيتين ضمن قافلة الرئيس، ولم يلاحظ أي أثر لإصابة بالرصاص أو ما شابه ذلك على حطام المروحية، وأن مروحية الرئيس احترقت عقب اصطدامها بالمنحدرات، وعمليات البحث استمرت حتى الساعة الخامسة صباحًا بسبب وعورة المنطقة والضباب الكثيف وبرودة الجو، والعملية انتهت بعد العثور على موقع سقوط المروحية عبر المسيرات الإيرانية، ثم توجهت فرق الإنقاذ نحو الموقع، ولم يتم رصد أي نقطة مشبوهة في اتصالات وحوارات طاقم المروحية مع برج المراقبة، تم جمع جزء كبير من الوثائق والآثار المرتبطة بالحادث، لكن دراستها بشكل أعمق تحتاج إلى المزيد من الوقت.
إلى هنا انتهى التقرير، ولكنه زاد من التساؤلات حول الحادث الجديد على إيران.
هل هناك علاقة بين موت الرئيس بهذه الطريقة وترشيحه لمنصب المرشد الأعلى خلفًا لخامنئي؟ وما دور مجتبى نجل المرشد خامنئي في الحكم وإدارة البلاد والسيطرة على المؤسسات الكثيرة في البلاد، ومنها مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة؟ وماذا حدث في الرحلة؟ ولماذا سلكت الطائرة هذا المسار في ظل الضباب؟ ما حقيقة الحالة الفنية للطائرة؟ وهل هي مؤهلة ليستقلها رئيس الجمهورية؟ ومن المسؤول عن صيانتها؟ ولماذا فشلت إيران في تحديد مكان الرئيس طوال 14 ساعة وانتظرت مساعدة خارجية لتحديد موقع الرئيس؟ وأخيرا لماذا اتهم وزير خارجية إيران السابق محمد جواد ظريف أمريكا؟ وهل هي مقدمة لاتهامات لاحقة؟
مروحية الرئيس الإيراني بلا “صندوق أسود”!!!
المروحيتان اللتان كانتا ترافقان مروحية الرئيس الإيراني تابعتا الطيران إلى قاعدتهما في مدينة تبريز رغم اكتشاف قائديهما اختفاء طائرة الرئيس (تنفيذا لأوامر عسكرية صارمة حفاظًا على سلامتهما وحتى تعرف الأسباب الحقيقية لاختفاء طائرة الرئيس).
ومكان تحطم مروحية الرئيس كان معروفًا بدقة لجهاز استخبارات الحرس الثوري الإيراني منذ لحظة “التحطم”، كون قائدي المروحيتين الناجيتين عنصرين في الحرس. والإعلان عن “اختفاء مروحية من ثلاث جاء بعد ساعات طويلة كانت كافية لتعزيز رواية محددة بدقة ووضع اللمسات الأخيرة عليها.
أما الحديث عن “سوء الأحوال الجوية” فكان غير صحيح إطلاقًا خلال فترة طيران المروحيات التي جاءها تأكيد “بمثالية الطيران خلال الساعات القادمة”، في حين كان السماح لطائرات غير إيرانية بالبحث عن مكان حطام المروحية جاء بعد ساعات طويلة من اختفاء طائرة الرئيس، فهناك تأكيدات بأنه لم يتم رصد أي اتصال من “المروحية المتحطمة” لقاعدتها يتحدث عن سوء الأحوال الجوية أو وجود مشكلة ما، وهناك تأكيدات على عدم وجود صندوق أسود في الطائرة المتحطمة، ما يعني إخفاؤه، خاصة أن هناك تأكيدًا على نزع الصندوق الأسود من الطائرة قبل الحادث بأسبوع، وهي فترة كافية لمعرفة أجندة تحركات الرئيس إلى أذربيجان الشرقية.
الرئيس الإيراني ذهب إلى أذربيجان لتدشين سد مائي جديد، ولم يأخذ معه وزير الزراعة والري، ومطالبة من وزير الخارجية عبداللهيان أن يرافق الرئيس في زيارته الأخيرة إلى أذربيجان ويركب معه طائرته الرئاسية عند العودة على الرغم من ركوبه طائرة أخرى في طريق الذهاب.
كل المؤشرات المُتاحة حتى الآن لا يمكن أن تستبعد احتمال التورّط الإسرائيلي في الحادث علي الرغم من سرعة نفيها الضلوع في الحادث من دون أن يُستبعد أيضًا الاحتمال الآخر ممثلًا في كونها حادثة عادية نتجت عن عوامل أخرى لا صلة لها بفعل فاعل، وأقله ليس الفاعل الإسرائيلي، بالنسبة إلى “الكيان” الصهيوني فهو لن يعترف بأي صلة بالحادث، ولكن استهداف الطائرة عبر أدوات تكنولوجية حديثة أمر لا يمكن استبعاده، ونتذكر هنا عملية اغتيال العالم النووي “فخري زادة” التي تمّت بأدوات تكنولوجية حديثة (ذكاء اصطناعي)، لم يُكشف عنها حتى الآن، ولكن السياق السياسي يدعم هذا الاحتمال، وهو تعبير عن الرد الإسرائيلي على الضربات الصاروخية الإيرانية في الداخل الإسرائيلي رغم بُعدها الاستعراضي لم يشبع نهم الصهاينة لاستعادة الردع، ومن الطبيعي أن يفكروا بشيء آخر.
هل يمكن أن يقول الإيرانيون ذلك حتى لو أيقنوا بالتورط الإسرائيلي؟ للأسف يُستبعد ذلك لأن اتهام إسرائيل سيفرض عليهم ردًّا من لون واسع سيفضي إلى معركة كبرى لا مصلحة لهم فيها راهنًا أقله وفق قناعتهم، ولكننا أصبحنا إزاء عودة إلى “حرب الظلال” التي يتفوَّق فيها “الكيان الصهيوني” بعيدًا عن الصدام المباشر، حتى لو تواصلت الحالة الراهنة ذات الصلة بالحرب على غزة وطبعًا عبر الحلفاء.
لماذا وافقت أمريكا على تصفية رئيس إيران ووزير خارجيته؟
خلاصة العلاقة بين الولايات المتحدة والثورة الإسلامية الإيرانية من نصف قرن مضى إيران دورها الوظيفي هو الفوضى في المنطقة وفزاعة تستدعى ضد دول الخليج العربي، ولذلك تكون مجبرة على فكرة الديانة الإبراهيمية مع إسرائيل، ومعاهدات عسكرية مع أمريكا، وشبه جزيرة العرب تمتلئ بقواعد عسكرية أمريكية فضلًا عن صفقات أسلحة بالمليارات طول الوقت! والغرب يعي أن إيران لو خرجت عن النص ووضعت أيديها في تحالف مع العرب أو مصر أو تركيا من الممكن ظهور إمبراطورية عظمى جديدة تظهر في الشرق في ظل الرغبات الدولية بظهور كيانات دولية كالصين وروسيا بجانب أمريكا لإحداث توازن دولي يتبعه توازن إقليمي قاعدته إيران ومصر والسعودية وتركيا.
وتحول الخريطة الجيوسياسية في العالم معناه نهاية القطب الأوحد وفشل مخطط إسرائيل التوسعي في المنطقة العربية، فمنذ تولي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي واختياره وزير الخارجية عبداللهيان، وهو مهندس التقارب المصري الإيراني الأخير، ورأينا أول لقاء من نوعه بينه وبين الرئيس السيسي في الرياض، وأول اتصال من نوعه عندما اتصل بالرئيس السيسي بعد الانتخابات الأخيرة وهنأه بفوزه، وأيضا كان مهندس الوفاق الصيني بين السعودية وإيران، وصار أول رئيس إيراني يزور السعودية في قمة الرياض في نوفمبر الماضي من عشر سنوات على الأقل، وأول رئيس إيراني يقابل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهذا ما جعل التكهنات داخل إيران تطرح اسمه كمرشد أعلى مقبل يعيد هندسة علاقات إيران في المنطقة، خاصة أنه الشخصية الوحيدة التي تنطبق عليها شروط تولي هذا المنصب الرفيع، وهو ما جعل إيران في حالة صراع داخلي بين جناحين داخل مكتب الإرشاد جناح يؤيد إبراهيم رئيسي وجناح آخر يدعم مجتبى خامنئي نجل المرشد الحالي، وهو ما دفع مجتبى خامنئي يرمي ثقله خلف شبكات مصالح الحرس الثوري الإيراني الذي صار الحزب الحاكم الحقيقي في إيران وكلامه مسموع على الجيش وعلى مكتب الإرشاد وباقي مؤسسات النظام الإيراني المعقد، خاصة في ظل تقدم سن المرشد الأعلى 85 عاما ودخوله المستشفى أكثر من مرة وخلاف حول من يخلفه.
صحيح أن إبراهيم رئيسي من تيار المحافظين، لكنه كان يحاول أن يصلح بين إيران من جهة والعرب وتركيا من جهة ثانية، وهذا على غير رغبة أمريكا، بل محظور وخط أحمر، المطلوب فقط رئيس متشدد مثل المرشد الحالي والرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي تآمرت إيران في عصره على المنطقة كلها فيما يعرف بالربيع العربي بمشاركة أمريكا، وإيران أخدت الثمن بالسيطرة على سوريا والعراق واليمن ولبنان، وأمريكا حققت أهدافها بنشر الفوضى الخلاقة ونموذج اللادولة وشراء الثروات البشرية والطبيعية للدول العربية ببخس الثمن في أسواق النخاسة والسوق السودة للنفط والغاز في بلاد الربيع العربي، ولهذا كان هناك نشاط ملحوظ لوزير الخارجية عبداللهيان بالتواصل مع دول الجوار العربي وكسر تابوهات الخلافات مع مصر، وساهم بشكل مباشر في عودة العلاقات مع السعودية، وهذا ما أزعج أمريكا وجعل محمد جواد ظريف مهندس الوفاق الأمريكي الإيراني ووزير الخارجية الإيراني الأسبق يقول إن أمريكا هي التي قتلت الرئيس الإيراني، بل الأمر أبعد من هذا، فقد وصفت مجلة “فورين يوليسي” الأمريكية في تقرير سابق لها سياسات رئيسي وعبداللهيان بـ«دبلوماسية الصقور»، معتبرة أنهما يشكلان «خطرًا مباشرًا» على الولايات المتحدة وحليفتها في منطقة الشرق الأوسط «إسرائيل»، وذلك نظرًا إلى توسعهما اقتصاديًّا وديبلوماسيًّا في اتجاهات عدة، فقد انتهج رئيسي وعبداللهيان مسارًا دبلوماسيًّا قويًّا خلال العامين الماضيين باتجاههما نحو الشرق من العالم وتعضيدهما العلاقات مع موسكو وبكين، وذلك في وقت تمسكا خلاله بصيغة توافقية مع السعودية والإمارات عبر مسار مصالحة جاء برعاية روسية فضلًا عن دعمهما للفواعل من غير الدول فيما يسمى محور المقاومة الذي يشمل (حزب الله اللبناني وحركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين المحتلة وجماعة الحوثي في اليمن).
الرغبات الثلاث في التخلص من رئيسي وعبداللهيان
هنا تلاقت الرغبات الثلاث الإيرانية والأمريكية والإسرائيلية في التخلص من إبراهيم رئيسي ومعه وزير الخارجية عبداللهيان، وبذلك يكون المرشد المستقبلي لإيران محصورًا في المنافسة بين “مجتبى خامنئي” المتشدد الأكثر من والده، وقد يساهم في تحول إيران من دولة دينية إلى دولة عسكرية، يعني حكمًا عسكريًّا تحت عباءة الملالي، وهذا ما يساهم في تعقيد المنطقة أكثر، وينشر الفوضى أكثر لصالح الأجندة الأمريكية للمنطقة.
كما أن إسرائيل تواصلت منذ الأربعينيات من القرن الماضي مع الجاليات اليهودية في القوقاز وإيران ورتبت شبكة قوية من المصالح لإقامة قاعدة عسكرية إسرائيلية سرية تتجسس على إيران من هذه المنطقة، والمنطقة التي سقطت فيها الطائرة الحدودية مع أذربيجان منطقة نزاع مسلح وتمردات، ما يعني أنها خارج السيطرة الكاملة لإيران.
وقصة الطقس غير مقنعة، لأن الموكب كان فيه 3 طائرات، والاثنتان الأخريان كانتا نفس خط السير ونفس التوقيت ووصلتا دون مشاكل! وأيضا من غير المقنع أنه عطل فني، لأن طائرة الرئيس تكون إجراءات السلامة والصيانة لها دقيقة ومبالغ فيها وتخضع لمراجعات دقيقة، ولهذا أعتقد باحتمالات إسقاط الطائرة بشكل مدبر في هذه المنطقة خاصة في ظل توافر أسلحة الطاقة الموجهة أو النبضة الكهرومغناطيسية وهي تعمل على تعطيل الأنظمة الإليكترونية للطائرة عن بعد في نطاق معين إن لم تكن الطائرة مجهزة لمقاومة هذه النوع من الاعتداء.
ووفقا للملابسات والظروف اللي أسلفنا ذكرها، سهل جدًّا بالتنسيق بين أمريكا وإسرائيل وأذربيجان إدخال وحدة من هذا السلاح داخل هذه المنطقة لاستهداف طائرة الرئيس، بل إن زيارة رئيسي نفسها لأذربيجان ممكن أن تكون استدراجًا بتخطيط مسبق من أجل هذه العملية، وقد تكون بالتنسيق مع عملاء داخل النظام الإيراني نفسه.
والغريب هو سرعة خروج هذا البيان من إيران دون النظر إلى الدعوات الداخلية والخارجية بوجود تحقيق دولي تشارك فيه دول كبرى لديها من تكنولوجيا المعلومات ما يوضح أسباب وقوع الطائرة، خاصة في ظل نجاح المسيرة التركية البيرقدار في تحديد مكان حطام الطائرة بعد 14 ساعة من فشل إيران في ذلك، على الرغم من امتلاكها مسيرات متطورة.
إذن هذا الحادث أوضح للعيان أن إيران دولة مخترقة، حتى وإن كان هذا الحادث كما جاء في روايتها الرسمية بسبب الأحوال الجوية، وأن غضب أمريكا وإسرائيل من رئيسي وعبداللهيان في إفشال مخططهم في المنطقة جاء متوافقا مع بعض الرغبات الداخلية للتخلص منهما وإنهاء عصر دبلوماسية الصقور.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب