أثارت تقارير إعلامية مؤخرًا معلومات ونقاشات حول عودة تنظيم داعش الإرهابي إلى ليبيا، جاء ذلك بالتزامن مع اجتماعات للتحالف الدولي ضد داعش في العاصمة المغربية “مراكش”، والذي احتلت “إفريقيا” جانبًا كبيرًا من المباحثات فيه. وفي هذا التقرير سوف نتعرض بالسرد والتحليل لتواجد التنظيم في ليبيا، وذلك على النحو الآتي:
خلفية تاريخية
في أبريل 2014 أعلن تنظيم أطلق على نفسه “مجلس شورى شباب الإسلام” بيانه التأسيسي في مدينة “درنه” شرقي ليبيا، معلنًا عن تشكيل ما أسماها “اللجنة الشرعية لفض النزاعات والصلح بين الناس بشرع الله” وبراءته من كل “قوانين الكفر وأعراف الجاهلية والمؤسسات التي تخالف شرع الله تعالى” على حد وصفه. وفي 5 أكتوبر من العام ذاته بايع هذا التنظيم “أبو بكر البغدادي” زعيم تنظيم داعش، ليشكل بذلك أول ولاية مزعومة للتنظيم خارج سوريا والعراق. وبعدها بخمسة أيام قام هذا التنظيم بأول عرض عسكري علني رافعًا رايات تنظيم داعش وداعيًا سكان “درنه” إلى سرعة مبايعة البغدادي. وفي 13 نوفمبر نشر “البغدادي” مقطعًا صوتيًا أعلن فيه قبول بيعة “مجلس شورى شباب الإسلام”، وتشكيل ثلاث ولايات في “ليبيا” هي: برقة في الشرق، فزان في الجنوب، طرابلس في الغرب.
ومنذ ذلك الحين قام تنظيم داعش بعدد من العمليات في “ليبيا” كان أشهرها وأكثرها صدًا إعلاميًا هو حادث مقتل 21 مصريًا في مدينة “سرت” في فبراير 2015، وهو الأمر الذي لم تسكت عليها مصر، وقصفت معاقل التنظيم بالطيران في الليلة نفسها التي قُتل فيها المصريون.
وفي يناير من عام 2016 شن التنظيم عدة هجمات استهدفت مدينتي “رأس لانوف والسدرة” اللتين تحويان أكبر موانئ تصدير النفط الليبية، وهو الأمر الذي أثار مخاوف الولايات المتحدة. وبناء عليه أصدر الرئيس الأسبق “أوباما” تصريحات أكد من خلالها أنهم لن يتركوا داعش في ليبيا. وفي 28 يناير من العام نفسه أعلن البنتاجون أن الولايات المتحدة تدرس توجيه ضربات جوية لعناصر التنظيم في “ليبيا”. وهو ما حدث بالفعل حيث تعرضت مليشيات داعش لهجمات جوية من قوات التحالف الدولي لهزيمة داعش، صاحبها هجمات برية من الجيش الليبي وهو الأمر الذي ألحق بالتنظيم ضربة موجعة جعلته يتجه نحو الحدود الليبية مع “تونس”، ومحاولة دخول مدينة “بنقردان” في 7 مارس 2016، وهو ما تصدى له الجيش التونسي بقوة، وألحق هزيمة قوية بالتنظيم، واعتقل 11 من أفراده، وقضى على 55 منهم.
بعد هذه العملية انكمش داعش في ليبيا عدة أشهر، لكنه عاد إلى الواجه باستهداف عدة حواجز أمنية في “طرابلس” و”سرت” في أغسطس عام 2017. وفي يوم الأربعاء 22 أغسطس 2018 نشر تنظيم داعش مقطعًا صوتيًا لإبي بكر البغدادي دعا فيه أنصاره إلى النفير العام إلى ليبيا وسوريا والعراق، وفي اليوم التالي الذي صادف ثالث أيام عيد الأضحى شنت عناصر التنظيم هجومًا على بوابة وادي كعام في مدينة الخمس شرق العاصمة طرابلس، أسفر عن 7 قتلى. وفي 23 نوفمبر من العام ذاته هاجم التنظيم مركز شرطة مدينة “تازربو” جنوب شرقي ليبيا، وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل 9 أشخاص. وقبل بداية عام 2019 بأيام قليلة أعلن تنظيم داعش مسؤليته عن هجوم انتحاري استهدف وزارة الخارجية الليبية وأسفر عن مقتل 4 أشخاص.
وفي 6 يوليو 2019 نشر تنظيم داعش مقطعًا مرئيًا بعنوان “العاقبة للمتقين… ولاية ليبيا” ظهر فيه “محمود البرعصي”، والمعروف باسم “أبو مصعب الليبي” وهو يبايع “أبو بكر البغدادي”، معلنًا أن داعش في ليبيا سيظل على تبعيته للبغدادي. وقد عقب هذه البيعة عدة غارات جوية أمريكية استهدفت إحداها منزل هذا الرجل وأسفرت عن مقتله في سبتمبر من العام ذاته. وفي دراسة لمعهد “واشنطن الأمريكي” نُشرت عام 2019 احتلت ليبيا المرتبة الرابعة في جذب المقاتلين الأجانب بعد أفغانستان والعراق وسوريا. وفي مايو من العام نفسه تبنى التنظيم هجومًا استهدف الحقل النفطي ببلدة زلة التابعة لبلدية الجفرة جنوب شرقي العاصمة طرابلس. وفي أغسطس 2019، ذكر الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” أن عدد عناصر داعش في ليبيا يتراوح بين 500 إلى 700 عنصر. وفي نوفمبر 2019 صرح مسئوولون أمريكيون أن غارات جوية أمريكية استهدفت معاقل داعش جنوب ليبيا وقضت على تأثيره بحيث لا يستطيع العودة إلى ما كان عليه في عام 2016.
أما عام 2020 فكان عام المباحثات الأممية لحل الأزمة السياسية في ليبيا. حيث عقد في يناير من هذا العام مؤتمر برلين الذي أثمر عن اللجنة العسكرية (5+5)، ودارت المفاوضات الأممية في “جينيف”. كما شهد هذا العام جهودًا مكثفة للدولة المصرية لحل الأزمة الليبية، من أهم هذه الجهود مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي “إعلان القاهرة” في يونيو 2020. وكانت أهم نقاطها: التأكيد على وحدة وسلامة الأراضي الليبية واستقلالها، واحترام كافة الجهود والمبادرات الدولية وقرارات مجلس الأمن، والتزام كافة الأطراف بوقف إطلاق النار، واستكمال أعمال مسار اللجنة العسكرية (5+5) بجنيف، وقيام الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بإلزام كل الجهات الأجنبية بإخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا، وتفكيك الميليشيات وتسليم أسلحتها، حتى تتمكن القوات المسلحة بالتعاون مع الأجهزة الأمنية من الاضطلاع بمسؤولياتها ومهامها العسكرية والأمنية في البلاد. ويرى كاتب هذه السطور أن هذه المبادرة كانت ضربة في مقتل لكافة التنظيمات الموجودة في ليبيا وليس لداعش فقط.
الوضع الحالي:
نشرت “وكالة أعماق” الداعشية الثلاثاء 19/ أكتوبر 2021 صورًا لما أسمته تخريج دفعة جديدة من “جنود الخلافة”. كان يظهر فيها عدد ليس بالقليل من أفراد التنظيم يؤدون تدريبات عسكرية تشبه العروض العسكرية التي يؤديها طلاب الكليات العسكرية. أتي نشر هذه الصور قبل 48 ساعة من انعقاد (المؤتمر الوزاري الدولي حول مبادرة “استقرار ليبيا“)، والذي عقد الخميس 21 أكتوبر من العام الماضي في ليبيا، بمشاركة ممثلين لدول عربية وغربية. وهو المؤتمر الذي كانت تعقد عليه ليبيا كثيرًا من الآمال من أهمها عودة الاستقرار، وإعطاء العالم صورة جديدة عن البلاد بعد الصورة السلبية الراسخة منذ 10 سنوات. لذلك سعى تنظيم داعش لإرهاب الوفود القادمة إلى البلاد عن طريق تذكيرها أنه ما زال موجودًا، ويطور من جاهزية مقاتليه.
كما أتي هذا المنشور أيضًا قبل حوالي 40 يومًا من الانتخابات الليبية التي كان مقررًا عقدها في 24 ديسمبر 2021، ولكنها لم تُعقد. وهي الانتخابات التي كان الليبيون والمجتمع الدولي يعولون عليها لإعادة الاستقرار إلى البلاد بعد 10 سنوات من الاضطرابات. لذلك فإن هذا المنشور في تلك التوقيت كان يحمل تهديدًا للداخل الليبي بعدم المشاركة في الانتخابات، وهو أمر معتاد من التنظيم، وقد سبق وهدد الناخبين في العراق وفي باكستان. ويؤكد ذلك نشر التنظيم بعد ذلك 3 مقاطع صوتية قديمة لثلاثة من قياداته التاريخيين يتحدثون فيها عن حرمة المشاركة في العملية الديمقراطية وجميع ممارساتها من انتخابات أو استفتاءات واصفين ذلك بالشرك.
ولقد تنوعت الصور التي نشرها التنظيم في المنشور سالف الذكر ولم تكن فقط لأفراد يتدربون إنما شملت أيضًا صورًا لبعض الأطعمة، وهو الأمر الذي ذكره التنظيم ووضح سبب ذلك قائلًا: “إن إظهار الطعام الجميل ليس عبثا، ففيه رسالة تحزن أعداء الله، ورسالة تفرح المؤمنين، ومن ظن غير هذا فقد ظن أن إعلامنا الرسمي يمشي على عماه -وحاشاه- فالإعلام الكلمات التي فيه والصور تدرس من جوانبَ عدّة،…”. فالمقصود إذن هو التأكيد على وجود التنظيم في ليبيا، ليس هذا فحسب بل والحديث عن أنه يعمل بأريحية هناك.
ومع بداية عام 2022 عاد التنظيم بقوة إلى الواجهة وأعلن عن مسؤليته عن عدة عمليات في ليبيا من أهمها الهجوم على كتيبة “طارق بن زياد” في أبريل الماضي، واشتباكاته مع الجيش الليبي. كما نشر التنظيم في شهر رمضان الماضي صورًا لمقاتليه في ليبيا تحت عنوان “يوميات جنود الخلافة في شهر رمضان بولاية ليبيا”، ظهر مقاتلو التنظيم في منطقة صحراوية أثناء تجهيز أصناف مختلفة من الطعام وخلال تناول الإفطار، وأداء الصلاة وغيرها من الشعائر، في إشارة إلى تواجد قوي للتنظيم هناك.
وخلال مايو الجاري رُصدت تحركات لتنظيم داعش الإرهابي في غرب ليبيا، حيث بدأ أفراده يتحركون في الشوارع بشكلي علني ويرفعون راية التنظيم، الأمر ذاته في الجنوب الليبي مستفيدين من الجغرافيا الصعبة التي تساعد أفراده على التخفي. وهو الأمر الذي أزعج المجتمع الدولي، وجعل القنوات والمواقع تعود إلى الحديث عن داعش في ليبيا.
الأسباب وراء ظهور داعش بقوة في ليبيا مؤخرًا:
بعد هذا السرد ينبغي أن نسأل: لماذا أصبحت ليبيا مهمة لداعش؟ ولماذا استطاع أن يقوى هناك ويعود إلى الواجهة من جديد؟ نرى أن الإجابة على السؤالين إجابة واحدة مرتبطة ببعضها بعض، ويمكن إجمالها على النحو الآتي:
- الموقع الجغرافي المميز لليبيا والذي يربطها بالعديد من الدول المهمة في المنطقة يجعل داعش حريص على التمركز فيها، وجعل الجنوب نقطة انطلاق إلى الداخل الليبي وإلى دول تشاد والنيجر ومالي، ومن ثم التواصل مع داعش في غرب إفريقيا. من جهة أخرى الاستفادة من الغرب الليبي وجعله منطقة جذب للموالين للتنظيم من دول المغرب العربي من موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس. كذلك الاستفادة من القرب بين ليبيا وأوروبا وسهولة التواصل بينهما بطرق مشروعة وغير مشروعة.
- الصراعات المتعددة الأطراف داخل الدولة الليبية والتي ساعد على قوتها وجود كميات كبيرة من الأسلحة مع الأطراف المتصارعة. وفي 2017 قال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا “غسان سلامة” إن هناك حوالي 23 مليون قطعة سلاح لا تستطيع البلاد جمعها أو ضبطها. وفي 2018 قالت الأمم المتحدة في تقرير لها إن ليبيا تضم أكبر مخزون في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، وأن التقديرات أشارت إلى أن عدد قطع السلاح في ليبيا بلغ 29 مليون قطعة. ولا شك أن هذا العدد الكبير من الأسلحة يقوي الصراع الموجود في البلاد، ويقوي أطرافه، ويثير الفوضى. وهذه هي الأجواء المواتية لظهور داعش، فأينما وجدت الفوضى وجد داعش.
- الفراغ الأمني الموجود في ليبيا والناجم عن غياب سلطة تنفيذية قوية قادرة على السيطرة على كامل التراب الليبي دائمًا ما يهيئ مناخًا مناسبًا لظهور داعش التي تحاول أن تملأ هذا الفراغ كما حدث في سوريا والعراق قبل ذلك.
- ارتباط المشهد السياسي الليبي بمشاريع دولية وإقليمية ومصالح واختلافات وتوازنات لا يراعي أغلبها مصلحة ليبيا، وهو ما يعطي داعش وغيرها من المليشيات فرصة للتواجد وتغير الولاءت من فترة إلى أخرى.
خلاصة القول
على المجتمع الدولي أن يعطي المخاطر الناجمة عن تواجد الإرهاب في ليبيا الأهمية اللازمة، وخصوصًا التنظيمات الإرهابية التي لها وجود في أكثر من دولة مثل داعش والقاعدة، وإلا سوف تصبح ليبيا محل جذب لجميع التنظيمات في غرب إفريقيا وخصوصًا بوكو حرام. من أجل ذلك ينبغي مساندة ليبيا في حل أزمتها الداخلية وفض الاشتباك القائم بين الجهات السياسية الرسمية في الدولة، وحث جميع الأطراف على التراجع خطوة للخلف وتقديم تنازلات من أجل توحيد الشعب وإنهاء حالة الاستقطاب القائمة في البلاد. كما ينبغي مساندة المجتمع الدولي لليبيا في القيام بعملية شاملة لطرد كافة المليشيات الأجنبية الوجودة في البلاد. كما يجب وجود مخرج قانوني لحظر توريد السلاح للجيش الليبي حتى يتمكن من مواجهة المليشيات الموجودة في البلاد. أخيرًا تقوم جمهورية مصر العربية حتى هذه الساعة بجهود مكثفة لعودة الاستقرار إلى الشقيقة ليبيا، وهي جهود ينبغي على المجتمع الدولي دعمها والعمل على إدخالها حيز التنفيذ.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب