د. محمد جبريل العرفي يكتب.. الغرياني يسير على درب أسلافه الذين حرموا الحنفية والقهوة والطباعة وتعليم النساء
وظيفة المفتي لم تكن موجودة قبل الدولة العثمانية، الوظيفة المعروفة هي القاضي. الدولة العثمانية كانت أول دولة إسلامية غير عربية، فأرادت أن تخضع الناس بوازع الدين، فابتدعت وظيفة المفتي الذي أصدر فتاوى خرجت عن الشأن الديني، معظمها كانت فتاوى رجعية، تعارض أي جديد، فعندما اخترعت المطبعة عام 1436م على يد الألماني (يوهان غوتنبرغ) أفتى بتحريمها، وتكفير من يستخدمها، أصدر ابن بايزيد الثاني فرمانًا بإعدام من يستخدمها، واستمر ذلك ثلاثة قرون، إلى أن صدر عام 1727 فرمان يجيز تأسيس أول مطبعة، لطباعة الكتب باستثناء العلوم الدينية وعلم الكلام! كي يُمكن السيطرة على وعي الناس بتفشي الجهل بأمور الدين.
نموذج آخر عندما ظهرت الصنابير شكلت خطرا اقتصاديا على السقائين وتجار الأباريق، فلجؤوا إلى شيوخ المذاهب، الذين أفتوا ببطلان الوضوء بالصنابير، ما عدا الحنفية التي اعتبروها تسهيلا على الناس. ولهذا سمي الصنبور بالحنفية نسبة إلى المذهب الحنفي.
أفتوا بحرمة الدراجات ولقبوها (حصان إبليس) الذي يسير بالجن.
وحين ظهرت آلات التصوير حرموا التصوير، والمرئية، والأطباق، والهاتف المزود بآلة تصوير، وأفتوا بحرمة السفر إلى المريخ! وحرموا القهوة واعتبروها مفسدة للعقل أشد من الخمر، إلى أن جاء المفتي أيام مراد الثالث وأفتى بأن القهوة حلال.
وأفتوا بتحريم المدارس وخاصة تعليم البنات. ألف عثمان الألوسي كتابا بعنوان (الإصابة في منع النساء من الكتابة).
وحرموا الديموقراطية، والتعامل مع المصارف، ووصفوا الاشتراكية بالشرك، والفكر بالكفر، فأحرقوا الكتب وقتلوا العلماء والفلاسفة.
اكتوت أيضاً بلادنا بنيران الفتاوى، أبو الإسعاد العالم أفتى بالجهاد لصالح إيطاليا، وأفتى بأن المجاهدين خوارج، ومحاربة الإيطاليين عصيان لله، وأفتى للمجندين الليبيين في الجيش الإيطالي بالإفطار في رمضان، لأنهم في عداد المجاهدين!!!
وعندما زار موسوليني ليبيا كان أبو الإسعاد أحد أفراد اللجنة الخمسة المكلفين باستقباله، وأهدى له سيفا سمّاه سيف الإسلام، والمفارقة أن قبضة السيف منقوش عليها صليب. وقد فعل مثله مفتي برقة في تلك الفترة عبد الحميد الديباني. بعد خروج الإيطاليين وتطبيقا لمقولة (حتحات على ما فات) عُيّن أبو الإسعاد مفتيا لليبيا، والديباني رئيس جامعة.
طيلة 12 سنة يفتي الغرياني بأن من يقاتل مع الجيش الليبي يعتبر من الفئة الضالة، ومن يقاتل ضد الجيش الليبي شهيد.
وطالب الغريانى بسحب الجنسية الليبية من أكثر من نصف سكان ليبيا، ففي مداخلة له مع قناة ليبيا (الأحرار) يوم 2012.6.14 قال: “الذين قتلوا من قبيلة المشاشية والملتحمين معهم، ماتوا ميتة الجاهلية ومكانهم جهنم فيها خالدون، وأعلنها جهارا أن قبائل مثل المشاشية والتبو وبن وليد والطوارق وترهونة قبائل مارقة، وأن استمرار السكوت على أفعال هذه القبائل هو كفر بعينه من الحكومة المؤقتة، وأقولها هنا إن الشرع يحل للسلطة إبعاد ونزع الجنسية منهم ويجب السير في اتخاذ ذلك الإجراء بوتيرة سريعة”.
فتاويه مقياس للعلاقة مع جماعة الإخوان، فقد أفتى بتعطيل الحج وتحريم العمرة بدعوى أنها تقوي الاقتصاد السعودي، وحرض على بث الفتنة بين أبناء الشعب المصري الشقيق، وأجبر الناس على الصوم لأن خصمه السياسي أفطر، وأفتى بأن من لا يعترف بفضل قطر أقلّ من كلب.
إذن هذا المرض قديم يستشري بين المسلمين عندما يتركون أمر دينهم للجهلة والخونة وفقهاء السلاطين.
هكذا يتم استعمال الدين لفائدة من يمتلك السلطة والثروة حتى ولو كان غازيا أو محتلا أو دخيلا أو خائنا.
تصوروا حالنا لو أقر دستور تورا بورا ستكون هذه الفتاوى الشاذة هي التي تحكم المجتمع، ويمثل المفتي وكيلا لله على الأرض يفتي في كل شيء، من الطهارة والعبادات إلى التغير المناخي والفضاء والرقائق الإلكترونية.
الإسلام دين تقدمي يحتكم للعلم، فتقدم علوم الفلك مكنت البشر من تحديد مواليد الأهلة لمئات سنين قادمة. رحم الله من سبق عصره واعتمد الرؤية العلمية في تحديد الأهلة، التي اعتبرها وقتها الرجعيون أنها بدعة، وكفروه بسببها. وها هم اليوم يعودون لرشدهم ويعتمدونها.
إن ما قام به المفتن – علاوة على مخالفته لفتاويه الموثقة في كتبه وتسجيلاته – هو توظيف للدين لأغراض سياسية، واختبار لقوة أتباعه، ومناكفة لخصومه السياسيين، وشرارة إشعال لحرب أهلية طائفية. كما أنه ضيع هيبة الشخصية الدينية وأفقدها احترامها، لأنه انحاز لطرف ضد طرف لأغراض دنيوية. لكن الليبيين خيبوا ظنه، فممارسات البطش والترهيب والاعتقالات التي تمت في طرابلس لم تثنهم.
منظر التراشق بالألفاظ والأحذية، يعزز القناعة بأن قرار إلغاء هذه البدعة عام 1983 قرار صائب، والقانون رقم 8 لسنة 2014 بحل دار الإفتاء كان واجبا، وعرقلة تمرير دستور (تورا بورا) إنقاذ للمستقبل.