د. محمد جبريل العرفي يكتب.. توظيف التقنية للخير والتقدم أم للاغتيال المعنوي والتحكم؟
التقنية كانت لا تستخدم من قبل عامة الناس، بل حكراً على الدول القوية، في الستينيات أذكر أن عبد الناصر الله يرحمه قال “أمريكا عندها تقنية تستطيع تصوير كرة القولف على الأرض”.
في الستينيات كنا نجتمع للسهر عند جارنا المرحوم نوح الشيخي حول المذياع نوع (سيرا)، الوحيد في منطقة اسحيوة، في ذلك الوقت لا يوجد بث مرئي ولا أطباق فضائية ولا شبكة إنترنت، الآن أصبحت متاحة للجميع، الاختراعات ممكن تستخدم للخير أو للشر، فمثلا المخدر في أيدي الأطباء يستخدم للخير، وعند تجار المخدرات للشر، وكذلك تقنية الإنترنت ممكن استخدامها لخير البشرية، أو للتجسس والاغتيال المعنوي والتحكم وتشكيل العقول.
اقرأ أيضا: د. محمد جبريل العرفي يكتب.. لا رجوع.. فالثورة هي صنع المستحيل
وخاصة أن الضحايا يجهلون القدرات التقنية المتسارعة، فالهاتف تجاوز كونه وسيلة اتصال إلى أداة تملك قدرات خارقة، فكل شخص في يده جهاز يستخدمه هاتفا وقناة فضائية وصحيفة ووكالة أنباء ومكتبة وإستوديو مرئيا ومسموعا. كما توجد برامج يمكن زرعها في هاتفك تعطي تقارير عن الأماكن التي زرتها وعن المسافات التي قطعتها راكبا أو راجلاً، وتوجد برامج تستطيع السيطرة على الهاتف وتجعله يعيد بث ما فيه، مثل برنامج (بيجاسوس) الإسرائيلي، كما أن الصور الملتقطة بالهاتف الذكي تعطي معلومات عن موقع التصوير ووقته، هذا الأسبوع تم اغتيال قائد غواصة روسي من خلال متابعة تحركاته أثناء رياضته الصباحية، لأنه يستخدم برنامج (سترافا) للرياضيين. جهاز الهاتف أصبح إثبات هوية وتحديد موقع، فقد ارتفع بعض الشهداء نتيجة إجراء اتصالات غير مؤمنة أو نشر صورة بهواتف ذكية. كما أن تقنية إخفاء المواقع (VPN) وإمكانية استنساخ رقم الهاتف، تساعد في ارتكاب جرائم بنسخ مزورة لرقمك ربما في دولة أخرى.
الذكاء الاصطناعي يستخدم لنسخ بصمة الصوت وتركيبها على أي مقطع، أو تركيب المقاطع والصور بشكل لا يمكن اكتشافها إلا من قبل محترف، وخاصة أن تسارع المعلومات وكثافة حجمها تضعف المناعة ضد فرز المواد المفبركة والمزورة. تقارير المخابرات الأمريكية حول أوكرانيا تم تسريبها عن طريق ألعاب (البوبجي)، كما أن الشبكات السوداء أسواق لتجارة كل شيء.
بعد 2011 انتشرت أساليب الابتزاز بالمقاطع مثلما حدث بعد اختطاف دوغه وزوبيه وزيدان وغيرهم. الآن أصبح كثير من المسؤولين أداة طيعة في أيدي أعدائهم وخصومهم ومنافسيهم وأحيانا مرؤوسيهم، أو المخابرات المعادية، وخاصة في غرب ليبيا حيث وقع مسؤولون من الصف الأول ضحايا لهذه الأعمال ففقدوا حرية قرارهم، فترى المرؤوس متنمرا ومتمردا على الرئيس، أو ترى المسؤول منفذا مطيعا لإرادة الآخرين بما فيهم الأجانب.
المشكلة لها أبعاد كثيرة، ومركبة من الخطورة الأمنية، والماكينة التقنية، والقيم الأخلاقية، والأطر القانونية.
البعد الأمني: لا يختلف اثنان عاقلان على خطورة الأمن التقني على الأمن القومي، وعلى النسيج الاجتماعي، والوئام الأسري، ولهذا وجب حماية الشخصيات العامة من الاغتيال المعنوي أو التحكم في إرادتهم وتوجيه قراراتهم. حماية الشخصيات العامة ليست فقط بتقوية الحراسة الظاهرة بل تتعداها إلى الحماية السيبرانية، وجزء كبير من هذه المهمة يقع على المسؤول ذاته، بأخذ الحذر عند استخدام الهواتف غير المؤمنة والحواسيب أو عند التواصل بالجنس الآخر، تجنيد النساء من أكثر الأساليب القذرة شيوعاً. الأمر تدريب وتأمين وتنبيه ووضع مدونة سلوك. في الجامعة نعّرف أمن المعلومات بأنه “التحكم في وصول المعلومات المناسبة إلى الشخص المناسب، في القوت المناسب، بالشكل المناسب، والقدر المناسب”.
الماكينة التقنية: تمكن مدعي المعرفة بالتقنية من تضليل رؤسائهم القاصرين، وذلك بادعاء أنهم أصحاب إمكانيات تقنية قوية وخارقة وعصرية، بينما حقيقتهم متخلفون عن تقنيات العالم المتسارعة. أذكر في الثمانينيات كان يدرسنا ضابط متقاعد من البحرية الأمريكية في مادة (تصميم وانتقاء الأنظمة) قال لنا “يا أبنائي في العالم هناك كذابين، وكذابين طبرقعيه، ثم بائعي الحاسوب”
“then the computer sailors lairs، dam lairs”
دائما أتذكر هذه العبارة عندما أشاهد مسؤول وحدة الحاسوب يعرض في قدراته على رئيسه غير المتمكن من التقنية.
من ناحية أخرى الإعاقة التقنية تخلق فرصا لنجاح الاختراق وتشكيل عقول الضحايا. وبالتالي التحكم في سلوكهم، أما البعد الأخلاقي: فهو استخدام التقنية للابتزاز والاغتيال المعنوي والانتقام.
البعد التشريعي: بسن قوانين تواكب العصر من حيث أساليب الاستدلال، وجمع أدلة الاتهام، ومواد البراءة والإدانة، وردعية العقوبات.
مجلس النواب الليبي اتخذ خطوة مهمة بسن قانون الجرائم الإلكترونية، ولكنه ما زال في حاجة إلى تطوير ليركز على الأمن الاجتماعي بجانب الأمن السياسي، إن الإفراط في التجريم يؤثر في عقيدة سلطة الاتهام وعقيدة القاضي، كما أن قصور الخبرة القضائية في مجال التقنية قد تبرئ مذنبا أو تدين بريئا.
التحكم في التقنية قضية أمن قومي، مشكور مجلس الأمن القومي كونه قرع جرس تنبيه بالخصوص، ونجح في تحريك مياهه الراكدة.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب