التربية من أجل المواطنة في المجتمعات الأفريقية: بين القبيلة والدولة: دراسة حالة “القرن الأفريقي”
تمثل قضية التربية من أجل المواطنة في المجتمعات الأفريقية أحد أهم القضايا التي ترتبط بمسألة بناء الدولة الحديثة في القارة الأفريقية، وهي القضية التي تطرح نفسها بقوة في سياق التحولات السياسية والاجتماعية التي تعيشها دول القرن الأفريقي، لا سيما في ظل ما تشهده هذه المنطقة من تحديات مرتبطة بالاستعمار وإرثه الممتد، بالإضافة إلى التحديات البنيوية العميقة التي تعرقل التحول من القبلية إلى الدولة المدنية الحديثة. تتناول هذه الدراسة العلاقة بين التربية والمواطنة في دول القرن الأفريقي (إثيوبيا، إرتريا، جيبوتي، والصومال) مع التركيز على تحليل الإشكاليات المرتبطة بالقبلية، الهيمنة الاستعمارية، والصراعات العرقية والدينية.
يشير الكتاب “تربية من أجل المواطنة في المجتمعات الأفريقية بين القبيلة والدولة: دراسة الحالة للقرن الأفريقي”، الذي يستند إلى أطروحة علمية أعدها محمد إبراهيم محمد “منصور*” لنيل درجة الماجستير من كلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، إلى أن الانتقال من القبلية إلى الدولة المدنية لا يزال يمثل تحديا جوهريا في المجتمعات الأفريقية، خاصة في دول القرن الأفريقي. وقد أعدت هذه الرسالة تحت إشراف علمي من الأستاذ الدكتور سامي نصار، العميد الأسبق للكلية الذي شغل هذا المنصب لأكثر من 15 عامًا، وله إسهامات علمية بارزة في مجالات التعليم على المستويين القومي والإقليمي، وضمت لجنة المناقشة نخبة من العلماء والمفكرين في مجال السياسة والتربية.
وتناول المؤلف في هذا العمل العلمي قضية المواطنة في دول القرن الأفريقي (إثيوبيا، إرتريا، جيبوتي، والصومال)، باعتبارها مناطق تعاني من أزمات بنيوية عميقة تعيق التحول إلى الدولة الحديثة. إذ لا تزال القبيلة تلعب دورا محوريا في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي، مما يعزز من النزاعات العرقية والدينية ويحول دون بناء مجتمعات متماسكة تقوم على أسس المواطنة والمساواة.
وتتسم المجتمعات الأفريقية، على الرغم من مرور عقود طويلة على انتهاء الحقبة الاستعمارية، بترسخ القبلية في الوعي السياسي والثقافي. هذا الأمر يظهر في الممارسات التمييزية التي تعزز النزاعات القبلية والدينية، وتجعل من مفهوم الدولة أداة للتسلط بدلا من أن تكون إطارا لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. في ظل هذه التحديات، يصبح من الضروري البحث عن سبل لنشر ثقافة المواطنة الحقيقية التي تقوم على قيم الديمقراطية، المساواة، وسيادة القانون، مع مراعاة السياق الأفريقي الخاص الذي يعاني من تأثيرات الاستعمار وبقاياه.
في هذا الإطار، ينطلق الكتاب من تساؤل رئيسي حول مدى قدرة دول القرن الأفريقي على تجاوز القبلية وبناء دولة المواطنة، ويرى المؤلف أن هذه الدول لم تتمكن بعد من تحقيق هذا التحول. ويرجع ذلك إلى استمرار الهيمنة القبلية وانعدام بيئة ملائمة لترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية.
اعتمدت الدراسة على منهجية نقدية مستوحاة من أفكار ما بعد الكولونيالية، لتفكيك التأثيرات التي خلفها الاستعمار على بنية المجتمعات الأفريقية. وقد تأثرت هذه المنهجية بشكل خاص بأعمال مفكرين مثل فرانز فانون الذي ركز على مواجهة العنصرية والهيمنة الاستعمارية. تناولت الدراسة ثلاثة مراحل تاريخية رئيسية. المرحلة الأولى هي مرحلة ما قبل الكولونيالية التي سادت خلالها فلسفات أفريقية محلية مثل فلسفة “الأوبنتو” التي ركزت على قيم الحرية والمساواة. المرحلة الثانية تمثلت في عصر الكولونيالية، حيث فرضت النماذج الأوروبية هيمنتها على النظم المحلية، مما أدى إلى فقدان الهوية الثقافية وزيادة التبعية. أما المرحلة الثالثة، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، فقد شهدت محاولات لبناء نظم تعليمية تركز على المواطنة وتسعى إلى التخلص من الهيمنة الأوروبية، ولكن هذه المحاولات لم تحقق أهدافها بشكل كامل.
وناقش الكتاب دور التعليم في تشكيل مفهوم المواطنة، مشيرا إلى أن التربية للمواطنة كانت حاضرة في المجتمعات الأفريقية منذ ما قبل الكولونيالية، حيث اعتمدت على نظم محلية التي ركزت على نقل القيم والمعتقدات من جيل إلى آخر، وكذلك إعداد الأفراد لخدمة مجتمعاتهم القبلية، بينما استخدمت في المرحلة الكولونيالية لتصبح أداة لخدمة الأيديولوجيا الاستعمارية وإلغاء الهوية الثقافية الأفريقية وتعزيز التبعية للاستعمار، مما أدى إلى خلق فرد بلا هوية قومية أو ثقافية. وقد حاولت الدول الأفريقية بعد الاستقلال إصلاح منظوماتها التعليمية لتتوافق مع متطلبات الدولة الحديثة، إلا أن هذه المحاولات ظلت عاجزة عن تحقيق أهدافها في ظل هيمنة النخب السياسية الفاسدة واستمرار النزعات القبلية والعرقية، وغياب بيئة تشجع على ترسيخ قيم الديمقراطية والمواطنة الحقيقية.
وتشير الدراسة إلى أن التربية للمواطنة تحتاج إلى تبني نهج تحرري يعزز الانتماء إلى الإنسانية وقيم الحرية والعدالة والمساواة، بدلاً من النهج القهري الذي يدعم الوضع القائم ويعزز الانقسامات. كما تبرز أهمية بناء دولة القانون التي تعتمد على سيادة الدستور وتعترف بالتعددية العرقية والدينية. ويعد ذلك ضرورة ملحة في القارة الأفريقية التي تعاني من تفاقم النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي نتيجة سيطرة الأنظمة التسلطية التي تعتمد على القبلية كأداة للهيمنة.
وركزت الدراسة على العلاقة بين القبيلة والدولة في سياق القرن الأفريقي، مشيرة إلى أن الاستعمار ساهم في تقسيم القبائل والمجموعات العرقية بهدف تعزيز السيطرة. كما أن الأنظمة الأفريقية الحديثة لم تتمكن من التعامل مع هذه الانقسامات، بل زادت من حدتها نتيجة فشلها في بناء دولة المواطنة. وفي ظل هذا الواقع، أصبح مفهوم الدولة في أفريقيا مرتبطا أكثر بالتسلط والسيطرة بدلاً من التنمية، مما أدى إلى ظهور أنظمة سلطوية تعتمد على القمع والفساد. وتؤكد الدراسة أن النموذج الحديث للدولة الأفريقية لا يعدو كونه صورة مشوهة للنظام الاستعماري الغربي.
وخلصت الدراسة إلى أن الدولة الحديثة في أفريقيا تعاني من أزمة بنيوية عميقة جعلتها عاجزة عن تحقيق الأهداف الكبرى التي وعدت بها عشية الاستقلال. هذه الأهداف شملت التحرر من التسلط الداخلي، القضاء على الإمبريالية الأجنبية، وتعزيز المواطنة والديمقراطية والحكم الرشيد. ومع ذلك، فإن الأنظمة السياسية القائمة فشلت في تحقيق هذه الغايات، بل أصبحت الدولة أداة لتعزيز القبلية والطائفية، ما أدى إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية.
ويشير الباحث إلى أن فشل الدول الأفريقية في تحقيق الانتقال من القبلية إلى الدولة يعود إلى عدة عوامل، أبرزها استمرار التبعية للإرث الاستعماري، واستغلال النخب الحاكمة للدولة كأداة للسيطرة والقهر، بدلا من كونها وسيلة لتحقيق التنمية والمواطنة. وقد أدى ذلك إلى ترسيخ النزاعات العرقية والدينية وانتشار الفساد وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
كما طرح المؤلف مفهوما جديدا للعقد الاجتماعي يستند إلى التعاقد بين المواطنين لتحويل الدولة القائمة إلى دولة مدنية ديمقراطية قائمة على سيادة القانون. وقد ركز على أهمية تعزيز الديمقراطية، تطبيق الفيدرالية، وتفعيل اللامركزية كحلول لبناء دولة حديثة تضمن المساواة والعدالة الاجتماعية.
وفي ختام العمل، يؤكد المؤلف أن بناء دولة المواطنة في أفريقيا يتطلب صياغة عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطنين، ويعزز من دور المجتمع المدني في ترسيخ قيم الديمقراطية والمواطنة. كما يجب أن تقوم الدولة الحديثة على احترام التعددية الثقافية والعرقية والدينية، وضمان مشاركة جميع فئات المجتمع في الحكم، مع إرساء مبدأ سيادة القانون وتكافؤ الفرص.
يقترح الكتاب ضرورة العمل على تربية تحررية ترتكز على قيم العدالة والمساواة والحقوق الفردية والجماعية، بعيدًا عن التربية القهرية التي تسهم في تكريس القبلية والطائفية. ويشدد على أهمية تعزيز الانتماء إلى الهوية الإنسانية المشتركة، والعمل على تحقيق التنمية الشاملة في مختلف المجالات.
يعد تحقيق هذه الرؤية مهمة شاقة تتطلب تضافر الجهود على المستويات كافة، ولكنها تعد خطوة أساسية نحو بناء دول حديثة قادرة على تحقيق التنمية الشاملة والازدهار لجميع مواطنيها. إن تعزيز سيادة القانون، واحترام التعددية، وضمان العدالة الاجتماعية، هي العناصر الأساسية التي يجب أن تتضافر لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطنين في مجتمعات تعاني من الإرث الاستعماري والتحديات البنيوية المعاصرة.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب