إعداد الباحث أحمد شيخو
إن التحول الذي طرأ على معظم الثورات في التاريخ، نجده في الثورة المحمدية أو الإسلامية إن جاز التعبير. فبعد مدة ليست طويلة بات المجتمع الإسلامي أمام توجهين أو مسارين:
- المسار الديمقراطي.
- مسار السلطة والدولة.
فرضت كلتا النزعتين حضورهما بشكلٍ بارزٍ منذ انطلاقة الإسلام. وبينما بدأت الطبقة القبليّة العليا والتي تريد الحفاظ عل سلطتها ونفوذها في الإسراع من تصيير الثورة سلطنةً إسلامية وبل أداة جديدة لكسب مزيد من النفوذ والهيمنة، بينما بذلت الشرائح القبليّة السفلى والعبيد والفقراء جهوداً حثيثةً لتصعيدها في الاتجاه والمسار الديمقراطيّ، ولعل الحروب الداخلية الكثيرة دليل على ذلك، ومع الأسف المنتصر كان إسلام السلطنة أو الفريق الثاني.
تكوّن الطبقية و الأرستقراطية العربية الإسلامية
كان ثمة تباين يعاش على الصعيدين التاريخيّ والاجتماعيّ في عهد السلالة الأموية العربية. فبالتزامن مع السلطة الإسلامية، كانت الشريحة القبليّة العربية العليا تنقطع بسرعةٍ عن شريحتها القبليّة السفلى، صائرةً طبقةً حاكمةً جديدة. وهكذا حصل تمايز طبقي كبير العمق في المجتمعات العربية، وتكوّنت أرستقراطية عربية إسلامية.
وعليه تشكلت لأول مرةٍ في ثقافة الشرق الأوسط علاقة الفلاّح–الآغا أو (الموالي) الجديدة في ماهيتها، والتي تجاوزت علاقة العبد–السيد التقليدية، وكانت أشبه بعلاقة القنّ–السنيور التي تواجدت في أوروبا فيما بعد. فنستطيع اعتبار العلاقات الطبقية من انطلاقات السلطة الإسلاميّة.
وكذلك رأت الطبقات العليا من كلّ الثقافات التي تم فتحها في هذا التمايز الطبقيّ التاريخيّ والاجتماعيّ الجديد منفعةً تتناسب ومصالحها إلى درجة كبيرة. فتوجّهت سريعاً نحو الأرستقراطية، ولو على خلفيةٍ عميلةٍ متواطئة. كما عقدت عدداً جماً من علاقات الزواج مع أرستقراطية السلالة الحاكمة. وأنشأت أطفالها على الثقافة واللغة العربية الرسمية، مبتعدةً بسرعةٍ كبيرةٍ هذه المرة عن ثقافتها ولغتها القبليّة الذاتية. وهذا الوضع لم يكن موجود سابقاً.
اللغة العربية ترتقي لأول مرةٍ مع الإسلام إلى مرتبة اللغة المشتركة في ثقافة الشرق الأوسط.
كانت اللغات الأكادية والآرامية والسريانية الرسمية بمنزلة اللغات والثقافات المشتركة للإمبراطوريات العبودية الكلاسيكية قبل اللغة العربية بآلاف السنين. وكانت منذ دهرٍ غابرٍ تلعب دوراً شبيهاً بذاك الذي أدته اللغتان الإغريقية واللاتينية في الغرب. في حين كانت اللغة العربية ترتقي لأول مرةٍ مع الإسلام إلى مرتبة اللغة المشتركة المنتشرة في ثقافة الشرق الأوسط. وكان يعبّر عن الثقافة السلالاتية أيضاً باللغة العربية، صائرةً بذلك ثقافة الحياة المشتركة للأرستقراطية الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكادت لم تبق أسرة أرستقراطية صاعدة حديثاً في الشرق الأوسط، إلا وربطت جذرها ونسبها بالسلالات العربية. أي أنّ كلّ أسرةٍ أرستقراطيةٍ متواطئةٍ كانت تحرص على ربط نسبها بسلالةٍ عربيةٍ عموماً، وبأهل البيت خصوصاً. هذا ويجب إضافة طبقة العلماء والعساكر الجديدة أيضاً إلى هذه القافلة. فجميعهم جعلوا من إنكار أصولهم القديمة وحمل لقب السلالة الجديدة عادةً مألوفة.
تأثر الوجود الثقافيّ الكرديّ
ظهرت المجموعات المجتمعية ذات الجذور الهورية– الميدية على مسرح التاريخ باسم “الكرد” لأول مرةٍ في عهد التوسع الإسلاميّ. متميزة بالهيكلية والتكوينية العشائرية والقبلية الراسخة، كما أن تراجع الساسانيين من كونهم دولة في عام 650م، وتراجع روما الشرقية (البيزنطية) إلى ما وراء سلسلة جبال طوروس؛ يعتبر عهداً جديداً بالنسبة لمقاومات الكرد والاعتراف بهم.
تأثر الوجود الثقافيّ واللغوي الكرديّ بشدة من الانطلاقة الإسلامية المجاورة له. وأكثر ما واجهه كان النزعة التدميرية والشمولية والأحادية السلطوية لإسلام السلطنة والخلافة. حيث أحكمت السلالة الأموية قبضتها بنظامها السلطويّ، وبسطت نفوذها على الأراضي الكردية خلال فترةٍ قصيرة من خلال الحروب والغزوات غالباً والتي تم تسميتها بالفتح. ونخصّ بالذّكر الحجاج الجائر وأمثاله من القادة الذين قتلوا الرجال واستولوا على النساء وأطفالهم أجمعين في العديد من المناطق، رغم أن التاريخ والكتب الذي يأخذه الدارسون حالياً كمراجع لا تشير لذلك، لأنها كتبت لخدمة أطراف معنية وليس لتوثيق الحقائق.
ثنائية استقبال الكرد للإسلام
أما موقف الشعب الكردي إزاء إسلام الخلافة والسلطنة، فكان وفق أسلوب أدى إلى ثنائيّةٍ عميقة:
- الشريحة العشائرية والقبائلية الكردية العليا، اتّحدت مع الثقافة واللغة الأرستقراطية العربية، وانصهرت في بوتقتها.
مع انهيار وهزيمة الإمبراطورية الساسانية–الإيرانية، لم تتأخر الهرمية القبليّة التقليدية التي كانت خاضعةً لها عن الإعراب عن وفائها وإخلاصها لأسيادها الجدد. هذه الزمرة الكردية المتواطئة، التي لا يخطر ببالها سوى الهرع دوماً إلى خدمة الأسياد المحتلّين عندما تكون السلطة والنفوذ والمال موضوع الحديث؛ قد التحمت مع مضيّ الوقت بالسلالة الأموية، لتنصهر طوعياً بعد ذلك في بوتقة التعريب.
نالت الشريحة العشائرية والقبائلية الكردية العليا نصيبها من الاندماج والانصهار مع الثقافة واللغة الأرستقراطية العربية. ذلك أنّ المواظبة على التقاليد الزرادشتية القديمة كانت تجلب الضرر لأصحابها أكثر من الفائدة. وكان الإصرار على التشبث بهذه الثقافة يعني فقدانهم لوجودهم. بينما قبول الطبقات الحاكمة الانصهار السريع في بوتقة الثقافة واللغة الأجنبية الدخيلة كان ضرورةً من ضرورات تأمين الاستمرار بوجودهم. هكذا تكوّنت طبقة كردية متواطئة عليا وطيدة للغاية، بحيث اتّحدت مع الثقافة واللغة الأرستقراطية العربية، وانصهرت في بوتقتها فيما بين القرنين السابع والعاشر الميلاديّين. وباتت هذه الشرائح خادماً وفياً للعربية الرسمية لغةً وثقافة، على الرغم من مظهرها الكرديّ. والعيش بهذه اللغة والثقافة الجديدة، فعدّته دليلاً على النّبل والرّقيّ، فراحت تتباهى به وتفتخر. لقد كانت هذه الشرائح أول من تخلى باكراً عن لغته وثقافته. كما أن الطبقات الكردية الحاكمة الأكثر تواطؤاً، وبينما كانت أكثر انفتاحاً على الانصهار، فقد أسّست حاكميةً أضعف على الوجود المجتمعيّ الكرديّ. كما أنّ اتسامها بتخلخل النفوذ وبالقابلية للانصهار قد أدى إلى اتّباعها الإنكار إزاء اللغة والثقافة المجتمعية. ومع التوجه صوب يومنا الحاليّ، فقد تعدّت نطاق الانصهار والصّهر، مرتقيةً مرتبة التواطؤ والعمالة البالغة حدّ الإبادة الثقافية. لقد تحوّلت إلى مخلوقاتٍ طفيليةٍ تقتات من نخر مجتمعاتها هي بالذات.
- المقاربة الديمقراطيّة الكردية من الثورة الإسلامية.
يمثّل التيار الثاني المقاربة الديمقراطيّة من الثورة الإسلامية. فاستقبال الكرد للإسلام لم يكن متكاملاً. فكما اختلفت مقاربة كرد الجبال منه عن كرد السهول، كذلك فقد اختلف تعاطي الشرائح العلوية له عن السّفلية منها. فقد ثابر علماء الدين الزرادشتيون والقبائل التي لم تستسلم لأولى ضربات الفتح الإسلاميّ على المقاومة ردحاً طويلاً من الزمن، بالانسحاب إلى الجبال والانزواء إلى قممها، على غرار ما فعلوا طيلة التاريخ. أما الشرائح الرئيسية التي استمرت في التصدي براديكالية، أي العلوية منها والزرادشتية؛ فإما أنها فضّلت الإسلام المضادّ للإسلام السّنّيّ السلطوي، أو عدم اعتناق الإسلام أصلاً، انطلاقاً من أماكنها في الجبال، وعلية فإننا نستطيع القول عن الأثنتين بالشكل التالي:
- المذهب العلويّ يمثّل الثقافة العقائدية للشرائح الراديكالية التي صانت وجودها الثقافيّ المقاوم التقليديّ، وعدّت الانصهار كفراً وإلحاداً، وقبلت الإسلام بالقدر الذي يتناغم ووجودها الثقافيّ. لذا، من الصعب نعت العلوية الكردية بالثقافة الإسلامية بالمعنى التامّ للكلمة. بل هي الثقافة التي تتمسك بثقافتها العشائرية والقبائلية بنسبةٍ كبرى، وتتبنى بعض القيم الإسلامية بالمقدار الذي تتناسب فيه مع ثقافتها؛ وذلك بعد صهر تلك القيم بما يتواءم معها هي، وليس مع الغير. وبسبب خصائصها هذه، فإنّ تشابهها مع الثقافة الهوريّة ووجودها اللغويّ الذي كان قائماً قبل خمس آلاف سنة، أمر مفهوم وواضح. ذلك أنّ تصدّيها المتواصل لحملات الاستيلاء الخارجية، وثقافة الحياة القبليّة المتينة التي تقتضيها حياة الجبال؛ يولّد معه تلك النتيجة.
- وضع الزرادشتيين أكثر اختلافاً. حيث قاوموا دينياً أكثر منه قبليّاً، نظراً لتفوّق الوجود الدينيّ على القبليّ منزلةً وشأناً. هذا وعكسوا حضورهم حتى يومنا الحاضر على شكل بضعة مذاهب مختلفة. وهم يمثّلون قيم الكردايتية الأكثر شفافيةً نسبةً إلى الكرد السّنّة. كما وتشبثوا بعقيدتهم رغم تعرضهم للعديد من الإبادات في التاريخ أخرها هجوم داعش بمساعدة ودعم تركيا وتوطؤ حزب الديمقراطي الكردستاني. وبالرغم من كونهم منبعاً وفيراً للثقافة الكردية التقليدية، إلا إنّ حرق مأثوراتهم المكتوبة، وتعريض حياتهم الحرة للقمع المتواصل، قد أفضى إلى فقر هذا المنبع الخصيب لدرجةٍ يكاد يجفّ فيها، وما تعرض له الايزيديون في شنكال/سنجار دلالة على ذلك.
يمثل الطرائق الصوفية الكردية الإسلام المجتمعيّ الذي لا يتّحد مع الدولة، ولا يتمثّل السلطة
نرصد الطرائق الصوفية لدى شرائح الشعب الكردي القاطنين في السهول كميول مقاومةٍ ضد عمليات الصهر. والتصوف يفيد بالإسلام المستوعب حتى الأعماق بأبعاده الخارجة عن نطاق إسلام الدولة والسلطة، وبجوانبه الأخلاقية والوجدانية المجتمعية (الإسلام الباطنيّ). وهو بمعناه العامّ يعبّر عن الإسلام المجتمعيّ الذي لا يتّحد مع الدولة، ولا يتمثّل السلطة. بل يتطلع إلى العيش بالضمير والحسّ والإدراك الدينيّ الفرديّ.
إنّ تقسيم الإسلام إلى قسمين:
- سلطويّ–دولتيّ.
- مجتمعيّ.
يتناسب وحقيقة المجتمع التاريخية. هذا ولا يمكن عيش الإسلام المجتمعيّ إلا تصوفياً. وما تنظيمه في هيئة طرائق شعبيةٍ منتشرةٍ على نطاقٍ واسع، سوى دليل على هذه الحقيقة. كما ويعنى الإسلام المجتمعيّ بالديمقراطية. فالتصوف الذي هو تنظيم إسلاميّ مجتمعيّ قائم في وجه الإسلام المتجه سريعاً نحو السلطة (بالمقدور تسميته بالإسلام المضادّ أيضاً)، ما هو في حقيقة الأمر سوى شكل من أشكال التضامن الشعبيّ، وملاذ يلجأ إليه. بمعنى آخر، فالمجتمع الإسلاميّ لا يعاش بالإسلام الرسميّ السلطويّ، بل بالطرائق الصوفية.
هذا وثمة صنف الإسلام الفرديّ أيضاً. والإسلام الفرديّ إسلام صوفيّ يعبّر عن كيفية استيعاب الفرد للألوهية، ويتحلى بمعنى معيّن. ولكن، ينبغي النظر إلى الإسلام الذي يراهن على السلطة بأنه إسلام منقطع من جوهره المجتمعيّ العميق، ويقع على الضدّ منه.
الطرائق مرتبط من الأعماق بالدفاع الذاتيّ في المجتمع الكردي
إنّ الحضور العميق والكثيف للتيارات الصوفية في المجتمع الكرديّ، يعزى في جوهره إلى سوء علاقات الكرد مع السلطة. وكون عددٍ كبيرٍ من مؤسّسي الطرائق الصوفية كرداً في مشاربهم، يتعلق بالواقع الكرديّ الاجتماعيّ. فالطرائق ضرب من تنظيمات الدفاع الذاتيّ.
بوسعنا القول أنّ الدين قد لعب دوره ضمن المجتمع الكرديّ في ميادين الأنشطة الثلاثة تلك. إسلام الدولة أو دولة الإسلام هي آمرة ناهية ومناهضة للديمقراطية. وشرعنة الدين بيد الدولة، أو شرعنة الدولة عبر الدين تشكّل العلّة الأساسية للتزمّت الدينيّ وشلّ تأثير الدين. وهذا هو السبب الرئيسيّ وراء النفوذ الواسع للإسلام في المجتمع الكرديّ. حيث يؤمّن نوعاً من الدفاع الذاتيّ تجاه الدولة. أي أنّ احتضان كردستان لعددٍ جمٍّ من الطرائق مرتبط من الأعماق بالدفاع الذاتيّ. أما الإسلام الفرديّ، فيسفر عن تأثيرٍ معنويٍّ ضد أجواء انعدام الثقة السائدة لدى الكرد بنحوٍ عميق.
إن الإسلام شكل من أشكال الثقافة المجتمعية التي لعبت دورها في كردستان بقدر الثقافة القبليّة الأثنية كحدٍّ أدنى، إلى حين ظهور التأثيرات الأيديولوجية للحداثة الرأسمالية. وهو عامل أوليّ في تكوّن الأواصر الاجتماعية المتفوقة منزلةً على العلاقات العشائرية والقبلية.
علاقات الكرد مع العرب وفق ثقافة الإسلام
تقوم العلاقات الكردية–العربية–التركية المتشكلة وفق ثقافة إسلام العصور الوسطى بدورٍ بالغ الأهمية في تطوّر الواقع الكرديّ. ونخصّ في ذلك الفترة ما بين القرنين السابع والحادي عشر. فكيانات الدولة–السلطة متجسدةً في الإمارات، وكيانات المجتمع المدنيّ المبنية على دعامة الطرائق الصوفية، والتي ظهرت جميعها بتأثير الثقافة الإسلامية العربية في ظلّ العلاقات العربية–الكردية؛ قد أدت إلى عيش الكرد تطوراتٍ مهمةً على درب التحول إلى شعبٍ وقومٍ وأمة. هذا وشوهدت تطورات مماثلة في العلاقات الفارسية–الكردية أيضاً خلال القرون التي تسبقها.
إن العلاقات الكردية–التركية المتنامية في هذه المرحلة، فقد تحولت إلى علاقاتٍ استراتيجيةٍ أكثر أهمية، وخاصةً على صعيد حفاظ كلا الشعبين على وجودهما.
انطلاقاً من المساوئ البارزة في آسيا الوسطى مناخياً واجتماعياً، باشرت الأنساب التركية بتسريع هجراتها صوب الشرق الأوسط مع حلول القرن العاشر، بحثاً عن مواطن جديدةٍ تتمكن من المكوث فيها بصورةٍ دائمة
تنبع القضايا الأساسية للكرد في هذه الفترة (أي بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر)، إماراتٍ كانوا أم مجتمعاً مدنياً؛ تنبع من انحصارهم بين العلاقات التي يسودها التوتر والصّدام والوفاق مع السلاطين والغازين العرب من ناحية، وبين موقعهم على خطّ التوسع والاحتلال التقليديّ الموروث من روما الإمبراطورية البيزنطية من الناحية الأخرى. فهجمات القبائل ذات المشارب الساميّة الممتدة في جذورها إلى ثقافة آل عبيد (5000–4000 ق.م)، لم تكن تعرف الهدوء ولا السكون؛ آتيةً من اليمن والبوادي الصحراوية الجنوبية. موجات الانتشار هذه المتجهة نحو الشمال صوب الأراضي التي أفضت إلى بروز مصطلح الجنة وهي كردستان، والتي استمرت في عهود الأكاديين والبابليين والآشوريين بدعمٍ من إمبراطورياتهم؛ قد تسارعت أكثر مع الغزوات العربية المتصاعدة بدءاً من القرن الخامس قبل الميلاد.
تدفّق العرب كالسيل الجارف نحو أعماق أوروبا وقفقاسيا وآسيا الوسطى بفتوحاتهم المتعاظمة كالتّيهور مع الإسلام. وبالمقابل، فقد لحقت أفدح الأضرار الناجمة عن ذلك بالمجموعات التقليدية ذات الأصول الآرية في الشمال، يتصدرها الكرد والكرد الأوائل. حيث دخل الكرد الإسلام بعد مقاومةٍ معيّنة. لكنهم صاغوا استراتيجياتهم في الحفاظ على وجودهم. إذ قبلت الطبقة العليا من القبائل الكردية الانصهار في بوتقة الإسلام والعروبة، في حين شكّلت الطبقات السفلى مجتمعاتها المدنية الصوفية، وانسحبت إلى ذرى الجبال الشاهقة وسفوحها الشاسعة مثلما دأبت على فعله تقليدياً.
نجح الكرد باستراتيجياتهم تلك في صون وتطوير وجودهم بكلّ محاسنه ومساوئه. حيث جعلت الطبقة العليا المتواطئة من التحول القوميّ السّنّيّ الذي يطغى عليه الجانب السلبيّ ذريعتها في الوجود (الاعتداد بالعروبة في أغلب الأحيان، واستخدام الكردايتية عندما اقتضت منفعتها ذلك). في حين تقدمت الشرائح السفلى على طريق التحول إلى شعبٍ تأسيساً على الطرائق الصوفية (وبالأخصّ المدارس الدينية) المتميزة بطابع المجتمع المدنيّ الذي يسوده الجانب الإيجابيّ؛ باسطةً بذلك مساهماتٍ مهمةً في الواقع الكرديّ خلال العصر الوسيط.
علاقة الكرد مع الترك وفق ثقافة الإسلام
كان السلطان ألب أرسلان من أسرة الأوغوز السلجوقية، والحائز على لقب السلطان من الخليفة العباسيّ، يبحث عن حليفٍ له في كردستان، كي يفتح أبواب الأناضول. كان يبرم العلاقات مع الإمارات والقبائل الكردية القوية في عهدها، استعداداً لمعركة ملازكرد عام 1071. ونتيجةً لذلك، فقد عثر على الحلفاء الذين بحث عنهم لدى السلطنة المروانية، التي تتّخذ من ميافارقين (سيلوان) مركزاً لها. وجمع من العديد من قبائل المنطقة قوةً تساوي قوات قبيلته. إذن، وعلى عكس ما يعتقد، فحرب ملازكرد لم تخضها القوات المجموعة من الأنساب التركية فحسب ضد الإمبراطورية البيزنطية. بل كانت معركةً موفّقةً خاضتها أيضاً قوات القبائل والإمارات الكردية بكمٍّ يعادل تعداد القوات الأولى بأقلّ تقدير. من هنا، فإذ ما حلّلنا معركة ملازكرد بمنوالٍ سديد، فسيدرك المنطق الاستراتيجيّ الأساسيّ الكامن في العلاقات الكردية–التركية. الوضع كالتالي باختصار: كان الكرد بحاجةٍ إلى حلفاء أشداء للتمكن من الحفاظ على وجودهم وتطويره في وجه الغارات الرومانية والبيزنطية الآتية من الغرب والشمال. وقد رأوا ذلك في القوى العربية–الإسلامية. هذه الحاجة الأمنية هي إحدى الدوافع الأولية وراء اعتناقهم السريع للإسلام بناءً على العلاقات التي عقدوها مع القوى العربية إلى حين وفود الأنساب التركية إلى المنطقة. وحاجة هذه الأخيرة إلى موطنٍ جديد، إما أنها كانت ستزجّ بهم في حربٍ مع الكرد، صائرين بذلك قوةً محتلة؛ أو أنهم -في حال استحالة ذلك- كانوا سيشيّدون أماكن سكنٍ مستقرةٍ بعد الاتفاق مع الكرد لدحر الإمبراطورية البيزنطية غرباً. هكذا خاض كلا الطرفين معركة ملازكرد بناءً على هذا المنطق الاستراتيجيّ. أي أنّ الحرب كانت –بكلّ تأكيد– معركةً مشتركةً بين الكرد والأتراك في وجه الإمبراطورية البيزنطية. نتائج هذه الحرب ساطعة جلياً: فقد فتحت أبواب الأناضول أمام الأنساب التركية، ليبدأ بذلك عهد تاريخيّ جديد. في حين تخلّص الكرد من قوةٍ تاريخية معيقةٍ طالما قمعتهم وفرضت عليهم التراجع منذ قرونٍ عديدة. وقد أدى الإسلام وظيفة المؤونة المغذية لهذه العلاقة. فالحرب المشتركة المخاضة تحت الكساء الإسلاميّ، كانت في واقع الأمر ترمي إلى حماية وتطوير وجود كلا الشعبين اللذين تطغى عليهما الخصائص القبليّة والعشائرية.
وستتذكر كلتا القوتين أنهما لن تتمكنا من إحراز النجاح في لحظات التاريخ الحرجة، إلا عندما تتحرّكان معاً. وسيسري هذا المنطق على الدوام في عهد السلالة الأيوبية الكردية والعديد من إمارات الأناضول، وفي عهد العثمانيين أيضاً. ولئن ما سبرنا أغوار التاريخ، فسنرى أنّ استراتيجيةً شبيهةً بهذه ما برحت قائمةً بين القوى القاطنة في بلاد الأناضول وميزوبوتاميا منذ أيام العلاقات الحثية–الميتانية (أعوام 1600 ق.م). حيث سيعاش هذا التداخل، سواء شعباً وقوىً مدنية، أم على صعيد قوى السلطة. وستظلّ استراتيجية الدفاع المشترك هذه قيد العمل، ليس تجاه الهجمات الآتية من الغرب فحسب، بل وتجاه تلك الآتية من الشرق والجنوب أيضاً.
فالأصحّ هو النظر إلى الحروب الدائرة في أراضي كردستان في عهد السلالات السلجوقية والأيوبية والعثمانية على أنها حروب غالباً ما خاضها الكرد ضد قوى الاحتلال.
في حين أنّ الشريحة المتواطئة التقليدية واظبت على تواطئها مع كافة السلالات الإسلامية (الأموية، العباسية، السلجوقية والعثمانية وغيرها) على أمل الحظي بإماراتٍ صغيرة. لكنّ مساعيها في تنظيم ذاتها كدولة لا تدوم طويلاً، كما كانت الحال لدى المروانيين وهي سلالة كردية حكمت خلال 990– 1084م. فبعد أن بدأت الدولة البويهية بالانحلال، قام أحد قادة العشائر الكردية من بني مروان، واسمه أبو علي بن مروان (990 – 997م) بإنشاء إمارة مستقلة في ديار بكر وملازكرد. عرفت الدولة المروانية أوجها السياسي أثناء عهد أبي منصور ونصر الدولة أحمد، وبعد سنة 1061م، بدأوا بالتناحر، فضعفت دولتهم ووضعوا أنفسهم تحت وصاية السلاجقة الذين أجلوهم عن آمد(ديار بكر نهائياً). وفي 1096م يقضى على آخر حكام الأسرة.
صلاح الدين الأيوبيّ الكرديّ كمؤسّسٍ لسلالةٍ تحكم العرب
سيكون تقييم صلاح الدين الأيوبيّ الكرديّ كمؤسّسٍ لسلالةٍ تحكم العرب أمراً في محلّه. لا نقول ذلك بغرض استصغار شأنه، إذ ما كان له أن يفعل غير ذلك. فمقاومته ضعيفة باسم العائلة، وراسخة باسم الإسلام. لقد أسس صلاح الدين الأيوبي أو الملك الناصر وهو أبو المظفر يوسف بن أيوب (1138– 1193م). الدولة الأيوبية في مصر والشام وامتد سلطانه إلى قسم من كردستان وبلاد اليمن. ولقد اشتهر بلقب صلاح الدين قبل أن يصبح سلطاناً لمصر، وقد استولى على أغلب مدن مملكة بيت المقدس، وفتح عاصمتها القدس، ما أدى لقيام الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ملوك فرنسا وإنكلترا وألمانيا.
دور الكرد ليس بارزاً كثيراً كقوةٍ شعبيةٍ رابعةٍ في عهد إسلام السلطنة. نفوذهم المؤثر في القصور أمر معلوم. إذ من المعروف وجود تمثيلٍ جمٍّ من الإمارات والمقاطعات الكردية في القصور الأموية والعباسية والسلجوقية والعثمانية والإيرانية.
لقد لعب الكرد دورهم كشخصيات، وزاولوا شؤون الإمارة في آنٍ معاً. فالسلالة الأيوبية أسّست مع صلاح الدين إمبراطوريةً مركزها الشام فيما بين 1168– 1250م. فإلى جانب كونه كرديّ الأصل، إلا أنه لم يتمالك نفسه من أداء دوره على غرار السلالات التركية وكالعرب الأصليين. وكما أسّست السلالة المروانية حكماً (ما بين أعوام 990– 1090م) مركزه ميافارقين (سيلوان الحالية)، ثم قضي عليها من قبل السلالات التركية. هذا وشيّدت العديد من الإمارات الكردية الأخرى المشابهة. فالشرفخانيون ذوو الأصول البدليسية استمرّوا بوجودهم حتى أعوام 1560م. ونظراً لالتزام الإمارات الكردية بالشريعة السّنّية على الأغلب، فقد تحالفت بريادة إدريس البدليسيّ مع السلاطين العثمانيين تجاه السلطنة الصفوية الشيعية الإيرانية. وبحلول القرن التاسع عشر، فسد وضع الإمارات الكردية، التي كانت تتمتع بالحكم الذاتيّ الأوسع نطاقاً داخل نظام السلطنة العثمانية. حيث راهنت على آخر ورقةٍ لديها مع تمرد بدرخان بيك[1]، فخسرت الرّهان (ما بين أعوام 1835– 1860م).
الإسلام الديمقراطي في كردستان يمثله القائد أوجلان ونظامه منظومة المجتمع الديمقراطي
وبالرغم من مساعي الشيوخ الكرد في التحلي بالنفوذ كمتواطئين مع السلطة بمنوالٍ مختلفٍ بعد الأمراء والبيكوات (ما بين أعوام 1826– 1926م)، إلا أنّهم انتهوا إلى العاقبة ذاتها. أما آل البرزاني والطالباني، وبصفتهما امتداداً لكلا الفرعين السابقين، فقد نجحا في القرن العشرين في بلوغ موقع السلطة الإقليمية ضمن عراق اليوم، اعتماداً على العلاقات التي عقدها أرستقراطيو القبائل التي يتزعمانهما مع قوى الهيمنة الرأسمالية بالتأسيس على القوموية الدينية والأثنية. أما الإسلام المجتمعي والديمقراطي الذي يمثله المفكر والقائد عبدالله أوجلان فهو في حالة حصار وتجريد وهجمات شديدة عليه وعلى حركته ونظامه ممثلة بمنظومة المجتمع الديمقراطي، من قبل قوى الهيمنة العالمية ومن قبل إسلام السلطنة والدولة كالسلطات التركية الإسلاموية الطورانية وغيرهم، وهو الذي يقول أنه يمكن حل قضية الشرق الأوسط وأزماته عبر الإسلام الديمقراطي وحرية المرأة والتحالف الديمقراطي الكردي العربي ويؤكد أن علاقات الشعوب ببعضها وتماسكها واحترام لبعضها وتوافر الإدارات الذاتية في ظل الحضارة الإسلامية تمثل أحد التجارب الناجحة لأخوة الشعوب رغم الانتقادات لها.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب