
إعداد/ د. مصطفى عيد إبراهيم. خبير الشئون الدولية
تمهيد
بدأت العلاقات بين البلدين تتبلور قبل نحو 30 عامًا باجتماع في نيويورك بين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين ورئيس أذربيجان آنذاك حيدر علييف. خلال هذا الاجتماع، تحدث الزعيمان على انفراد، دون وسطاء أو مستشارين، وناقشا ما تحتاجه كل دولة من الأخرى – كانت إسرائيل بحاجة إلى مصدر نفط مستقر وموثوق، بينما سعت أذربيجان إلى أنظمة الدفاع العسكرية الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، أصبح تحالف إسرائيل مع أذربيجان من أكثر تحالفاتها استقرارًا وموثوقية.
ولقد اعادت العمليات العسكرية التي بدأتها إسرائيل ضد إيران من خلال قيام نحو مئتي طائرة من سلاح الجو الإسرائيلي بتدمير اهداف إيرانية على بعد نحو الفي كيلو متر مربع، التساؤل عن كيفية حصول هذه الطائرات على الوقود اللازم لاستمرار رحلتها وتحقيق أهدافها خاصة وان إسرائيل ليس لديها سوى طائرتي لتزويد الوقود بالجو، اعادت الى الذهن العلاقات الوطيدة بين إسرائيل وأذربيجان والتي تعد محطة هامة لمساعدة إسرائيل على إعادة التزود بالوقود في القاعدة العسكرية المتواجدة بالأراضي الأذربيجانية.
فالعلاقات بين أذربيجان وإسرائيل تعد رمزًا للتعاون بين دولتين لا تشتركان في حدود أو خلفية عرقية أو دينية، ومع ذلك تعملان معًا من خلال الاحترام المتبادل والصداقة. وقد كان لهذا التحالف فوائد جمة لكل من أذربيجان وإسرائيل؛ فهو فريد من نوعه ولا ينبغي الاستهانة به. وعلى الرغم من ان أذربيجان دولة مسلمة وبها سكان الذين ينتمون الى المذهب الشيعي الا ان خلافاتها حول الحدود مع إيران حولتها الى دولة غير صديقة معها وهو الامر الذي دفع إيران الى دعم أرمينيا في حروبها مع أذربيجان.
ومن هذا المنطلق، فان الشراكة الأذربيجانية الإسرائيلية تعد تحالفٌ إسلامي يهودي فريدٌ يشمل مجالات الطاقة والدفاع والتكنولوجيا والدبلوماسية. تُشكّل صفقات الغاز التي أبرمتها شركة سوكار في إسرائيل فصلاً جيوسياسياً جديداً في تعزيز هذه العلاقات.
ترفيع العلاقات
في عام 1998، صنفت وزارة الخارجية الإسرائيلية أذربيجان كدولة رئيسية لإسرائيل. كما أدلى سياسيون إسرائيليون بتصريحات اعلامية على مر السنين للإشادة بالعلاقات بين البلدين، بمن فيهم نائب المدير العام لوزارة الخارجية، بنحاس أفيفي، الذي قال: “العلاقات بين إسرائيل وأذربيجان ذات طبيعة استراتيجية”، ووزير البنية التحتية، عوزي لانداو، الذي قال: “إسرائيل بحاجة إلى أذربيجان قوية”، ووزير الخارجية، يائير لابيد، الذي أشار إلى أن “أذربيجان شريك مهم لإسرائيل”. وأذربيجان ليست مجرد دولة صديقة أو حليف “بسيط”، بل هي أهم حليف لإسرائيل في الشرق الأوسط، وثاني أهم حليف لها على الإطلاق. وحيث يعلم الجميع أن إسرائيل هي أقرب حليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأن الولايات المتحدة هي أقرب صديق لإسرائيل في العالم. مع ذلك، لا يعلم الكثيرون أن أذربيجان هي ثاني أقرب حليف لإسرائيل. والفارق الرئيسي بين أذربيجان وحلفاء إسرائيل الآخرين – وخاصةً حلفائها الغربيين الآخرين – هو نظرة أذربيجان إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. حيث لم تسمح أذربيجان قط للصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالتأثير على علاقتها بإسرائيل، وبالتالي لا تُصدر أحكامًا علنية على إسرائيل. والدليل على ذلك أنه منذ 7 أكتوبر 2023، زادت أذربيجان صادراتها من الطاقة إلى إسرائيل (حتى قبل الحرب، أظهرت الإحصاءات أن أذربيجان كانت تبيع لإسرائيل 50% من إنتاجها النفطي.
الطاقة وتعزيز التعاون
منذ أوائل التسعينيات، أصبحت أذربيجان لاعبًا رئيسيًا في استقرار أمن الطاقة الإسرائيلي. وشكّل النفط الذي زودت به أذربيجان إسرائيل عنصرًا رئيسيًا في أمن الطاقة الإسرائيلي. وكانت أذربيجان الدولة الإسلامية الوحيدة التي حافظت على علاقات ودية مع إسرائيل واستمرت في العمل كالمعتاد حتى خلال الانتفاضة الثانية. كما ان أذربيجان أيضًا عميل ومستورد دائم للمنتجات الإسرائيلية، بحيث أصبحت أذربيجان أكبر مستورد للأسلحة من إسرائيل، وفي العقد الماضي، جاء ما يقرب من 70% من واردات أذربيجان العسكرية من إسرائيل. في سبتمبر من العام الماضي، وقّع البلدان صفقة أسلحة أخرى، مما ضمن المزيد من الأعمال لشركات التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية، وعزز الاقتصاد الإسرائيلي.
كما أثبتت أذربيجان أهميتها لإسرائيل في مجال آخر، وهو دورها كوسيط بين تل ابيب وأنقرة. يرى الشعبان التركي والأذربيجاني نفسيهما كأمة واحدة تعيش في بلدين (اللغة الأذربيجانية لهجة تركية)، وتركيا هي الحليف الأكبر لأذربيجان، تمامًا كما تُعدّ الولايات المتحدة الحليف الأكبر لإسرائيل. علاقات أذربيجان الوثيقة مع كل من إسرائيل وتركيا تجعلها الوسيط الأمثل لهذين البلدين.
فلقد توسط إلهام علييف، الرئيس الحالي لأذربيجان، بين إسرائيل وتركيا عدة مرات خلال العقود القليلة الماضية. بين عامي 2008 و2010، عمل علييف على استعادة الحوار بين البلدين. في عام 2018، استأنف علييف جهوده لتسهيل التواصل بين إسرائيل وتركيا، وبعد حرب ناجورنو كاراباخ عام 2020، التي دعمت فيها كل من إسرائيل وتركيا أذربيجان. وإن قدرة علييف على سد الفجوة بين إسرائيل وتركيا قد تكون ذات قيمة بالغة في الفترة المقبلة، وخاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وصعود القيادة الجديدة إلى السلطة تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وهو إسلامي متشدد موال لتركيا، والتي دعمت مجموعته منذ بداية الحرب الأهلية السورية.
وفي مارس 2025، وقّعت شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان (سوكار) رسميًا اتفاقيةً للاستحواذ على حصة 10% في حقل غاز تامار الإسرائيلي، الواقع على بُعد 90 كيلومترًا غرب حيفا، ويُقدّر احتياطيه بحوالي 389 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. مثّلت هذه الاتفاقية أول عملية حفر لشركة سوكار خارج أذربيجان، ورمزًا لدخول البلاد إلى مستوى جديد من الجغرافيا السياسية الدولية للطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، مُنحت شركة سوكار، بالشراكة مع شركة بريتيش بتروليوم وشركة نيوميد إنرجي الإسرائيلية، تراخيص لاستكشاف الغاز في المياه الاقتصادية الإسرائيلية في القطاع الأول، بالقرب من الحدود البحرية مع لبنان وقبرص. لا تُمثل هذه المشاريع فرصًا اقتصادية فحسب، بل تُمثل أيضًا خطوات استراتيجية تُعزز دور باكو في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
يُعزز التعاون في مجال الطاقة مجالات أخرى أيضًا، حيث تدعم إسرائيل بنشاط استثمارات سوكار، بما في ذلك خطط نقل الغاز الإسرائيلي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا. ورغم الحظر التركي على إسرائيل، لا يزال نقل النفط والغاز الأذربيجانيين عبر خطوط الأنابيب التركية دون عوائق، مما يُشير إلى اعتماد تركيا الحيوي على سوكار، التي استثمرت أكثر من 18.5 مليار دولار في الاقتصاد التركي على مدى السنوات السبع عشرة الماضية. وبهذه الطريقة، لا تُعزز أذربيجان نفوذها في إسرائيل فحسب، بل تُظهر أيضًا قدرتها على موازنة الديناميكيات الإقليمية المعقدة مع الحفاظ على علاقات قوية مع كل من تركيا وإسرائيل.
تعزيز البعد السياسي للشراكة
تتزايد الدعوات في الكنيست الاسرائيلي لتعزيز التحالف الاستراتيجي مع أذربيجان، بل وتقترح ضمها إلى إطار اتفاقيات إبراهيم. كما أكد عضو الكنيست عن حزب شاس، سيمون موشياشفيلي، فإن أذربيجان حليف فريد لإسرائيل، بعقود من التعاون لم تتطلب أي تنازلات سياسية. وأعرب عن قلقه إزاء حصول الدول التي كانت في حالة حرب مع إسرائيل على حوافز اقتصادية وعسكرية واسعة النطاق بعد توقيع اتفاقيات إبراهيم، بينما لا تزال أذربيجان تواجه عقوبات أمريكية. ووفقًا للمشرعين الإسرائيليين، تُظهر أذربيجان موقفًا ثابتًا وصادقًا تجاه الدولة اليهودية يتجاوز النخبة السياسية ويحظى بقبول أوسع نطاقًا.
لماذا يُدفع باتجاه دمج أذربيجان في اتفاقيات إبراهيم، خاصةً وأنها ليست دولة عربية وتحافظ بالفعل على علاقات قوية مع إسرائيل؟
يكمن جزءٌ أساسيٌ من الإجابة في المادة 907 من “قانون دعم الحرية” الأمريكي. أقرّ الكونجرس هذا البند خلال حرب ناغورنو كاراباخ الأولى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو يحظر المساعدات الأمريكية المباشرة ومبيعات الأسلحة لأذربيجان.
في حين أن الإدارات الأميركية المتعاقبة قد تنازلت عن هذا القيد سنويا منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن باكو تسعى الآن إلى إلغائه بالكامل – وهو ما تأمل في تحقيقه بدعم من إسرائيل ومن خلال التكامل الوثيق في الأطر الإقليمية المدعومة من الولايات المتحدة مثل اتفاقيات إبراهيم.
وفي هذا الاطار، تمنح أذربيجان لمجتمعها اليهودي معاملة مميزة وخاصة، ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه واحد من أكثر المجتمعات اليهودية أمانًا وتلقيًا للدعم في العالم الإسلامي. وفي مدينة قوبا، توجد مستوطنة فريدة تُعرف باسم “المدينة الحمراء” – وهي المستوطنة اليهودية الوحيدة خارج إسرائيل. وتزدهر هناك المعابد اليهودية والمدارس اليهودية والمراكز الثقافية بدعم كامل من الدولة. حتى بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، حمل مواطنون أذربيجانيون، بمن فيهم مسلمون، الزهور وأشعلوا الشموع أمام السفارة الإسرائيلية في باكو تعبيرًا عن تضامنهم. وهذا يُظهر الدعم الراسخ لإسرائيل، ليس فقط بين النخبة، بل أيضًا بين عامة الشعب الأذربيجاني.
من جانبها ايضا، تعمل باكو أيضًا على تعزيز علاقاتها الوثيقة أصلًا مع إسرائيل. في ديسمبر 2024، زار زعيما لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، مايكل توتشين وبيرني كامينيتسكي، باكو لأول مرة، مؤكدين للرئيس إلهام علييف أن “دعمكم لإسرائيل سيُقدّر”. وفي وقت سابق من ذلك العام، وقّعت إسرائيل وشركة النفط الحكومية الأذربيجانية، سوكار، اتفاقية طاقة هامة. وبحلول مارس، حصلت سوكار أيضًا على رخصة استكشاف الغاز مع تل أبيب.
وفي تطور ملحوظ، أصبحت أذربيجان أول دولة ذات أغلبية مسلمة تتبنى تعريفًا لمعاداة السامية في كتبها المدرسية – تعريف يتماشى مع الروايات المؤيدة لإسرائيل بشأن الصراع مع الفلسطينيين تحت ستار الحياد. وفي الوقت نفسه، استضافت باكو في وقت سابق من أبريل محادثات تركية إسرائيلية تهدف إلى نزع فتيل التوترات بين حليفيها في سوريا.
التعاون الدفاعي
يظل هو حجر الزاوية الآخر في الشراكة. فبين عامي 2018 و2022، كانت أذربيجان ثاني أكبر مشترٍ للمنتجات الدفاعية الإسرائيلية، حيث استحوذت على أكثر من 9% من إجمالي صادرات إسرائيل الدفاعية. وينبع هذا التعاون من المخاوف الأمنية المشتركة، لا سيما التهديد الذي تشكله إيران، التي تشهد علاقات البلدين معها توترا. تدعم إسرائيل أذربيجان بنشاط في تطوير أنظمة الدفاع الجوي والاستخبارات والأمن السيبراني. بدورها، ترى إيران في تعزيز العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية تهديدًا لأمنها القومي. وقد اتهم المسؤولون الإيرانيون باكو باستضافة عمليات استخباراتية إسرائيلية، بل وحاولوا تقويض المنظمات اليهودية في أذربيجان. ومن بين هذه المحاولات الهجوم على سفارة أذربيجان في طهران في يناير 2023، مما زاد من تصعيد التوترات بين البلدين. كما انه بين عامي 2016 و2021، استوردت أذربيجان ما يقرب من 69% من وارداتها من الأسلحة من إسرائيل، وهي حقيقةٌ تؤكدها قرابة 100 رحلة جوية إسرائيلية محملة بالأسلحة هبطت في باكو خلال تلك الفترة. علاوة على ذلك، تلعب أذربيجان دورًا محوريًا في استراتيجية إسرائيل الأوسع نطاقًا المتمثلة في تطويق إيران تحت عنوان “التقرب من إيران”، من خلال تعميق العلاقات مع الدول المجاورة لها. وقد اتهمت السلطات الإيرانية جارتها الشمالية مرارًا وتكرارًا بأنها بمثابة قاعدة أمامية لعمليات الاستطلاع والتخريب الإسرائيلية التي تستهدف طهران.
التعاون السيبراني
يعد ركيزة جديدة للشراكة بين أذربيجان وإسرائيل. وفي ظل سعي أذربيجان إلى تحديث اقتصادها وتحسين قدرتها على الصمود في وجه التهديدات السيبرانية، لجأت بشكل متزايد إلى قطاع الأمن السيبراني الإسرائيلي الرائد عالميًا. قدمت الشركات الإسرائيلية تقنيات دفاع سيبراني متقدمة، واستشارات، وبرامج تدريبية لنظرائها الأذربيجانيين. في عام 2022، أُعلن عن خطط لإنشاء مركز مشترك للأمن السيبراني في أذربيجان بدعم إسرائيلي، بهدف تدريب أكثر من 1000 متخصص. وعززت الزيارات الثنائية، بما في ذلك زيارة شركة أكتا عام 2023 إلى معرض سايبرتك تل أبيب، التعاون من خلال اجتماعات مع شركات وهيئات حكومية إسرائيلية. يعزز هذا التحالف السيبراني المتنامي السيادة الرقمية لأذربيجان، ويعزز علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل في مستقبل تكنولوجي متقدم.
وختاما، تنظر اسرائيل الي العلاقات مع أذربيجان علي أنها استراتيجية جيوسياسية شاملة تهدف إلى تعزيز النفوذ المتبادل، ومواجهة التهديدات المشتركة، وتطوير مسارات جديدة للتعاون في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والدبلوماسية. وإنها شراكة لا تُعيد تشكيل توازن القوى في المنطقة فحسب، بل انها من وجهة نظرهم أيضًا تعد نموذجًا يُحتذى به للعالم الإسلامي الأوسع حول كيفية بناء علاقات سلمية ومتبادلة المنفعة مع إسرائيل