السلفية الجهادية بالمغرب «دراسة»
إعداد الكاتب والباحث والإعلامي المغربي ذ. عبدالرحمان الأشعاري
منذ اعتقالهم على خلفية 16 ماي/أيار 2003 الإرهابية، سارعت الدولة المغربية وعلى غرار ما جرى في دول عربية أخرى، إلى عقد لقاءات خاصة مع شيوخ “السلفية الجهادية”، حيث بدأت بالحوار مع محمد الحدوشي أحد أبرز منظري الفكر الجهادي المعتقل السابق في سجن تطوان، إلا أن الخلافات في التوجهات الفكرية والسياسية للمعتقلين كانت أحد الأسباب التي عطلت هذه العملية إلى حين، بعدها بدأت تطفو على السطح من داخل السجون مجموعة من المبادرات يقول أصحابها بأنها كانت نتيجة تراكمات فكرية وتجارب علمية هدفها صيانة الصف السلفي، وذلك من خلال استمراريته، وتقرير مبدأ المقاصد، والتعريف بميلاد فكر متنور ومتحرر يؤمن بمبدأ التعددية الفكرية والثقافية والسياسية.
ويلاحظ الكاتب والباحث المصري هاني نسيرة أن “قيمة أي مراجعة تنظيرية وتأسيسية وفعاليتها، أن تأتي نقدا ذاتيا، لما سبق أن وضعه المراجع في مرحلته السابقة، بتفكيك مفاهيمه السابقة وقناعاته، التي سبق أن دعا إليها أو أسس لها، وهي ليست عيبا أو تراجعا، يعاب صاحبه، من قبل رفاقه، بالمعنى السلبي، لكنها فضيلة تحسب لمن يقدم عليها، وهي قديمة في تراثنا، كما أنها مستمرة في فضائنا الإسلامي المعاصر، وهي ليست محصورة فقط في الحركات الجهادية والعنفية”، مضيفا أن “من أشهر هذه المراجعات، ما كان من أبي الأعلى المودودي، وموافقته للشيخ أبي الحسن الندوي، في نقده لتفسيره السياسي للإسلام، في كتابه الذي صدر في نهاية السبعينيات، قبل وفاة المودودي، وتعرض فيها للمفاهيم المركزية التي نحتها المودودي، وتابعه فيها سيد قطب، ثم سائر الجماعات الجهادية المعاصرة، وخاصة مفهوم الحاكمية والدين والعبادة والألوهية، وهي المفاهيم التي أعاد المودودي وسيد قطب صياغتها صياغة جديدة، تتفق ومركزية مفهوم الحاكمية، الذي جعلاه أصل الدين، ومناط تحقيق الإيمان والكفر، وهناك أيضا المراجعة التي قام بها حسن حطاب، مؤسس الجماعة السلفية للدعوة والقتال”(1).
المناصحة والمصالحة
ثم هناك أيضا المراجعات التي نادى بها رموز السلفية الجهادية بالمغرب، ومن ذلك صرخة “أنصفونا” التي خطها المعتقل الإسلامي السابق عبدالوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص من داخل سجن “بوركايز” بمدينة فاس، معلنا من خلالها استنكاره للتفجيرات العشوائية في المغرب وكل بلاد المسلمين “لما فيها من إزهاق الدماء المعصومة وإتلاف الأموال المصونة ولما يترتب عليها من المفاسد التي لا يقرها شرع صريح ولا عقل صحيح”.
وقد أطلق على تلك المراجعات الفكرية اسم مبادرة “المناصحة والمصالحة” والتي تلزم الموقعين عليها بعدم تكفير المجتمع والمسلمين بغير موجب شرعي وتقترح على كل من ثبت تورطه في أعمال سابقة أن يقدم للمجتمع والمنظمات الرسمية اعتذارا وأن يبدي ندما على ما بدر منه، وبالمقابل تضمن الدولة للمعتقلين عدم متابعتهم بعد خروجهم من السجن وأن يفتح المجال السياسي لمن يريد ذلك منهم، كما طالبوا بتوفير مساحة آمنة للدعوة إلى الله تعالى دون ملاحقة أمنية مع عدم المساس بقضايا الجهاد في فلسطين والعراق وأفغانستان واعتبارها قضايا أمة بأسرها ليس فيها مجال للمساومة وليست خاضعة للمراجعة.
ومما جاء في هذه المراجعات الفكرية السلفية الجهادية بالمغرب، التفاعل مع “قضايا المسلمين والإدانة المطلقة للاحتلال والدعم المعنوي التام للمجاهدين من أبناء الأمة المدافعين عن حياضها في فلسطين والعراق وأفغانستان والاصطفاف في تيار الممانعة الرافض لمشاريع الهزيمة والاستسلام والانبطاح أمام المحتل الغاصب لخيرات الأمة وثرواتها”، والتبرؤ من تكفير المجتمع، مؤكدين على أنهم كانوا وما يزالون يصرون على إسلامية هذا المجتمع، فنحن، يقول معتقلي السلفية الجهادية، “أبناؤه وثمرته به تربينا وتعلمنا وعلمنا، نصلّي في مساجده ونأكل من ذبائحه، وتنبيهنا على بعض مظاهر الخلل والقصور ليس إلا من باب الحرص والشفقة والغيرة، وليس من باب التكفير الذي تنحله طوائف من الخوارج والغلاة لم نسلم من تكفيرهم لنا”.
غير أن تجاهل الدولة المغربية لمطالب هؤلاء المعتقلين في تفعيل مقتضيات مبادرة المراجعات الفكرية، اضطر هؤلاء إلى القيام بردود فعل للفت انتباه المسؤولين إلى مدى المعاناة التي يكابدونها داخل السجون، ومن ذلك تنظيمهم لمجموعة من الإضرابات عن الطعام خاصة في سجن عين برجة وسجن أوطيطة 2 بضاحية سيدي قاسم وسجني الزاكي وبوركايز في كل من مدينتي فاس وسلا، للمطالبة بالبث في مراجعاتهم الفكرية أو العفو عنهم أو إعادة محاكمتهم، على اعتبار أن المحاكمات التي جرت بحقهم، حسب رأيهم، لم تكن عادلة.
رد فعل السلطة على هذه المطالب والإضرابات كان قاسيا، بحيث منعت أقاربهم وذويهم من زيارتهم وحبستهم في زنازين خاصة وعزلتهم نهائيا عن العالم الخارجي، ناهيك عن الحرمان، حسب بلاغات وبيانات المعتقلين، من العلاج والتطبيب والتغذية الملائمة، غير أن أخطر تصعيد نفذه أعضاء السلفية الجهادية، والذي جاء متزامنا مع الحراكات الشعبية التي خاضتها مع مطلع العام 2011 بعض شعوب الدول العربية ضد أنظمتها، هو المتمثل في اعتصام العشرات من معتقلي السلفية الجهادية بالسجن المدني بسلا، مطالبين، حسب مصدر إعلامي، بإعادة النظر في ملفاتهم وقدوم مسؤولين للتحاور معهم حول مجموعة من المطالب، بحيث خرج عشرات المعتقلين ليلا إلى باحة السجن، ونظموا اعتصاما مفتوحا، بينما صعد بضعة أشخاص منهم فوق أسوار السجن الخارجية، مهددين بإحراق أنفسهم بعد أن صب بعضهم البنزين على أجسادهم، فيما اعتلى آخرون سطوح السجن وبدؤوا في ترديد شعارات ضد إدارة السجن، مطالبين بإنصافهم، ولم تمض سوى أقل من ساعة حتى تقاطر أفراد عائلات المعتقلين على السجن حيث رفعوا لافتات تطالب بإنصاف ذويهم، فيما حضرت قوات الأمن وعناصر الوقاية المدنية تحسبا لأي حريق.
وقد أدت كل هذه التصعيدات إلى دخول الدوائر الأمنية في عدد من السجون في حوار جاد مع معتقلي السلفية الجهادية، وتحدثت تقارير صحفية عن تكثيف هذه اللقاءات خاصة مع قادة وشيوخ هذا التنظيم، بهدف التوصل إلى “ضمانات” تمكن من تسوية هذا الملف الذي ظل عالقا لمدة تزيد على عقد من الزمن.
إن قبول الدولة المغربية بتفعيل مقتضيات المراجعات الفكرية، يؤشر على أن الدلالة الكبرى لهذه المراجعات، يقول صاحب كتاب “القاعدة والسلفية الجهادية: الروافد الفكرية وحدود المراجعات”، هي دلالة “أنه لا يمكن أن يكون العنف خيارا مؤبدا وملتزما للجماعات التغييرية من مختلف مشاربها، وأن التاريخ والواقع سيظل يمارس فعله واقتداره على الأيديولوجيات الانقلابية عليه، حتى تنجح في تطويعه أو تطويره، وهذا ليس انهزاما أمام الواقع ومنتجاته، قدر ما هو تصالح مع الواقع، التحاما به من أجل تغيير أكثر رحابة وإمكانية”، مضيفا أن قيمة أي مراجعات للفكر الجهادي والعنفي، “تظل قيمة فكرية، تحدث أثرها ببطء، وتحتاج لموجات تتابعها، وحملة من صاحبها قبل غيره، في نقد تأسيساتها وروافدها التاريخية والمعاصرة، وهو ما قد يساعد ويظل أثرها فكريا، لا يمتد نحو إحداث خلخلة فكرية حقيقية في فكر هذه الجماعات” (2).
أثر المراجعات الفكرية
ومن ثمار هذه المراجعات، ما كان من أحد أبرز رموز السلفية الجهادية في المغرب، الشيخ محمد الفيزازي فقد قال في رده على سؤال وجه إليه حول مسألة تأسيسه حزب سياسي عقب خروجه من السجن، في الندوة الصحفية التي نظمتها منظمة التجديد الطلابي الذراع الطلابية لحزب العدالة والتنمية المغربي بفاس بتاريخ 04/05/2011 حول “مستجدات الوضع الحقوقي بالمغرب”، “إذا ما قدم لي الملك ضمانات للاشتغال بحرية وديمقراطية لإنشاء حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية على نهج القرآن والسنة مع استحضار تحولات العصر ومستجداته التقنية والتكنولوجية وكذا استحضار المتغيرات الاجتماعية والسياسية والحداثة، فإني مستعد من الغد أن أقدم أوراقي للسلطات بطلب تأسيس حزب سياسي”.
بهذه العبارة، التي ما كانت لتخطر ببال الشيخ الفيزازي قبل إيداعه السجن لولا مراجعاته الفكرية، ارتأى الفيزازي أن يبدأ حياته الجديدة بعد أن قضى حوالي الثمان سنوات في سجون المملكة المغربية بتهمة التورط في أحداث 16 ماي/أيار الإرهابية، والملاحظ أن عبارته تتضمن من بين ما تتضمنه كلمة “حداثة” التي كان حتى عهد قريب يضعها في خانة الزندقة والإلحاد يقول “ما يجري على الساحة المغربية اليوم إنما هو صراع مبادئ أولا وأخيرا، طرفاه الأساسيان ليست الحكومة والسلفية، بل التيارات الملحدة الحداثية على رأسها اليسار المغربي على لسان محاور الشر “الاتحاد الاشتراكي” و”الأخباث المغربية” و”ليبراسيون”، فالصراع إذن بين أيديولوجية الزندقة والإلحاد من جهة وبين عقيدة أهل المغرب وعقيدة المسلمين في أنحاء العالم من جهة ثانية” (3).
وليست هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها الفيزازي عن عزمه إنشاء حزب سياسي، فقد كان يعاود الحديث عن هذه القضية في كل المناسبات التي يظهر فيها، ومن ذلك حواره مع إحدى اليوميات الوطنية، حيث أشار إلى أن هناك تفكيرا جديا لتأسيس حزب إسلامي يقوم على مرجعية دينية، قبل أن يستدرك بالقول “إن تأسيس حزب سياسي يتطلب دراسة متأنية ومستفيضة، وقد يتطلب الأمر الكثير من التمحيص”، موضحا أنه قد يكتفي في المرحلة الحالية بالانضمام إلى حزب العدالة والتنمية في حال قبل به عضوا في صفوفه، على اعتبار أن هذا الحزب، على حد تعبيره، هو الأقرب إلى قناعاته الفكرية والتصورية ولا يختلف معه في توجهاته.
وأيضا أفاض واستفاض في هذا الشأن عندما حل ضيفا على ندوة فاس المشار لها أعلاه، وقال بأنه على استعداد تام لتأسيس حزب سياسي، إذا ما ضمن له جلالة الملك أن يقيم حزبا سياسيا وفق ما يعتقده هو، يدعو إلى السلم والسلام والتؤدة والحكمة، وأضاف “لا أكره أحدا على معتقدي، ثم لا يفتي علي أحد بالقول، لا تجعل الكتاب والسنة هي المرجع والأساس، فأنا أؤمن أن السياسة دين والدين سياسة، إن كانوا يريدون الحرية، فهذه قناعاتي وإيماني، ولا يجوز لأحد أن يصادرها”، مشددا على أنه ليس سلفيا ولكنه مسلم كباقي المسلمين، وقال في هذا الصدد “أنا لست سلفيا، أنا مسلم، إذا كانت السلفية هي منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة ومع من اتبعهم إلى يوم الدين، الله عز وجل قال هو سماكم المسلمين ولم يقل هو سماكم السلفيين”.
الحزب السياسي عاد الفيزازي ليتحدث عنه في تصريح خص به هذه المرة يومية “آخر ساعة” وقال إن الجمعية التي يعتزم تأسيسها قد تكون في المستقبل القريب أو المتوسط حزبا سياسيا، نظرا لضخامتها وضمها لعدد كبير جدا من الأطر والنخب، ولاشتغالها أيضا في المجال السياسي ومشاركتها في الإصلاح، مؤكدا أن الجمعية التي سيكون اسمها “الجمعية الإسلامية للدعوة والإصلاح” سوف تكون جمعية وطنية كبرى ستجد لها فروعا في كل المدن المغربية، وستضم جميع المغاربة، نساء ورجالا، سودا وبيضا، فقراء وأغنياء، ولن تكون للسلفيين والسجناء السابقين فقط، مضيفا أنها “إذا صارت جمعية ذات زخم كبير واحتاج المغاربة واحتجنا نحن إلى تأسيس حزب سياسي كبير انطلاقا منها، فلم لا”.
وحول الأهداف الأسياسية لهذه الجمعية، أكد الفيزازي لنفس الصحيفة، أنها تسعى إلى “محاربة التطرف والغلو في الدين، والمشاركة في تفكيك المنظومة الفكرية للإرهابيين، والتحاور مع غير المسلمين في إطار التسامح والتعايش والسلم بين الأديان، بالحجة الدامغة وبالأدب والاحترام المطلوب في أي حوار”، موضحا أنها “ستقوم وسطية الإسلام واعتداله في إطار مذهب الإمام مالك”، ولن تكتفي الجمعية بالدعوة فقط، حسب الشيخ الفيزازي، “بل ستشارك في جميع أوراش الإصلاح التي دعا إليها ملك البلاد في مجالات التعليم والصحة والزراعة والحكامة والقضاء وتدبير الشأن العام وغيرها”. (4)
ولم يكتف الفيزازي عن الحديث عن حزب سياسي ولكنه تحدث أيضا عن إمكانية لم شمل الحركات الإسلامية، وأشار في هذا الإطار إلى أنه لو قام ليعدد ما يجمعه مع الحركات الإسلامية لن ينتهي، “فما يجمعنا لا ينتهي، ما يفرقنا لا شيء، اختلافات حول أمور بسيطة جدا”، وبين في الندوة نفسها أن العدو ليس هو جماعة العدل والإحسان أو التوحيد والإصلاح أو العدالة والتنمية أو جماعة الدعوة والتبليغ، مضيفا أن أمورا “صغيرة تفرقنا، لنضعها جانبا ونضع أرضية للتوحيد من أجل نشر الفضيلة والأخلاق المحمدية وحب الله ورسوله، ثم بعد ذلك نناقش المختلف عليه وإن قل”.
ولتقعيد مسألة إنشاء حزب سياسي جديد فكرا وتصورا، وإيجاد موقع له داخل الساحة السياسية، كان لابد للشيخ محمد الفيزازي من إصدار مواقف ضد من ينشرون، على حد وصفه، الشغب ويثيرون الفتنة في البلاد وبين العباد، بطريقة بين من خلالها أنه يجيد سياسة اللعب على الحبلين والازدواجية في الخطاب.
وهكذا سارع إلى إصدار موقف ضد جماعة العدل والإحسان واتهم شيخها الراحل عبدالسلام ياسين بالسعي إلى الخلافة الإسلامية، وقال منتقدا إياه في الرسالة التي خص بها جماعته (5)، “إنه لم يحدد من هو الخليفة المرتقب، ولا ماهي آليات توليه ولا مدى تبلور مشروع هذه الخلافة لدى الشعب المغربي، بل لدى الشعوب الإسلامية كافة من طنجة إلى جاكارتا… وعن الإجراءات الشرعية التي يجب اتباعها لتحقيق هذا الهدف المعطل منذ أربعة عشر قرنا وزيادة”، وأضاف “هكذا نفهم نحن مدلول الخلافة الإسلامية، وما أظن الشيخ ياسين يجهل هذه القضايا”، مشيرا إلى أن كريمته، نادية ياسين كانت قد صرحت كذلك في كثير من المرات أنها مع الجمهورية الإسلامية في المغرب، دون أن تذكر بدورها مع هذه الرغبة أي تفصيل عملي لتحويل المغرب من الملكية إلى الجمهورية، ولا يخفى أنه مطلب مخالف تماما لمطلب الشيخ الأب فضلا عن رفضه بكل حزم من قبل جل المغاربة، بل يواصل الشيخ محمد الفيزازي بأن هناك قياديون حتى داخل جماعة العدل والإحسان أعربوا عن تفضيلهم لملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، مبينا أن هذا الطرح يشاركهم فيه غير قليل من النخب والسياسيين والحقوقيين.. وغيرهم، بما فيهم مناضلو حركة 20 فبراير، فيما يخالف رغبة كل من الأب (عبدالسلام ياسين) والبنت (نادية ياسين) على السواء.
وبنفس الطريقة وبنفس المنطق تحدث الشيخ محمد الفيزازي عن حركة 20 فبراير، وتعمد في الرسالة نفسها، وضع كلمة الثورة بين قوسين، على اعتبار أنه لم يدرك بعد سقف مطالب هذه الثورة ولا وجد عندهم برنامجا مفصلا وشفافا ولا خارطة طريق لهذا الحراك، مضيفا أن كل ما وجده عندهم بعد فحص وتمحيص هو “مجموعة من المتناقضات والتضارب في الشعارات والتباين في الوجهات… بل والتشابك بالأيدي واللكمات..”، غير أنه عاد ليثني على هذه الحركة ويقول بأنه كان قد أعلن منذ الدقيقة الأولى التي عانق فيها الحرية أن حركة 20 فبراير “فوق رأسي وعلى عيني ورمشي، وقلت على رؤوس الأشهاد بأنني أصغر من هؤلاء الشباب الذين أعلنوا عن هدفهم الواضح والنبيل المؤيد بالشرع والعقل وقوانين السماء والأرض.. ألا وهو إسقاط الفساد”، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى ليسب ويشتم أعضاء الحركة بلغة بلغت حد تكفير بعضهم، “لقد بدأت أدرك أن الحركة وعاء فيه الغث والسمين وفيه الطيب والخبيث وفيه الكفر والإيمان وفيه الأصيل والدخيل وفيه… وفيه… وأنا أشهد طائعا مختارا غير مماحك ولا متحامل أن الغث والخبيث والكفر والدخيل قليل.. ولا يشكل سوى نسبة قليلة جدا”، مبينا أنه سارع لأجل ذلك بملتمس لحركة عشرين فبراير من أجل مطالبتها بتطهير صفها من الملاحدة والزنادقة” على حد تعبيره.
إن الناظر في كل هذه التغييرات الجوهرية التي طرأت على فكر وحركة الشيخ محمد الفيزازي وغيره من شيوخ السلفية الجهادية، والتي دارت دورة كاملة، مردها إلى المراجعات الفكرية التي كان الفيزازي أحد أبرز محركيها داخل السجون المغربية إلى جانب كل من حسن الخطاب زعيم خلية “أنصار المهدي” وحسن الكتاني وعبدالوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص والشيخ محمد الحدوشي.
ومن العلامات البارزة التي تؤكد تأثر الشيخ الفيزازي بالمراجعات الفكرية، قبوله المشاركة في عمل سينمائي يخص المخرج المغربي نبيل عيوش، كـ”مستشار فني يراجع فيه اختيار ملابس الممثلين التي تتماشى وأسلوب السلفيين الجهاديين في أدق تفاصيلها، وكذا المساعدة في إدارة الممثلين على مستوى الحوار في رنته التعبيرية والصوتية بما ينسجم وطبيعة الشخصيات السيكولوجية، وطريقتها في توظيف القاموس اللغوي والديني الذي تستخدمه تلك الشخصيات”، وهو عمل ما كان ليخطر على بال محمد الفيزازي بالنظر إلى المرجعيات الفكرية والأدبية لتيار السلفية الجهادية التي تمنع ذلك جملة وتفصيلا وتكفر البرلمان والانتخابات والأحزاب السياسية لولا هذه المراجعات الفكرية.
ومن العلامات كذلك، الرسالة التي وجهها إلى الملك شفاعة في سجناء السلفية الجهادية، بحيث تقدم بمبادرة تصالحية أخرى تعتبر أن القضية في أساسها قضية فقهية قائمة في ظاهرها على فهم معين لنصوص معينة من الكتاب والسنة، مشددا على أن العلاج لن يكون إلا بالاعتماد على الكتاب والسنة ذاتيهما من أجل كشف الشبهات وتوضيح الحق ومعالجة ما يمكن معالجته من غلو وتنطع.
جمعية البصيرة للتربية والدعوة
ثمار المراجعات لم تقف عند هذا الحد، بل تواصلت هذه المرة مع حسن الكتاني وعبدالوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص، اللذين أقدما بتاريخ 30 مارس 2013، بعد خروجهما من السجن على تأسيس جمعية دعوية تحت اسم “جمعية البصيرة للتربية والدعوة”، حيث عين الأول رئيسا للجمعية، بينما أسند إلى الشيخ “أبي حفص” منصب نائب الرئيس والناطق الرسمي باسم الجمعية، وانعقد الجمع العام التأسيسي للجمعية الجديدة، وفقا لما نقلته الصحف الوطنية، في مدينة الدارالبيضاء، بحضور عدة شخصيات إسلامية، حيث تم الحسم في تشكيلة المكتب التنفيذي للجمعية، والتي شهدت حضورا قويا لقياديين من حزب النهضة والفضيلة.
ويعتبر تأسيس الجمعيات في عرف معتنقي السلفية الجهادية، من الأعمال المحظورة التي تتعارض كليا مع الأسس الفكرية التي يقوم عليها هذا التنظيم، فهي ـ في نظر معتنقيه ـ اعتراف ضمني بالقوانين الوضعية الجاري بها العمل في البلاد، ومعلوم أن هذه القوانين يكفر بها أتباع السلفية الجهادية ويكفرون من يعمل بها.
وتواصلت كذلك من خلال تنظيم جمعيات مدنية تنشط في مجال حقوق الإنسان والعدالة، وهي منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وجمعية عدالة من أجل الحق في محاكمة عادلة، وجمعية الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، لقاء تشاوريا أوليا جمع شمل ناشطين حقوقيين وأكاديميين، وشخصيات سلفية، وممثلين عن مؤسسات رسمية هي المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان.
وقد حضر هذا اللقاء كلا من الشيخ حسن الكتاني، وعمر الحدوشي، وعبد الوهاب رفيقي “أبو حفص” الذين ساهموا بآرائهم ومداخلاتهم في هذا اللقاء الحواري الذي انعقد تحت شعار “من أجل فهم مشترك للحالة السلفية وسؤال المشاركة في الحياة العامة”.
وذكر بلاغ الهيئات المنظمة لهذا اللقاء التشاوري الأول من نوعه بأن الهدف الأساس من الحوار هو “محاولة بناء فهم مشترك للحالة السلفية ومحاولة توصيف خلفياتها الفكرية وخطابها وسياقاتها”، مضيفا بأن النقاش “أسهم في توضيح الكثير من المواقف والالتباسات ذات الطبيعة الفكرية المرتبطة بالاتجاه السلفي، أو بالأفكار الجاهزة اتجاهه، وكذا التحديات المطروحة عليه في علاقة بسؤالي العنف والتدبير السلمي للاختلاف”، وذلك من خلال استعراض الآراء بخصوص الانتهاكات والتجاوزات التي شهدها ملف السلفيين بالسجون المغربية، مع رصد بعض المبادرات التي حاولت المساهمة في إيجاد حل لهذا الملف.
السلفية الجهادية.. حالة العود
في استجواب له أجرته معه أسبوعية الأيام (6)، أكد الشيخ محمد الفيزازي أن أكبر عرقلة يتخبط فيها ملف السلفية الجهادية في المغرب هي حالة العود، وبين أن بعض هؤلاء السجناء المحسوبين على التيار السلفي داخل السجون لا يظهرون أي نية حسنة، بل إن بعضهم يظهر بشكل علني ولاءه للخليفة البغدادي المعتوه (7)، مشيرا إلى أن ذلك من شأنه أن يؤثر على تصفية وحل الملف الذي يتخبط في مشاكل جمة.
وأوضح الفيزازي في الاستجواب نفسه قائلا “أعتقد أنه حتى الذين يظهرون نياتهم الحسنة بدون شك تتخوف الدولة منهم ولا تنظر لهم بعين الطمأنينة والرضى، وتتعامل دائما بمنطق أن الأمر فيه تقية أو فيه خدعة، وبدون شك فإن الدولة بتصرفها ذلك تأخذ كل احتياطاتها كي لا تكون هناك حالة عود كما كان الأمر في سابق المرات، إذ أن الواقع يشهد أن بعض الأفراد ينطلقون بمجرد خروجهم من السجن إلى سوريا والعراق وتونس وليبيا ومالي، وهذه في نظري أكبر عقبة تقف في وجه حلحلة هذا الملف”.
وأضاف الفيزازي “أظن أن حل ملف السلفية الجهادية في المغرب، ينطلق من ضرورة تصنيف دقيق للسجناء، على مستوى الولاءات ومستوى مدى تشبتهم بالقيم الوطنية، لابد من الاشتغال على عينة الذين يسهل التأكد من أنهم سيكونون كما يظهرون، أي سيكون ظاهرهم كباطنهم وسيخرجون من السجن مواطنين صالحين لمجتمعهم”، مشددا على أن الدولة قادرة على ما أسماها “بهذه الغربلة داخل السجون”، كما شدد على ضرورة إشراك العلماء في طي هذا الملف، مبينا أن دورهم دور أساسي جدا على اعتبار أن الملف ملف فكري عقدي وليس أمنيا، فهؤلاء، يسترسل الشيخ الفيزازي، يعتقدون أمورا استنادا على نصوص من القرآن يعتمدونها ويفهمونها على غير وجهها، يتأولونها تأويلات مخالفة لإجماع العلماء والأئمة.
وقسم الفيزازي أتباع السلفية الجهادية إلى ثلاثة طوائف أساسية، الأولى هي الطائفة المستعدة تماما للاندماج في المجتمع دون قيد أو شرط، الطائفة الثانية هي تلك الطائفة المتذبذبة التي اختلطت عليها المفاهيم والأفكار، وهذه الطائفة البين منزلتين، يواصل الفيزازي “هي التي يجب أن تحاور ويجب أن يسلط الضوء على أفكارها وعلى مناطق العتمة فيها”، أما الطائفة الثالثة يؤكد الفيزازي، “فلا مجال للحوار معها أصلا، لأنهم لا يقبلون الحوار، فهم يعتبرون حتى محاوريهم كفرة وعلماء السلطان ولذلك فالمقاربة الأمنية هي التي تصلح لهم”.
رحلة البحث عن الاندماج في المجتمع
وتأتي جمعية “البصيرة للتربية والدعوة”، التي تندرج قطعا في سياق المراجعات الفكرية، على اعتبار ـ كما سبق أن ذكرت ـ أن بعض المشاركين في هذه التجربة لم يؤمنوا سابقا بالعمل الدعوي المؤطر بهذه الصيغة، كما أنهم كانوا ضد العمل السياسي الحزبي، لتؤشر فضلا عن لم الشتات السلفي، على الشروع في رحلة البحث عن الاندماج في القنوات المجتمعية.
لقد ساهمت فترة الاعتقال ومستجدات الساحة الوطنية على الخصوص وتداعيات الربيع العربي الذي ضرب عددا من البلدان العربية، في مراجعة العديد من رؤاهم ومواقفهم من العمل الجمعوي ومعه العمل السياسي، ولو أن الجمعية، كما جاء على لسان رئيسها بالنيابة وناطقها الرسمي، عبد الوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص، “لا تفكر في تأسيس حزب سياسي أو التحالف مع حزب قائم، ذلك أن هذا المشروع لا يوجد، في نظري، ضمن أولويات الجمعية، على المدى القريب، وقد يكون كذلك على المدى المتوسط أو البعيد”.
الجمعية التي يبدو أنها ستدخل في صراع مرير مع حركة التوحيد والإصلاح الذراع الدعوية لحزب العدالة والتنمية المغربي على اعتبار أنهما ينهلان من نفس المرجعية ويشتغلان بنفس النمط وعلى نفس الأهداف، ستكون بطبيعة الحال معنية باحترام الثوابت الدينية الجاري بها العمل في البلاد، وستحظى بهوامش كثيرة للعمل، في أفق أن تكون البديل الذي سيجده باقي معتقلي السلفية الجهادية بعد خروجهم من سجون المملكة.
ويبدو من خلال هذا الطرح أن السلطات المغربية أدركت غاية الإدراك أن المقاربة الأمنية لم تعد مجدية ولم تعد تكفي في مواجهة التطرف بكل أشكاله وأنواعه، وأن هناك مقاربات أخرى لابد من تفعيلها للوصول بالبلاد والعباد إلى بر الأمان.
ومن هذه المقاربات المقاربة الاجتماعية والتربوية والحقوقية..، وقد جاء هذا التغير المفاجئ في طريقة تعاطي الدولة المغربية مع هذا التيار، بعد أن برز ليس فقط على المستوى المحلي أو حتى الإقليمي ولكن على المستوى العالمي، كفاعل استراتيجي دولي مميز وفريد من نوعه، فأن يستفيق العالم على أحداث ضخمة مثل أحداث الـ11 من شتنبر وغيرها من الأحداث، فهي مسألة تبعث على الكثير من الاندهاش والإثارة، وتفرض على الجميع التوقف عندها لبحث الأهداف والطموحات التي تسعى السلفية الجهادية من خلالها إلى تحقيقها، وما إذا كان ممكنا وقف هذا الاندفاع والتحدي الذي يشكله هذا التيار، الذي شئنا أم أبينا وفي ضوء عروضه العسكرية والأمنية النوعية على الساحة الدولية، فاجأ في فعالياته ومساعيه كل الجهات سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو دينية أو ثقافية، بل إن هذا التيار طرح على الغرب مسألة التحدي الحضاري، وبات على مسافة قريبة من خلخلة بنيته التنظيمية وعلاقاته الدولية، الشيء الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تتفطن وتستشعر جدية مخاطر وتهديدات هذا التيار، فأعلنت حربا عليه عبر ما تسميه “مكافحة الإرهاب العالمي” وجندت تحالفا دوليا لتحقيق ذلك.
وتزداد خطورة هذا التيار، إذا ما علمنا أن أتباعه يتعاملون مع خصومهم بمقتضى الشريعة والعقيدة، ويستخرجون خبراتهم ومهاراتهم العسكرية والأمنية وتوجهاتهم السياسية والأيديولوجية من صميم العقيدة الإسلامية والسنة النبوية والتراث الإسلامي، خلافا لأمريكا وحلفائها الذين يتعاملون مع الآخرين بمقتضى العقل الوضعي والآلة التكنولوجية والكليات العسكرية، بمعنى أن السلفية الجهادية تتحصن وراء العقيدة الإسلامية كمرجعية توجه كافة مخططاتها واختياراتها وترسم بواسطتها كل استراتيجياتها القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى.
ذلك أن عمل السلفية الجهاديةـ كما يقول هاني نسيرة في دراسته “القاعدة والسلفية الجهادية: الروافد الفكرية وحدود المراجعات”ـ ليس عملا عشوائيا، “تقوم به مجموعة من اللاعقلانيين، الذين يكرهون الحداثة وأسلوب الحياة المعاصرة، أي أنه مجرد فكر عدمي وفوضوي لا أساس له”، بل هو عمل منتظم في بوثقة منظمة لها منطلقاتها ووسائلها وأهادفها، نافيا أن يكون القول بنهاية هذا التيار قريبا على الأقل على المستوى الفكري والإيديولوجي، سيما مع تزايد نشاط التجنيد والفعل، وتوافر مناخ عالمي وإقليمي، لا يزال يسهم بقوة في تخصيب أفكاره، من قبيل الصراع العربي/الإسرائيلي، والتأزم القائم بالعراق وأفغانستان والإبادة الجماعية التي تتعرض لها الأقليات المسلمة في عدد من الدول مثل ما يقع لمسلمي الروهينجيا في بورما حيث يعيث الرهبان البوذيون فسادا ويهاجمون السكان ويبيدونهم عن طريق إضرام النار في مساكنهم، كما يهاجمون المساجد والمدارس الإسلامية ويحرقون ويرمون بالمصاحف والكتب الإسلامية أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي، وهو ما قامت به منظمة رهبانية بوذية إرهابية تطلق على نفسها اسم “969”، عندما هاجمت، حسب مصادر إعلامية، مسجدا ومدرسة إسلامية شمال مدينة “رانغون” وأحرقت ورمت عشرات المصاحف والكتب الإسلامية، ناهيك عن الصعوبات البالغة التي تصطحب عملية تأسيس العمل الديمقراطي في البلاد العربية، وتعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وما سوى ذلك.
لهذه الأسباب ولغيرها، ارتأت الدولة المغربية أنه بات من الضروري إدماج هذه الفئة من المجتمع المغربي في العمل الجمعوي والسياسي حتى تمارس قناعاتها واختياراتها الفكرية، لكن بعيدا عن أسلوب العنف والتقتيل والتفجير والاعتداء الوحشي على سلامة وأمن المواطنين.
لقد ولد كل ذلك لدى هؤلاء رغبة جامحة في الانخراط الفعلي في العمل الجمعوي والسياسي، خصوصا بعد النجاح الباهر الذي حققه السلفيون في دول مجاورة مثل مصر وتونس، ما سيدفع سلفيي المغرب إلى ابتكار كل الطرق والوسائل من أجل الولوج في معترك المنافسة السياسية، وذلك عبر آليتين، الأولى، الانخراط في حزب قائم، مثل حزب النهضة والفضيلة، الذي تبنى منذ الوهلة الأولى ـ باعتباره حزبا محسوبا على الأحزاب الإسلامية ـ ملف هؤلاء، وله اتصالات وطيدة ووثيقة بهم، بمعنى أن هذا الحزب يسعى إلى تكرار تجربة الراحل الدكتور عبدالكريم الخطيب، الأمين العام السابق لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية مع إسلاميي حركة التوحيد والإصلاح، بعدما رفضت السلطات المغربية الترخيص لأحد أبرز مكوناتها، حركة الإصلاح والتجديد التي كان يتزعمها عبد الإله ابن كيران، بتأسيس حزب التجديد الوطني سنة 1992، وبذلك يصبح للسلفيين إطارهم الحزبي، دون أن يضطروا إلى الدخول في صراعات مع مراكز القوى داخل الدولة المغربية.
الآلية الثانية المطروحة، وهي السماح لهؤلاء بتأسيس أول حزب سياسي للسلفيين يتزعمه الشيخ محمد الفيزازي، الذي عبر غير ما مرةـ كما سبق أن بيناـ عن عزمه تأسيس حزب سياسي يقوم على المرجعية الإسلامية ويحترم ثوابت الأمة.
وبما أن هذه الآلية الأخيرة غير مسموح بها على الأقل في ظل الظرفية الراهنة، فإنه لم يتبق لأعضاء السلفية الجهادية غير الآلية الأولى وهي خيار الإدماج في الأحزاب السياسية القائمة، لينطلق بعد ذلك الصراع، كما يقول الباحث في قضايا وشؤون الحركات الإسلامية، الأستاذ محمد ضريف في تصريح صحفي ليومية المساء في عددها الصادر يوم الإثنين 20 ماي/أيار 2013، على أشده بين كل من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب النهضة والفضيلة من أجل استقطاب رموز هذا التيار، مع ما سيضمن لهم ذلك من أصوات لأتباعهم، وهو ما جعل الشيخ محمد رفيقي الملقب بأبي حفص، ينتفض في وجه من اعتبر السلفيين بمثابة صيد سهل يتنافس عليه الحزبان الإسلاميان، مؤكدا أن “السلفيين لم يقضوا سنوات من أعمارهم في السجون لكي يتحولوا إلى فريسة يتنافس عليها الآخرون، أو ورقة في يد أي جهة لمهاجمة جهات أخرى”.
الصراع على كسب ود السلفيين بين الحزبين الإسلاميين اتخذ كذلك طابعا حقوقيا من خلال السباق الذي كان يجريه كل من عبدالعلي حامي الدين، العضو السابق للأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ورئيس منتدى الكرامة لحقوق الإنسان ومحمد خليدي، الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة، في محاولة الحصول على ورقة اعتراف الطي النهائي لملف السلفية الجهادية.
وبعد شد وجذب بين هذا الطرف وذاك انتهى مطاف بعض رموز السلفية الجهادية إلى الاستقرار بحزب محمد خليدي، الشيء الذي أثار حفيظة قياديي حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، معتبرين أن انخراط هؤلاء الرموز في حزب النهضة والفضيلة يستهدف كيانهم السياسي، بل إن بعضهم ذهب أكثر من ذلك عندما أكد، حسب تقارير صحفية، أن أجهزة الدولة هي من تقف وراء هذه العملية لتشجيع السلفيين ودفعهم إلى مواجهة حزب العدالة والتنمية من خلال الترويج لكونه يتناقض في سياسته مع الشريعة الإسلامية.
ولم يشد عن هذا الانتماء السياسي سوى الشيخ عمر الحدوشي الملقب بـ”أبي الفضل”، الذي كشف في أول خروج إعلامي له بعد انضمام كل من عبدالوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص وحسن الكتاني للنهضة والفضيلة، عن رفضه للعمل السياسي لأن السياسة في نظره ـ وفقا لما جاء في تقارير صحفية ـ “نوع من الكذب بأسلوب خفي”، وأن العمل السياسي في تقديره “لا يثمر شيئا ولم ينضج بعد”، معتبرا أن “السياسة القائمة حاليا شيء، والسياسة الشرعية شيء آخر.”
مبادرة عبدالكريم الشاذلي
في خضم هذا الحراك السلفي غير المسبوق، يخرج الشيخ عبدالكريم الشاذلي ليعلن عن التأسيس لمبادرة شبيهة بالمبادرة التي سبق أن أطلقها قياديو حركة التوحيد والإصلاح مع حزب الدكتور عبدالكريم الخطب (الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية).
عبدالكريم الشاذلي اختار أن يشتغل بالقرب من حزب عرشان ويدير حركة أطلق عليها “الحركة السلفية للإصلاح السياسي” تكون بمثابة الجناح الدعوي لحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية.
وقد تكفل بترتيب وإعداد هذه المبادرة إلى جانب السلفي عبدالكريم الشاذلي، لجنة تضم أربعة معتقلين من داخل سجن الزاكي، تكلفت بصياغة رسالة جماعية من 12 صفحة، يبرز فيها أزيد من 67 من المعتقلين الحيثيات التي دفعتهم لاتخاذ هذه المبادرة، وإعلان الانخراط في مشروع المصالحة مع الدولة، فيما رفض آخرون الانخراط والانضمام لهذا المشروع، وفي مقدمتهم حسن الخطاب، ومحمد الفيزازي، وعبدالرزاق سوماح، وأبو طه وآخرون، وفضلوا عوضا عن ذللك، إطلاق مشاورات واسعة وحوار وطني من أجل تأسيس إطار جديد يستقطب أعدادا هائلة من المعتقلين السلفيين سواء المفرج عنهم أو القابعين في السجون (8).
يقول الشيخ عبدالكريم الشاذلي حول هذه المبادرة في استجواب أجرته معه يومية المساء “مشروعنا السياسي يقوم على أرضية الثوابت، في مقدمتها المذهب السني والحفاظ على كرامة المواطن والعدالة الاجتماعية وأسلمة مظاهر الحياة العامة وتطبيق الشريعة الإسلامية”، مضيفا “المغرب الآن في حاجة إلى تضافر جهود هؤلاء المخلصين من أبناء الشعب، لكي يقطعوا الطريق على هؤلاء المحسوبين على المفسدين والانتهازيين الذين يتلاعبون بأموال الشعب”. (9)
بل إن الشيخ الشاذلي في شرحه للخطوط العريضة لمشروعه السياسي، تحول إلى مدافع شرس عن الأمين العام لحزب الحركة الاجتماعية الديمقراطية، محمود عرشان، وقال عنه “محمود عرشان الحافظ لكتاب الله قد سلمت أياديه من دماء الإسلاميين وأن ثمانية آلاف سلفي الذين اعتقلوا عقب أحداث 16 ماي الإرهابية قد تم التحقيق معهم في زمن وزير العدل الاتحادي المرحوم محمد بوزوبع”، مبينا أن ذلك ليس دفاعا عن محمود عرشان “وإنما هو من باب الإنصاف، ولعل مذكراته التي كتبها باللغة الفرنسية والتي كانت كذلك من الأسباب القوية للتحامل على الرجل حينما كشف فيها النقاب عن مجموعة من الرموز السياسية ممن كانوا يرتادون دار الراحل وزير الداخلية الأسبق، إدريس البصري بحقائب فارغة ويخرجون بها مليئة بالأموال”. (10)
ويخضع مكتب جمعية الشاذلي (الحركة السلفية للإصلاح السياسي) ومن خلال القانون الأساسي للتجديد مرة كل أربع سنوات، وسيكون من بين أبرز أهدافها، دعم الاستراتيجية الوطنية للإصلاح السياسي بعيدا عن التعصب والانفراد بالرأي، والدفاع عن الوحدة الترابية والمصالح العليا للوطن، كما تضع الجمعية الجديدة، ضمن الوسائل التي سوف تحقق بها هذه الغايات، المساهمة في الحقل الإعلامي بإصدار مجلة أو نشرة أو كتب تخدم أهداف الجمعية، والاعتماد على تكنولوجيا المعلوميات للتواصل مع كل شرائح المجتمع، ومد جسور التواصل بين مختلف مكونات المجتمع المدني للتعاون على الإصلاح، من خلال إقامة الأنشطة التربوية والاجتماعية والثقافية والرياضية.
وتكشف الجمعية في قانونها الأساسي عن مصادر تمويلاتها المادية، والتي تتوزع بين نقدية وعينية وتتمثل أساسا في واجبات الانخراط السنوية ومساهمات الأعضاء بالمكتب الإداري، ومساهمات الأعضاء العاملين والأعضاء الشرفيين والمعونات التي تتلقاها بطريقة قانونية. (11)
هذه الجمعية سترى النور، وفقا لما جاء في صحيفة الأخبار عدد 1022 الصادر يوم الثلاثاء 15 مارس 2016، يوم السبت 12 مارس 2016، بعدما تمكن محمود عرشان، الأمين العام لحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية من تأسيسها بمعية عبدالكريم الشاذلي، ليكون بذلك قد وصل إلى إبرام اتفاق معهم على شاكلة ذلك الذي أبرمه عبدالكريم الخطيب مؤسس حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية/ العدالة والتنمية حاليا، مع حركة التوحيد والإصلاح، ونجح بالتالي في استقطابهم وتشكيل الجناح الدعوي لحزبه.
وافتتح لقاء الجمع العام محمود عرشان، أكد من خلاله أن تأسيس الجمعية الحقوقية الجديدة “بمثابة انطلاقة متميزة في مسار الشعب المغربي ستعزز من التماسك الداخلي للمغرب”، مشيرا إلى أن “انعقاد هذا الجمع العام يأتي في ظروف دقيقة تمر منها البلاد في مسارها الديمقراطي والوحدوي”.
ولم تنجح مساعي عرشان، في تأسيس جناح حزبه الدعوي في 11 يناير 2016 الماضي، بالفندق الذي جرى تفجيره في أحداث 16 ماي/أيار الإرهابية، بعدما عبأ لها الشاذلي حوالي 100 سلفي، كان من المرتقب أن يجمع شتاتهم فيه، في لقاء كان قد أكد أنه ستحضره أسماء سياسية وحقوقية وثقافية أخرى، غير أنه لم ينجح في ذلك، فتم نقل عملية التأسيس من أحد فنادق مدينة الرباط إلى مقر الحزب في المدينة نفسها. (48)
جمعية أخرى رأت النور هذه المرة في مدينة فاس وحضرها كما جاء على لسان مؤسسها الشيخ حسن الخطاب، في الدردشة التي أجرتها معه أسبوعية المشعل في عددها 512 الصادر بتاريخ 5/11 ماي/أيار 2016، ما يزيد على 1200 مشارك، مشيرا إلى أن الجمعية، التي تحمل اسم “الجمعية المغربية للكرامة والدعوة والإصلاح”، تتوفر على 33 تنسيقية على مستوى المغرب، وأضيفت لها أخيرا مجموعة من المدن مثل لقصر لكبير والعرائش وتازة، والأكثر من ذلك فإن نسبة هذه التمثيليات تضم ما بين 60 و70 في المائة من المعتقلين ضمن التيار السلفي “يعني راه ماشي ناس عاديين” على حد تعبيره.
وكشف الخطاب في هذه الدردشة، أن خلافا حدث داخل الجمعية أثناء عملية التأسيس بينه وبين الشيخين عبدالرزاق سوماح ومحمد الفيزازي، على مستوى التصور الفكري، وقال “الناس باغة دير السياسة”، لكننا قلنا لهم منذ اليوم الأول “السياسة خط أحمر”. (49)
وبالمجمل فإن المراجعات الفكرية عبدت الطريق للمغرب في أن ينجح وبامتياز في إدماج هذه الفئة في أوساط المجتمع، معتمدا لأجل تحقيق ذلك على مجموعة من الآليات أهمها العمل الجمعوي والحزبي حتى تعبر هذه الفئة المجتمعية عن قناعاتها وتمارس اختياراتها الفكرية، بعيدا عن أسلوب العنف والتقتيل والتفجير.
لائحة المراجع
(1) “القاعدة والسلفية الجهادية: الروافد الفكرية وحدود المراجعات” دراسة للباحث المصري هاني نسيرة أصدرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ط يوليو سنة 2008،
(2) المرجع السابق نفسه
(3) مقالة لسعيد الكحل تحمل عنوان “حوار مع شيخ تكفيري متطرف 2”
(4) يومية “آخر ساعة” العدد 65 الصادر بتاريخ 23 فبراير 2016
(5) رسالة كان الشيخ محمد الفيزازي قد بعث بها إلى الشيخ الراحل عبدالسلام ياسين ينتقد فيها أداء جماعة العدل والإحسان.
(6) الأيام عدد 664 الصادر بتاريخ 7-13 ماي 2015
(7) يقصد المسمى إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي المشهور بأبي بكر البغدادي، أمير ما كان يسمى بـ”تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة اختصارا بـ(داعش).
(8) أسبوعية الأيام العدد 695 الصادر بتاريخ 14-20 يناير 2016
(9) صحيفة المساء العدد 2765 الصادر بتاريخ 25 غشت 2015
(10) صحيفة المساء العدد نفسه
(11) أسبوعية الأيام العدد 695 الصادر بتاريخ 14-20 يناير 2016
(12) صحيفة الأخبار العدد 1022 الصادر بتاريخ الثلاثاء 15 مارس 2016
(13) أسبوعية المشعل العدد 512 الصادر بتاريخ 5/11 ماي 2016
عد ان تناولنا موضوع السلفية الجهادية بالمغرب «دراسة» يمكنك قراءة ايضا
المفكر العربي الكبير علي محمد الشرفاء يكتب.. الصلاة على النبي
الإمارات في أسبوع.. إشادة امريكية بأنظمة الدفاع الجوي لأبوظبي وأسهم موانئ دبي تقفز في أول يوم تداول
يمكنك متابعة منصة العرب 2030 على الفيس بوك