الحلقة 18 من كتاب «المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي» للكاتب علي محمد الشرفاء الحمادي
الكاتب مفكر عربي إماراتي.. خاص منصة العرب الرقمية
في الحلقة الثامنة عشرة من كتاب “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”، للمفكر العربي علي محمد الشرفاء، يستكمل المؤلف أمثلة للاختلاف والتباين بين الخطاب الإلهي والخطاب الديني، وكيف أنّهما متناقضان ومختلفان، إذ إن الخطاب الديني مصدره الفقهاء، وهو متعدّد المناهج والاتجاهات، بينما الخطاب الإلهي واحد، ومصدره هو الله الواحد الأحد، وهو مصدر لا لبس فيه ولا رأي، بل هو تنزيل من حكيم حميد، وينبه المؤلف في هذا الجزء إلى مخالفة الفقهاء وبعض رواة الأحاديث الخطاب الإلهي ومقصوده، وكيف افتروا على الله وأدخلوا على شرعه ما ليس فيه، مستدلا بالكثير من الأحاديث التي فيها مخالفات واضحة للنص القرآني وخطاب ومراد الله منه.
وإليكم الحلقة الثامنة عشرة من كتاب “المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي”
مصادر الخطاب الديني
سادسًا: في صحيح مسلم رواية 4971
حدثنا محمّدٌ بن عمرَ عَنْ أبي ردّة عَنْ أبيهِ عنَ النّبي صلّى اللهُ عليهِ وسلّم قَالَ: “يجيءُ يومَ القيام ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبالِ، فيغفرُها اللهُ لَهم ويضعها على اليهودِ والنَّصارى”.
الخطاب الإلهي
قالَ تَعالى ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (غافر:71) وقالَ تعالى ﴿وَكُلَّ إنسان أَلزَمناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخرجِ لَهُ يَومَ القِيامَةِ كِتابًا يَلقاهُ مَنشورًا اقرَأ كِتابَكَ كَفى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسيبًا منِ اهتَدى فَإِنَّما يَهتَدي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أخرى وَما كُنّا مُعَذِّبيـنَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا﴾ (الإسراء 13 و14 و15) وقالَ تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر 38).
هكذا قدّم أعداءُ الإسلام لِلخطابِ الدينيّ الوجباتِ المسمومةَ، واستطاعُوا أن يجعلوا من الرواياتِ مَرجِعًا وحيدًا لرسالةِ الإسلام كَمَا استطاعوا أن يعبثَوا بعقولِ المسلمينَ شبابًا وشيبًا، وأوحى لهم الشيطانُ بنشْرِ الأكاذيبِ على رسولِ اللهِ لإحداثِ الفُرقةِ بيـن الـمسلمينَ وَلِينقسم المسلمونَ إلى فرقٍ وأحزابٍ يضربونَ أعناقَ بعضِهم بعضًا، مستهدفينَ هَدْم الإسلام وتشويهَ قرآنهِ والتقليلَ من شأنِهِ وتشويهَ صورتِه.
ملاحظةٌ وتعقيبٌ:
إنَّ هذهِ الروايةَ مَنْ قالَها مجرمٌ ومَن نَقَلها نَقَلَ افتراءً على اللهِ عزّ وجلّ في عدلهِ، بين خلقِهِ، وهو العَدْلُ المطلقُ، وهو الَّذِي يأمرُ عبادَه بالعَدْل “وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْل” (النساء 58).. فهلْ مِنَ العَدْلِ أن يغفرَ اللهُ للمسلمين ذنوبَهم، ويحملَّها لليهود والنّصارى، كَبـُرتْ كلمةً تَخرجُ من أفواهِهِم الكريهةِ والله يقول ﴿ما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ وَلا لِآبائِهِم كَبـُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أفواهِهِم إِن يَقولونَ إِلّا كَذِبًا﴾ (الكهف 5)، لقد بَلغَ بهم الافتراءُ بأنْ يُوجّهوا سِهامَهُم المسمومةَ إلى خالقِ السَّماوات والأرضِ، وبلغت بهم الجرأة أن يطعنوا في عدل الله. اللهَ الذي لن يستثنى نبيًّا أو رسولًا أو إنسانًا يوم الحساب يؤكد ذلك قوله تعالى “وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” (الزمر 69).. لن يَستثنيَ مُسلمًا كانَ أم كافرًا، رسولاً أم نبيًّا أم زنديقًا، غنيًّا أم فقيرًّا من الحِسابِ والعقابِ. كل الخلق سواء وكُلٌّ سَيُساقُ بعَملِهِ إلى النّار أو إلى الجنّةِ، فلا يتوَهّمْ المسلمونَ أنّهم مَهْمَا أذنبوا، أنَّ اللهُ سَوفَ يَغفرُ لهم ذنوبَهم على حِسابِ غَيرِهم مِنْ خَلقِهِ، إنَ هذهِ الروايةَ افتراءٌ على رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الَّذِي جاَءَ برسالةِ الرّحمةِ والمسَاواةِ بينَ العِبادِ جميعًا.
مصادر الخطاب الديني
سابعًا: في مسند أحمد رقم 25112
حدّثنا يعقوب، قالَ حدّثنا عن أبي إسحاقَ، قال حدّثني عَبِدُ الله بُن أبي بكرٍ بنُ محمّدٍ بن عُمر بن حَزمُ عن عَمرةَ بنتِ عَبد الرّحمن عَنْ عائشةَ زوجِ النبيِ صلّى اللهُ عليهِ وسلم قالت «أُنزلتْ آيةُ الرَّجمِ ورضعاتِ الكبيرِ عَشرًا، فكانتْ في ورقةٍ تحت سرير في بيتي، فلمّا اشتكى رسولُ الله صلّى الله عليهِ وسلّم، تشاغْلنا بأمرِه ودخلت دويبة لنا فأكلتها».
الخطاب الإلهي
أولاً إرضاعُ الكبيرِ:
فيما يتعلقُ بما جاءتْ به الروايةُ أعلاهُ، بشأنِ إرضاعِ الكبير، فنجدُ قولَ اللهِ تَعالى يدحضُ تلكَ الِفريةَ، ويؤكدُ تحصينِ المرأةِ وحمايتِها منِ الغوايةِ ومن النفس الأمّارةِ بالسوءِ، ومنَ الوقوعِ في الذنبِ، في حينِ أنَّ اللهَ يأمرُ رَسولهَ محمّدًا صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أوْ أَبْنَائِهِنَّ أو أَبْنَاءِ بَعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أو نِسَائِهِنَّ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أو التَّابِعِينَ غَيْرِ أولِيَ الْإِرْبَة منَ الرِّجَالِ أو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفَلِحُونَ) (النور31).
ثمّ يُؤكّد الخالقُ سُبحانَهُ مرةً ثانيةً، حيثُ يقولُ لرسولهٍ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب 59).
إذا كانَ الله سُبحانَهُ وتَعَالى يأمرُ رسولَه صلى اللهُ عليهِ وسلّم بأنْ يأمرَ أزواجَهُ وبناتِهِ ونساءَ المؤمنـينَ، بأنْ يُدنيـنَ عليهُنَّ جلابيبهنَّ، وأن يسترنَ أنفسهن فكيفَ بروايةٍ مزعومةٍ ومفتراةٍ على رسولِ اللهِ تتناقض مع آيات الله وتنسب زورًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أنْ تسمحَ المرأةُ لرجلٍ غريبٍ أن يرضعَ من ثَدْيها، أيُّ خطابٍ هذا المكذوب. إِنها دعوةٌ للفُسقِ والفجورِ، ومعصيةِ الله، فكيف يُمكن للمسلمِ أن يستوعبَ أو يُصدِّقَ تلكَ الرواياتِ التـي تُسيء إلى رسولِنا الكريمِ، ويضعونه دائمًا في حالةِ صِدامٍ وتناقضٍ مع القرآن الكريم، ويرفعونَ تلكَ الرواياتِ إلى مصافِ التقديسِ ويعتمدونَها مرجعًا لا لبسَ فيه، وتصبحُ من القضَايا المؤكَّدة التي يعرضونَها على المُسْلمِين ويعتمدونها مصادر للخطاب الديني.
ثانيًا: آية رجمِ الزّاني والزّانيةِ:
جاءَ في الروايةِ نَفْسِها أعلاه، بشأنِ رَجم الزانياتِ لم يَرِدْ نصُّ في القرآن الحكيم بهذا الحُكم القَاسي واللّاإنساني، فقدْ وضَعَ اللهُ سُبحانَهُ تشريعًا لذْلك فَقَال سُبحْانَهُ وتعالى “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأخُذْكُم بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ” (النور 2)، ذلك هو حدُّ الزاني والزانية الذي شرَّعه الله لعباده، وهو الحكم الذي أمر سبحانه بتطبيقه كما ورد في هذه الآية التي تنسِفُ روايةَ الدُّويبةِ التي أكلتْ الآية المزوَّرةَ والمفتراة على الإسلام.
ملاحظةٌ وتعقيبٌ:
كيف للعاقلِ أن يصدّقَ فرية وتخريفا وأكذوبة صادمة للنطق إذا لم تصبْهُ لوثةُ في عَقْلِهِ، وكيفَ للمسلمِ أن يُؤمنَ بروايةٍ تَستَصغِر وعيه وتستخف بإدراكه، وكيفَ قَبِلَ المسلمونَ مُنذُ مئاتِ السنينَ، هذه الاستهانةَ بعقولِهِم، وكيف اعتمَدُوها في مَراجعِهم الفقهيّة، وكيفَ غابتْ عن عُقولِهم آيات الله، حيث يصفهم الله سبحانه بقوله “مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يبصرون” (البقرة 18).
كيف تعاموا عن التشريع الإلهي وما جاء به من أحكام في القرآن الكريم، كما جاءَ في سورةِ النورِ، في حدٍّ الزَّانيةِ والزّاني، وكيفَ قَبِلَ مَن يُسَمونَ بعلماءِ الدينِ وصدقوا تلك الرواية بشأن موضوعَ إرضاعِ الكبيرِ، وفاتَتْ عليهم آيات اللهِ، الّتي تضعُ حدودًا فاصلةً في التعاملِ بينَ الرجالِ والنساءِ، حتى لا يَقَعَ المحظور وتُرتَكبَ المعاصي، ثمّ يتمُ تداولُ هذه الروايةِ وترديدها قرونًا، علمًا بأنه لا يوجد نصٌّ على الرَجمِ في القرآن الكريمِ، وكيف تم استغفال الناس بتلك الرواية بأنَّ دويبةً أكلتْ الآيةَ تحتَ سريرِ عِائشةَ رضي اللهُ عنها؟ فأيُّ عَقلٍ يرضى بأن تتمَّ استهانتُهُ واستغفالُهُ؟ وكيف يقبلُ علماءُ الدينِ بهذه الفِرية؟ وأما فيما يتعلق بدويبةٍ أكلت الآيةَ من تَحتِ السّريرِ، فإذا سَلّمنا بصحتِها فيكونُ قد تولّانا الخَبَلُ والعُتْهُ، وأنَّ مَن يُصدّقُ هذه الروايةَ، فلا شكَ أنهّ يستهينُ بعظمةِ القرآن ودينِ الإسلام، ممّا يؤكدُ أنَّ تلك العقولُ كانت مغيّبةً، والأفهامُ صدأتْ والرَانَ على القلوبِ مما استحكمَ في أسلوبِ تفكيرهِم فعُطِّلَ الفهمُ الصحيحُ للقرآنِ الكريمِ ومقاصدِ شرعِ الله في كتابِهِ الكريمِ.
مصادر الخطاب الديني
ثامنًا: في صحيح البخاري 2971
حدّثنا سُليمانُ بن حَرْبٍ قال: عن شُعبَةَ عن الحَكمِ عن إبراهيمَ عن الأسود عَن عائشةَ رضَي اللهُ عنها قالت: “كانَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُقِبّلُ ويباشرُ وهو صائمٌ وكان أملكَكُم لإربهِ”.
الخطاب الإلهي
إنَّ الصيامَ هو الامتناعُ الكاملُ عَن كلّ الشهواتِ من أكلٍ وشراب، والجماعِ مع النساء وكافة أنواع المتع التي تستهوي النفس، وقد بَلَّغنا الرسولُ محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم شروطَ الصيامِ، الّذي يستهدفُ تدريبَ الإنسان على السيطرةِ على النفس والتحكّم في أهوائِها والقدرةَ على امتناِعها عن المتعة والشَّهواتِ، وقد أكّدت الآيةُ الكَريمةُ بقَولهِ سُبحانَهُ وتَعالى “أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابَتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمَ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبَيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” (البقرة 187).
إنه بهذه الآيةِ قد سمَحَ الله للناس بمُباشَرةِ الجماعِ في الليلِ وليسَ أثَناءَ الصّيام، حيثُ يُعتَبرُ الجماعُ قمةَ المتعةِ عِنْد الإنسان، والصّيامُ هوَ الامتناعُ الكاملُ عن كلّ الُمتع والشَّهوات، فكيفَ تم اختلاقُ هذه الِفريةِ عَلىَ رسولِ اللَهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم بأنْ يباشرَ زوجتَه عائشة وهو صائمٌ؟! وكيُفَ يمكن للعقل أنْ يتصوّر أنَّ حاملَ رسالةِ الهُدَىَ والإيمانِ يخالفَ اللهَ فيما أمرَ بهِ؟!
إنَّ الإشاعاتِ وفبركةَ الروايات تستهدفُ النيلَ من التزامِ الرسولِ بأوامرِ القرآن واتباعِ أوامر اللهِ، وهذه الرواياتُ تَمّ تزويرُها كجزءٍ من الحربِ النفسيةِ التي واجهَها الرسول في حياتِهِ واستمرتْ حتى اليوم يردّدها المسلمونَ دُونَ منطقٍ ودونَ تفكيرٍ حينَما رَهنوا عقولَهم وتفكيرَهم لتلكَ الإشاعات واستسلموا لَها حتّى أصبحتْ لديهْم مرجعًا رئيسيًّا للخطابِ الدّيني ولم ينتبهوا للخطاب الإلهي الذي فيه القولُ الفَصْل كَما جاَء في الآيةِ الكريمةِ أعلاُه. فليتقِ اللهَ كلُّ مَن تصدّى للخطابِ الدينيِ والدعوةِ لدينِ الحق بألا يعتمدَ على مصادرِ الرُّواةِ واتباع إشاعاتهِا، إنّما يرجع لكتابِ اللهِ الكريمِ ليكونَ معيارًا وميزانًا لكلِّ قولٍ من أيّ مصدرٍ ولكلِ روايةٍ مهما كان قائلُها ومهما بلَغَ علمهُ، فقْولُ اللهِ في كتابهِ الكريم يعلو فوقَ كلِّ قولْ.
مصادر الخطاب الديني
تاسعًا: في شرح كتاب «أبو شجاع» في كتابِ الحدود فِعْلُ تارك الصّلاةِ على ضَربين:
أحدهُما: أنْ يتركَها غيرَ مُتعمّدٍ لوجوبها، وحُكمُهُ حُكمَ المرتّد. والثّاني: أن يَتركَها كَسَلًا معتقدًا لِوجوبِها، فيُستَتَابُ فإنْ تابَ وصلّى وإلّا قُتلَ حَدًّا، وكان حُكمهُ حكم المسلمين (مقتبس عن كتاب مثنى التقريب المشهور بمثّنى أبي شجاعٍ في الفِقه على مذهب الإمامِ الشَافعي).
الخطاب الإلهي
قالَ تعالى ﴿يَا أَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنَ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ المائدة 54.
الآية المذكورة أعلاه تحدد بكل الوضوح شرع الله لعباده فيما يتعلق بالعبادات، وهو الوحيد سبحانه الذي سيحاسب الناس على عقائدهم ولم يمنح رسولاً أو نبيًّا أو قاضيًا القضاء في شؤون اختص الله بها لنفسه، فكيف تستوي شريعة وأحكامُ أبي شجاع مع شريعةِ اللهِ إن كُنا مؤمنينَ بكتابهِ الكريم، فعلينا ألا نقيمَ وزنًا لكلِ حكمٍ يتناقضُ مع القرآن ونعتبرهُ عدوانًا صارخًا على شرع الله يشوهُ سماحةَ الإسلام وحريةَ الإنسان في اختيارِ عقيدتِه أمّا فيما يتعلّق بتاركِ الصَّلَاة وقتلهِ حَدًّا فإنَّه ذا القَول لا يتفقُ مع قوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 99).
ملاحظةٌ وتعقيبٌ:
مِنْ أين أتى أبو شجاع بهذا التّشريع، وكيف بَنَي عليهِ أَحكامًا لم يشرعْها اللهُ في كتابِه الكريمِ، وهو يعلمُ بأنّ اللهَ احتفظَ بحقّهِ في التشريع لِخَلقِهِ، مبنيًّا على حريةِ الاعتقادِ المطُلق، ومبنيًّا على العَدل ومؤسّسًا على أنَّ الحسابَ فيما يتعلّقُ بالعبادةِ هُوَ أمرٌ اختصَّ اللهُ به يومَ القيامة ولم يعطِ حقًّا لجميع الرسل والأنبياء أن يكونوا وكلاء عنه على خلقه في عقائدهم وعباداتهم، فذلك شأنه؛ تأكيدًا لقوله تعالى “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ” الأنعام 107.
وكيف صدق المتصدون للوعظ الديني والإرشاد من شيوخ الإسلام وعلمائه، وكيف غفلوا عن شرع الله بشأن عقائد الناس في آياته وما اختصَّ الله به وحده في محاسبة عباده على عقائدهم وأعمالهم يوم القيامة؟!
وحكمُ المرتدُ يَعني الحكم عليه بالموتِ ولمْ يُعطِ اللهُ لبشرٍ مِنْ خَلقِه حق إصدار أحكام الموتِ والقتلِ على تارك الصلاة ومانع الزكاة أو العاصي لتكاليف العبادات، وليس من حق الإنسان أن يتهم العصاة بالمرتدِّين أو مَنْ بَدّل دِينهُ حكمه القتل، فذلكَ حُكمٌ يختصُّ سُبحانَهُ بمحاسبةِ عِبادِهِ والحكمِ عليهمْ بما يقتضيه أمرُه؛ تأكيدًا لقوله تعالى ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد 40).
مصادر الخطاب الديني
عاشرًا: البخاري 6923، مسلم 3371
في صحيح اِلبخـاريّ ومُسلم: أنَّ النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وسلم بعثَ أبا مُوسى الأشعريَّ رضي الله عنه واليًا على اليمنِ ثّم أتبعَه معاذَ بنَ جَبَل رضَي اللهُ عَنه، فلمّا قَدِمَ عليه، ألقى أبو مُوسى وسَادةً لمعاذِ وقال: «انزلْ وإذا رجلٌ عندَه مُوثقٌ قالَ معاذُ ما هذا؟ قال كانَ يَهوديًّا فَأسلَم ثمّ تَهوّد. قالَ: لا أجلسُ حتى يُقتَلَ قضاءَ اللهِ ورسولهِ ثلاثَ مرّات: فأمر بهِ فَقُتِل.
الخطاب الإلهي
قَال تَعَالى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ (الزمر:41)، بهذه الآية يبلغ الله سُبحانَهُ أنه قد حرر الإنسان مِنْ وصايةِ الأنبياءِ عليْهم في عقائِدِهِم، وأقرّتْ رسالةُ الإسلام حقوقَ الإنسان المطلقةَ في اختيارِ ما يشاؤون من عقائد يتعبدون بها، فالله وحدَه كفيل بحسابِهِم يومَ الحسابِ تأكيدًا لقوله تعالى ﴿وَإِما نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذي نَعِدُهُم أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيكَ البَلاغُ وَعَلَينَا الحِسابُ﴾ (الرعد 40)
فالله وحدَه اخْتُصَّ بمحاسبةِ عبادِهِ على أساسِ قولِ اللهِ ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة 7 و8)، وقولِه سُبحانَهُ وتعالى ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) (الغاشية 25 و26).
إنَّ هاتيْن الآيتينِ تؤكّدانِ أنَّ مسؤوليةَ الرسول محمّد صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ هي إبلاغُ الرسالةِ للناسِ، والتي حدّدَ معالمَها القرآنُ، ونصَّ على التشريعاتِ الأساسيّةِ فيما يتعلّق بينَ الخالقِ سُبحانَهُ وخَلقِهِ، وفيما يتعلّق بالتعامل الذِي يحكمُ علاقاتِ النّاسِ فيما بينَهم وفق تشريع يحقق العدل للناس جميعًا ويحرم الظلم بينهم ليعيشوا في أمن وسلام.
وقوله تعالى ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ (الكهف 29).
لقد منحَ اللهُ الإنسان حُرّيةً مطلقةً كما تؤكّدُ هذه الآيةُ المذكورة أعلاه، فحريةُ الاعتقادِ حقٌ من حقوقِ الإنسان مَنَحها اللهُ سُبحانَهُ لخلقه وليسَ منْ حقِّ أيِّ إنسان أن يصادِرَ هذا الحقَّ الإلهي للناسِ جميعًا، فاللهُ وحدَه فَقَط يحكُمُ لَهُم أو عليهم يومَ الحِساب في قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (الحج 71)، وبهذه الآيةِ احتفظَ اللهُ بحقّه في الفصل بينَ الناس على مختلف دياناتهم وعباداتِهم، ولا يحقُ لبشرٍ نبّيا أو رسولا أو عالما أو حاكما أن يقضيَ على الناس، بحكمٍ لا يملكُه، حيث حَسمَ اللهُ سُبحانَهُ هذا الأمر فيما يتعلق بعقائِدِ الناسِ المختلفةِ فهوَ صاحبُ الحقّ الأوحدِ في مقاضاةِ خلقِه يومَ الحِساب.
ملاحظةٌ وتعقيبٌ:
هل هكذا يكونَ مصيرُ مَنْ كَرَّمه اللهُ ومَنَحهُ كَلَّ الحقّ في حرّية الاعتقاد فَتمّتْ مصادرةُ حريتهِ، وزادَ على ذلكَ أنْ تمّتْ مصادرة حقِه المقدسِ في الحياة التي وَهَبها اللهُ لَه، أليسَ مثلُ تلك الرواياتِ تُنبتُ التطّرفَ وتشجع الإرهاب، مقتنعين بعقائد فاسدة انبثقت من نفوس مريضة متوحشة تنشر الكراهية وتستمتع بدماء الأبرياء متعطشة للقتل، لا فرق لديها بين كهل أو طفل أو امرأة، حِينما تمَّت الاستهانةُ بالروحِ الإنسانيةِ وتمّت بذلك مصادرةُ حقِّ اللهِ سُبحانَهُ لعبادِهِ في الحياة الآمنة وتشويه سماحةِ الإسلام ورحمته وعدله، فكُلُّ مَن روىَ هذه الروايات ومَنْ نَقَلها ومَنْ كَتَبها أعداءٌ لله ولرسولِه وأعداءٌ لرسالةِ الإسلام التي تَدعو للحريةِ والمحبّةِ والسلام بِينَ جميعِ خلقهِ، وقد حذرهم الله سبحانه في قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر 60).
إنَّ مبدأَ التكفيرِ للناسِ بصفةٍ عامة، سَواء كانوا مُسلمينَ أم مِن أهلِ الكتابِ أم من الوثنييّنَ أو ممِّن لا دين لهم، قضيةٌ لم يمنح اللهُ أيًّا من رُسلهِ وأنبيائِه حقَّ تكفيرِهم، ولا يُمكن لأيَة فئةٍ أن تَفْتئتَ على حقِّ اللهِ في الحكم على خلقهِ وعلى نواياهم وما يُضمرون في قلوبِهم وما يعتقدون، فلا يملكُ إنسان مهما أُوتيَ من عِلمٍ ومكانةٍ في المجتمعِ، أن يُكفرَ غيرَه، ومن أعطى أي إنسان الحق ومَن هي السلطة التي خولته أن يُنصِّبَ الإنسانُ نَفسَه حَكَمًا وقاضيًا على عقائد الناس للحُكمِ عليهم بالقتلِ أو الموتِ؟!
هكذا يتضح للعقلاء كيف استطاعت الروايات أن تختطف بعض العقول لتكون منقادة إلى الجحيم بما ترتكبه من جرائم الإفساد في الأرض، مما يؤكِّد نتيجةً خطيرةً بأنَّ الَّذِين ابتدعوا تلكَ الأحكام وآمنوا بالروايات وصدقوا الإسرائيليات وأساطيرهم يدفعونهم لتدمير أوطانهم واغتيال الآمنين من سكانها ظلمًا وعدوانًا أطلقوا العنانَ لتشويهِ الإسلام ونشر صورة كريهة ضد الإنسانية عن دين الرحمة والعدل والحرية والمساواة والسلام. لقد انصرفوا عن آيات الله واتبعوا الشيطان ورواياته لأنهم لم يقرأوا القرآن بإمعانٍ وتدبروا آياته ولأنهم يريدون أن يطفئوا نوره، فلم يتفّهموا شريعةَ اللهِ لخلقهِ ولم يُدركوا أنّهم تجاوزوا الخطوطَ الحمراءَ بافترائِهم على شرعِ اللهِ ومصدرهِ الوحيدِ، القرآن الكريمُ، والله سبحانه يتحداهم بقوله (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة 32).
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب