الرئيسيةدراساتسياسية

التمويل الذاتي في أفريقيا: بين إملاءات المساعدات الخارجية وحتمية السيادة الاقتصادية

إعداد: محمود سامح همام – باحث سياسي مصري متخصص في الشؤون الأفريقية

في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة والتغيرات العميقة في سياسات المساعدات الدولية، تواجه أفريقيا تحديًا استراتيجيًا يتطلب إعادة هيكلة نهجها التنموي، والاعتماد على إمكاناتها الذاتية لتأمين استقرارها الاقتصادي وتعزيز مسارات نموها المستدام. فقد أثبتت العقود الماضية أن المساعدات الخارجية ليست سوى أداة سياسية بيد الدول المانحة، تتغير وفقًا لمصالحها وأجنداتها، دون مراعاة حقيقية لاحتياجات الشعوب المستفيدة. من هنا، بات على الحكومات الأفريقية أن تتخذ خطوات حاسمة نحو تعزيز الاستقلال المالي، وتحفيز الاستثمارات ذات البعد الاجتماعي، بدلًا من الاستمرار في الاعتماد على تدفقات خارجية غير مضمونة الاستدامة.

التمويل الذاتي في أفريقيا

أولًا: تحولات السياسة الأمريكية: تسييس المساعدات وإعادة هيكلة الأولويات

مثَّل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في يوم توليه منصبه، بتجميد معظم المساعدات الخارجية الأمريكية لمدة 90 يومًا، رسالة واضحة بأن المساعدات لم تعد تُمنح وفقًا لاعتبارات إنسانية أو تنموية، بل تخضع لحسابات السياسة الخارجية الأمريكية. وقد أكد وزير الخارجية ماركو روبيو هذا التوجه من خلال طرح معيار ثلاثي الأبعاد لتقييم المساعدات المستقبلية، حيث تساءل: “هل تجعل أمريكا أكثر أمانًا؟ هل تجعلها أقوى؟ هل تجعلها أكثر ازدهارًا؟”. من اللافت أن هذا التصور أغفل تمامًا حقوق الدول المتلقية، واحتياجاتها التنموية، والبعد الإنساني للمساعدات.

ويأتي هذا القرار في سياق تحولات أوسع في سياسات الدول المانحة، حيث بدأت العديد من الحكومات في دمج المساعدات الإنمائية مع سياساتها الخارجية لضمان توجيهها بما يخدم أجنداتها الدبلوماسية والاستراتيجية. ففي عام 1995، أقدمت السويد على استبدال وكالتها التنموية المستقلة بوكالة تابعة لوزارة الخارجية، بينما قامت بريطانيا في عام 2020 بدمج وزارة التنمية الدولية مع وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية. ومع ذلك، فإن ما يميز النهج الأمريكي هو الطابع المفاجئ والشمولي لإجراءات التجميد، والتي تضمنت تفكيك وكالة التنمية الدولية الأمريكية قبل حتى الانتهاء من مراجعة برامجها.

لم يقتصر تقليص المساعدات الإنمائية على الولايات المتحدة، بل أصبح جزءًا من توجه عالمي، حيث بدأ الاتجاه التصاعدي للمساعدات بالاستقرار منذ عام 2022، مع تراجع التزامات الدول الكبرى. فقد خفضت المملكة المتحدة في عام 2020 نسبة إنفاقها على المساعدات الإنمائية من 0.7% إلى 0.5% من دخلها القومي، مع خطة لتقليصها إلى 0.3% بحلول عام 2027. كما تشير التقديرات إلى أن الدول الأعضاء في لجنة مساعدات التنمية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لن تتجاوز نسبة 0.37% من دخلها القومي المخصص للمساعدات بحلول 2023، ما يعني فجوة تمويلية تبلغ 196 مليار دولار مقارنة بالهدف المعلن سابقًا.

على مستوى القارة الأفريقية، تلقت أفريقيا 59.7 مليار دولار من المساعدات الإنمائية الرسمية في عام 2023، أي ما يمثل 26.8% من إجمالي المساعدات الدولية. ومع ذلك، فإن الاعتماد على هذا الدعم بات محفوفًا بالمخاطر، لا سيما وأن الولايات المتحدة وحدها كانت مسؤولة عن تقديم 26% من المساعدات الموجهة إلى القارة. ويعني قرار تجميد المساعدات الأمريكية أن العديد من الدول ستواجه أزمات حادة، كما هو الحال في إثيوبيا، حيث يعتمد 16 مليون شخص على المساعدات الغذائية، وغانا التي تواجه فجوة تمويلية تُقدر بـ156 مليون دولار تهدد قطاعي الصحة والزراعة، ونيجيريا التي يواجه نظامها الصحي ضغطًا متزايدًا يفاقم أزماته القائمة.

ثانيًا: إمكانات اقتصادية غير مستغلة: نحو تعبئة الموارد الداخلية ورؤية أفريقية لمستقبل جديد

في مواجهة هذا الواقع، بات واضحًا أن الحل لا يكمن في انتظار المساعدات الخارجية، بل في إعادة توجيه الموارد الداخلية واستثمار الثروات المتاحة داخل القارة. فقد أظهر تقرير الثروة الأفريقية لعام 2024 أن أفريقيا تضم 135,200 فردًا بثروة تفوق مليون دولار، في حين بلغت التحويلات المالية إلى القارة 100 مليار دولار في عام 2023، ما يعادل 6% من إجمالي الناتج المحلي. كما تجاوزت أصول الأفراد ذوي الثروات العالية والتحويلات المالية إجمالي المساعدات الإنمائية الرسمية والاستثمارات الأجنبية المباشرة في القارة، حيث بلغت الأخيرة 42 مليار دولار و48 مليار دولار على التوالي في عام 2024. هذه الأرقام تعكس إمكانات مالية هائلة يمكن، إذا أُحسن استغلالها، أن تشكل بديلًا فعالًا للمساعدات الخارجية.

إن التحدي الحقيقي أمام القارة لا يتمثل في نقص الموارد، بل في ضعف تخصيصها وسوء إدارتها. ومن هنا، فإن الأولوية يجب أن تُمنح لإصلاح الأنظمة الضريبية، وتحسين تحصيل الإيرادات الحكومية، وتعزيز الشفافية في إدارة الأموال العامة، بما يضمن إعادة توزيع الثروات بشكل أكثر عدالة وكفاءة. كما ينبغي أن تتبنى الحكومات سياسات تحفيزية تُشجع الاستثمارات المحلية، وتُسهل بيئة الأعمال، مع التركيز على القطاعات الحيوية مثل الزراعة، والصحة، والتعليم، والطاقة المتجددة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تطوير شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز دور البنوك التنموية، وتمكين الشركات الناشئة، يمكن أن يشكل رافدًا أساسيًا للنمو المستدام. ومن الضروري أن تُوجه الاستثمارات ليس فقط نحو المشاريع الربحية، بل نحو مبادرات تساهم في تحسين الظروف المعيشية، وتقليل الفجوات الاجتماعية، وتعزيز الاستقرار في القارة.

إن مستقبل التنمية في أفريقيا لا يجب أن يبقى رهينًا للمساعدات الخارجية، بل يجب أن يقوم على رؤية مستقلة تستند إلى استثمار الموارد الداخلية، وتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، وتبني سياسات تنموية جريئة تعزز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. لا شك أن التحديات كبيرة، ولكن الحلول متاحة إذا ما توفرت الإرادة السياسية، واتُخذت خطوات جادة نحو بناء اقتصاد أفريقي يعتمد على الإنتاج المحلي، والتكامل الاقتصادي، والاستثمار المسؤول.

في هذا السياق، لم يعد مقبولًا أن تظل أفريقيا تعتمد على وعود المانحين الذين يغيرون سياساتهم وفق مصالحهم، بل يجب أن تتحول إلى قوة اقتصادية فاعلة تمتلك زمام أمورها، وتُدير مواردها بفعالية، وتستثمر في مستقبل أبنائها. إنها لحظة مفصلية في تاريخ القارة، لحظة تتطلب إعادة تعريف دور أفريقيا في النظام الاقتصادي العالمي، ليس كمتلقٍ للمساعدات، بل كشريك فاعل في صناعة مستقبل مشترك.

ثانيًا: إعادة توجيه الموارد: نحو قطاع خاص مسؤول وتنمية مستدامة في أفريقيا

دور القطاع الخاص في التنمية: بين التحديات والفرص

في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية المتسارعة، يبرز دور القطاع الخاص في أفريقيا كركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية. ومع ذلك، فإن توجيه الموارد لا يزال يشكل تحديًا استراتيجيًا، حيث يتم في بعض الأحيان تخصيص الأموال لمشاريع تفتقر إلى الأولوية الوطنية. ففي 20 فبراير/شباط، قامت النخب النيجيرية بجمع 17.5 مليار نيرة نيجيرية (11.7 مليون دولار أمريكي) لصالح ديكتاتور سابق من أجل بناء “مكتبة رئاسية”، في وقت يعاني فيه 18 مليون طفل نيجيري من انقطاع عن الدراسة. إن غياب التخطيط السليم والحوكمة الرشيدة في تخصيص الموارد يؤدي إلى حرمان المجتمعات من استثمارات يمكن أن تحدث تحولًا حقيقيًا في حياة الملايين.

تمويل داخلي بديل: نحو استراتيجية جديدة للاستثمار الاجتماعي

لا يتطلب التغيير وجود ثروات ضخمة، بل يستند إلى القدرة على تعبئة الموارد واستثمارها بفعالية. لقد أثبتت التجربة أن هناك التزامًا قويًا داخل المجتمعات الأفريقية بمبدأ التمويل الجماعي، والذي يمكن أن يصبح أداة قوية لدعم المشاريع الهيكلية والتنموية، شريطة أن يتم توجيهه بأسلوب منظم ومستدام. يمكن استلهام نموذج التمويل الجماعي من المبادرات الممولة حاليًا من خلال المساعدات الإنمائية الرسمية، بحيث تصبح هذه الأدوات جزءًا من استراتيجية أوسع لتأمين التمويل المحلي للمشاريع التنموية.

لقد شهدت القارة استثمارات معتبرة في مجال الأثر الاجتماعي، حيث تم ضخ ما يصل إلى 38 مليار دولار أمريكي من رأس المال الاجتماعي في أفريقيا بين عامي 2005 و2015. وتعتبر السندات الخيرية، والصناديق الخضراء، وصناديق الاستدامة أدوات مالية فعالة يمكن توسيع استخدامها لتعزيز المشاريع ذات الفائدة العامة. إلا أن هناك عقبات رئيسية تعرقل هذا التوجه، منها ضعف الوعي، ونقص الإطار التنظيمي الداعم، وضعف اهتمام المستثمرين المحليين بهذه الأدوات المالية.

تحفيز الاستثمار المحلي: مسؤولية الحكومات والقطاع الخاص

لتحقيق تحول جذري في طريقة تمويل المشاريع التنموية، ينبغي على الحكومات الأفريقية تبني سياسات تحفيزية تشجع القطاع الخاص والأفراد على الاستثمار في المشاريع ذات الأثر الاجتماعي. يشمل ذلك تقديم إعفاءات ضريبية للمساهمات الخيرية، وخلق بيئة تشريعية تدعم التمويل الجماعي، وإعطاء الأولوية للشراكات بين القطاعين العام والخاص. كما يمكن إدراج العمل الخيري في سياسات التنمية الوطنية كأداة تكاملية لدعم برامج البنية التحتية والتعليم والصحة والأمن الغذائي.

علاوة على ذلك، فإن المغتربين الأفارقة، الذين يرسلون تحويلات مالية سنوية تقدر بمئات المليارات من الدولارات، يمثلون شريكًا أساسيًا في هذا النهج الجديد. يمكن للحكومات إصدار سندات مغتربين مخصصة لتمويل مشاريع تنموية استراتيجية، مما يتيح للأفارقة في الشتات المساهمة بفعالية في تنمية أوطانهم، بدلاً من الاعتماد على المساعدات الخارجية التي تخضع لاعتبارات سياسية واقتصادية متغيرة.

العمل الخيري والاستثمار الاجتماعي: شراكة ضرورية لاستقلال القارة

لطالما كانت أفريقيا موطنًا لتقاليد راسخة في العمل الخيري، حيث يمتلك الأفراد حسًا عاليًا من التضامن الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذا العطاء يجب أن يتحول إلى آلية مستدامة لدعم التنمية، بدلًا من أن يظل مقتصرًا على مبادرات فردية غير ممنهجة. من خلال دمج مفهوم العمل الخيري مع استراتيجيات الاستثمار الاجتماعي، يمكن للقارة أن تبني نموذجًا جديدًا للتمويل التنموي يعتمد على مواردها الذاتية.

إن التجربة العالمية تُظهر أن المجتمعات مستعدة للمساهمة عندما تتوفر الثقة في آليات التبرع والاستثمار. ففي عام 2023، بلغت مساهمات القطاع الخاص لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، بما في ذلك التبرعات الفردية، 2.1 مليار دولار أمريكي. هذا يثبت أن العالم مستعد للعطاء عندما يكون هناك وضوح في الأهداف، وشفافية في الإدارة، ومصداقية في التنفيذ.

يمكن لأفريقيا أن تحاكي هذه النماذج الناجحة من خلال تطوير منظومة استثمارية تقوم على تعبئة الموارد المحلية، وتوجيهها نحو مشاريع مستدامة تُدار بكفاءة وتخضع لعمليات تقييم منتظمة لضمان فعاليتها.

نحو نموذج تنموي مستقل: إعادة صياغة الأولويات

إن استمرار اعتماد أفريقيا على المساعدات الخارجية لم يعد خيارًا استراتيجيًا يمكن التعويل عليه، خاصة في ظل التحولات الجيوسياسية وتغير سياسات المانحين. لذلك، فإن تطوير آليات تمويل داخلي يعتمد على القطاع الخاص، والتمويل الجماعي، والاستثمارات ذات الأثر الاجتماعي، أصبح ضرورة ملحة لضمان الاستقرار الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.

في هذا الإطار، يجب أن تتبنى الحكومات الأفريقية سياسات أكثر جرأة لتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية، وتشجيع الاستثمارات التي لا تقتصر فقط على تعظيم الأرباح، بل تأخذ بعين الاعتبار الأثر الاجتماعي والاقتصادي على المجتمعات.

وإن أفريقيا تملك الموارد والقدرات اللازمة لتحقيق نهضتها الاقتصادية، وما تحتاجه اليوم هو إرادة سياسية واضحة، وإصلاحات اقتصادية جريئة، وشراكة حقيقية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني. فمن خلال إعادة توجيه الموارد نحو أولويات التنمية الحقيقية، يمكن للقارة أن تحقق استقلالها الاقتصادي، وتبني نموذجًا تنمويًا قائمًا على الاعتماد الذاتي، بدلاً من الارتهان لمعادلات التمويل الخارجية المتقلبة.

ختامًا، لم يعد أمام القارة الأفريقية خيار سوى إعادة رسم معالم سياساتها الاقتصادية بعيدًا عن الارتهان للمساعدات الخارجية التي تخضع لمصالح المانحين وظروفهم السياسية المتغيرة. وإن تحقيق الاستقلال الاقتصادي للقارة يتطلب إرادة سياسية حقيقية لإعادة توجيه الموارد، وتحفيز الاستثمارات المحلية، وتعزيز بيئة تشريعية تدعم التنمية المستدامة. ومن خلال بناء شراكات قوية بين القطاعين العام والخاص، وتوظيف رأس المال الأفريقي في مشروعات ذات أثر اجتماعي، يمكن للقارة أن تتخلص من تبعية المساعدات الخارجية، وتؤسس لنموذج تنموي يقوم على سيادتها الكاملة على مواردها. إن اللحظة التاريخية التي تمر بها أفريقيا اليوم تتطلب قرارات جريئة واستراتيجيات بعيدة المدى تعيد للقارة مكانتها كقوة اقتصادية صاعدة تعتمد على إمكاناتها الذاتية بدلاً من انتظار الإملاءات الخارجية.

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى