عبدالرحمان الأشعاري يكتب.. كيف يدبر الاتحاد الأوروبي الملف التركي؟
تتجه تركيا وللمرة الأولى في تاريخها، نحو جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية، في أعقاب جولة أولى متنازع عليها، إذ لم يتمكن سواء الرئيس الحالي، مرشح حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان، ولا منافسه الرئيسي زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو من تجاوز عقبة الـ50%.
وما يميز هذه الانتخابات، التي تعتبر ذات أهمية قصوى، أنها حملت أرقاما تنطق بصدق بكل معاني ومقومات العمل الديمقراطي، وتؤكد بجد أننا بصدد الحديث عن دولة تمارس الديمقراطية الحقه وترغب أكثر من أي وقت مضى في دخول نادي الكبار ونيل بالتالي رضى وبركة المارد الأوروبي.
لكن دول الاتحاد الأوروبي لها رأي آخر بخصوص ديمقراطية تركيا، إذ ترفض حتى الآن التأشير عليها والاعتراف بها ومنحها بالتالي بطاقة العضوية الكاملة، وظلت تقف موقف متذبذبا بخصوصها، فمرة تمتدحها ومرات عديدة تنتقدها انتقادات لاذعة.
طلب العضوية
تعود المرة الأولى التي تقدمت فيها تركيا بطلب لعضوية الاتحاد الأوروبي، إلى أواخر الخمسينات من القرن الماضي وتحديدا خلال العام 1959، وكان حينها يسمى الجمعية الأوروبية، إلا أن هذا الطلب وبعد سنوات من الانتظار لم ينظر فيه بشكل رسمي إلا في قمة هلسنكي التي عقدت يومي 10/12 دجنبر/كانون الأول من العام 1999، حيث تم الاعتراف بتركيا بصفة مرشحة للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي.
واشترطت دول الاتحاد الأوروبي للدخول في مفاوضات رسمية مع الحكومة التركية مجموعة من الشروط، من بينها احترام الأقليات وحقوق الإنسان، وإلغاء عقوبة الإعدام، وتحسين علاقتها مع اليونان، وكف يد الجيش التركي عن التدخل في الشؤون السياسية.
وستجبر تركيا بعدها على انتظار حتى حلول 3 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2005، لبدء أول مفاوضات في تاريخها حول العضوية الكاملة في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية الأولى من دون تحديد لأي سقف زمني لها.
ومن وقتها لم تراوح هذه المفاوضات مكانها وظلت تخضع لمزاج المارد الأوروبي، فإذا كان هذا المزاج جيدا خرجت تصريحات من هنا وهناك تبشر الأتراك بالاقتراب من الانضمام إلى المجموعة الأوروبية، وإذا كان غير ذلك فإن نفس الذين خرجوا بتصريحات التهليل والتبشير يختلقون هذه المرة ملفات سياسية وحقوقية تدين تركيا وتضعها في موقف حرج يجعلها تبتعد كل الابتعاد عن عضوية الاتحاد الأوروبي.
والدليل على ذلك أن تركيا التزمت بمعظم الشروط الأوروبية وقامت بسلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والحقوقية، منها فتح المجال لحرية الرأي والتعبير وإنهاء حالة الاعتقالات السياسية، وإلغاء عقوبة الإعدام، ومنح حقوق للأقليات الدينية غير المسلمة حتى أن الدستور التركي لا ينص على دين رسمي للدولة التركية، بل يكفل لجميع الأتراك حرية المعتقد على النحو الذي يرغبونه دون إكراه أو إلزام، وذلك على الرغم من أن نسبة المسلمين في تركيا تصل إلى قرابة 97.8 بالمائة.
لقد توسعت تركيا في فهم هذه الشروط وتوسعت أيضا في إنزالها على أرض الواقع، حتى غدت ديمقراطيتها أحسن بكثير من ديمقراطية بعض دول الإتحاد الأوروبي نفسها، إلا أن هذه الدول لم تلتفت لذلك، ولم تقدر كل تلكم الجهود، ما يعني أن هناك أسبابا أخرى وراء كل هذا التبخيس وكل هذا الرفض.
سهل كوسوفو
لا يمكن للأوروبيين أن ينسوا أبدا هذا السهل، الذي شهد في 15يونيو/حزيران 1389الموافق لجمادى الآخرة 791هـ، موقعة حاسمة وفاصلة بين العثمانيين وجيوش الصليبيين المكونة من الجيش الصربي والألباني بقيادة الملك الصربي ستيفان أوروس الخامس، وكان حينها يسمى سهل “قوصوه”، وهو يقع على بعد خمس كيلومترات شمال غرب محافظة بريشتينا الحديثة.
الموقعة حدثت بسبب انزعاج ملوك أوروبا من توسعات الدولة العثمانية والتي كانت قد توغلت في القارة الأوربية حتى بلغت حدود دولة الصرب والبلغار وألبانيا وأحاطت بالقسطنطينية من كل الجوانب، فأرسلوا إلى البابا يستنجدونه فدعا ملوك أوروبا لحروب صليبية جديدة.
هذه الحرب، التي ستحمل اسم معركة “كوسوفو”، وستظل ماثلة في أذهان كل الأوروبيين حتى يومنا هذا، ستنتهي بهزيمة نكراء للصرب وحلفائها وانتصار الدولة العثمانية وبسط بالتالي سيطرتها على كل دول البلقان، وهو الشيء الذي أرعب الأوروبيين وجعلهم يتوجسون من توسع السلطان العثماني في أوروبا.
إن دول الاتحاد الأوروبي لا ترفض تركيا أو ديمقراطية تركيا، وإنما ترفض الطابع الإسلامي لحضارة وتاريخ دولة تركيا التي ظلت ولمدة قرون وحتى حدود 1924، مركزا للخلافة الإسلامية، فلا يمكن لأوروبا أن تقبل بدولة تقريبا معظم سكانها مسلمون، ومعظم معاملاتها وعاداتها وتقاليدها مستمدة من الكتاب والسنة.
وبقراءة متأنية ودقيقة لتصريحات بعض الزعماء السياسيين الأوروبيين، يمكننا أن نقف على هذه الحقيقة، التي تجعل دول الاتحاد الأوروبي تتعاطى بهذه الطريقة الملتبسة والغامضة مع الملف التركي، ومن هذه التصريحات تصريح رئيس حزب الحرية الهولندي خيرت فيلدرز، وهو عبارة عن تسجيل مصور نشره خلال العام 2015 على الموقع الإلكتروني لحزبه قال فيه إنه “لا يمكن أن تكون دولة مسلمة مثل تركيا جزءا من الاتحاد الأوروبي، فنحن لا نريد مزيدا من المسلمين، بل على العكس من ذلك نود أن ينقص عددهم بيننا”.
والإشارة واضحة في هذا التصريح، فرغم أن مؤسس تركيا الحديثة وبطلها القومي مصطفى كمال أتاتورك، غير وجه تركيا بالكامل، حتى يرضي القارة العجوز، بحيث ألغى عام 1924 الخلافة العثمانية وفرض مع بداية 1926 العمل بالتقويم الميلادي وألغى التقويم الهجري الإسلامي، وتبنى القانون المدني السويسري الذي يساوي بين الجنسين (المساواة في الميراث، الزواج المدني، حرية اختيار الدين، وإلغاء تعدد الزوجات)، وفرض السفور على النساء، وألغى عام 1928 الحروف والأرقام العربية واستبدلها بالأرقام والحروف اللاتينية إلى غيرها من الإجراءات، إلا أن أوروبا ما تزال تنظر إلى تركيا بعين الريبة والتوجس والشك وتضعها خارج حساباتها الخاصة.
هجوم إعلامي
وبالمختصر المفيد، فإن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه إذن أن يقبل في مجموعته ببلد مسلم مثل تركيا وذلك لأسباب سياسية واجتماعية وثقافية وتاريخية وحضارية، في حين من الممكن أن يقبل بعضوية أي بلد آخر شريطة أن لا يكون منتميا للعالم الإسلامي مثلما قبل بدولة قبرص ومالطا وجورجيا وصربيا ولتوانيا ولاتفيا وإيستونيا والتشيك وسلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا وغيرها، وهذا هو ما جعل الكثير من الباحثين والمهتمين والدارسين ينعتون الاتحاد الأوروبي بالنادي المسيحي.
حتى إعلام الاتحاد الأوروبي لم يرحم تركيا في تغطيته لانتخاباتها الأخيرة، بحيث أثارت مجلة “دير شبيغل” الألمانية مثلا غضبا واسعا عبر منصات التواصل الاجتماعي في تركيا، بسبب صورة غلاف عددها لهذا الأسبوع، الذي ظهر فيه الهلال العثماني ورمز الدولة التركية مكسورا، وعرش محطم يجلس عليه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، وهو ما رآه كثيرون إساءة كبيرة إلى تركيا.
وعنونت “دير شبيغل” الصورة المثيرة للجدل في غلاف عددها الأخير بـ”أردوغان، الفوضى أو الانقسام في حال الخسارة”، في إشارة إلى منعطفات خطيرة قد تشهدها تركيا بعد الانتخابات المقررة في 14 أيار/ماي 2023.
وتحدث المقال عما وصفه بـ”تراجع النفوذ التركي في المنطقة وفقدان تركيا مكانتها كقوة إقليمية”، وذكر بعض الأحداث التي قال إنها “تسببت في هذا التراجع” مثل الصراع في سوريا والعلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كما تطرق التقرير إلى حقوق الإنسان في تركيا، وقال إنها “تواجه انتقادات شديدة في هذا المجال فضلا عن اعتقال صحفيين وناشطين”.
بدورها، نشرت مجلة “لوبوان” الفرنسية تقريرا للصحفي غيوم بيرييه، قال فيه إن “الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى إلى تحقيق حلمه بالإمبراطورية تماما مثل فلاديمير بوتين”، متسائلا: “هل يمكن أن يخسر أردوغان الانتخابات المقبلة؟”
وبحسب الكاتب، فإن الزعيم التركي لم يقل كلمته الأخيرة، والحملة الانتخابية في تركيا يمكنها أن تشهد العديد من التقلبات والمنعطفات، مضيفا أن نتائج الانتخابات التشريعية ستكون حاسمة في تقرير مصير أردوغان الرئاسي.
من جانبها، خصصت مجلة “ليكسبرس” الفرنسية ملفا كاملا للانتخابات التركية ومستقبل أردوغان السياسي على المستوى الداخلي والدولي، وشبهت المجلة كمال كليتشدار أوغلو بالرئيس الأمريكي جو بايدن، فيما شهبت منافسه أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي مقال آخر، عنونت ليكسبرس “أردوغان – بوتين، ميثاق الحكام المستبدين”، واعتبر كاتب المقال أن الكرملين يناور من أجل إنقاذ الرئيس التركي قبل الانتخابات المقبلة، أما الدول الغربية، فاختارت الصمت وأظهرت عجزها أمام الوضع السياسي التركي.
وزعمت المجلة أنه “منذ بداية الغزو الروسي على أوكرانيا، قام الثنائي بوتين –أردوغان بتنظيم رقصات خفية.. القيصر يقصف المدنيين، والسلطان يتظاهر بأنه صانع سلام، لتصبح تركيا ممرا مفضلا للأموال الروسية القذرة ولاعبا رئيسيا في التحايل على العقوبات الغربية ضد موسكو”.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب