
نورهان محمد يوسف – باحث مشارك مركز “العرب للأبحاث والدراسات”
مقدمة:
في العصر الرقمي الحالي، أصبحت التكنولوجيا عنصرًا أساسيًا في تطور قطاع الإعلام، حيث تلعب دورًا جوهريًا في إنتاج محتوى رقمي يتماشى مع متطلبات الجمهور المتصل بالإنترنت. ومع تسارع الابتكارات التكنولوجية، لم تعُد الصحافة التقليدية بمعزل عن هذه التطورات، بل أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الأدوات الرقمية المتقدمة التي غيرت شكل الممارسات الصحفية وأساليب العمل الإعلامي. وفي هذا الإطار، برز الذكاء الاصطناعي كأحد أهم التقنيات الحديثة التي أحدثت نقلة نوعية في مجال الصحافة، حيث أسهم في إعادة تشكيل طريقة إنتاج الأخبار ومعالجتها ونشرها.
ولم يعُد استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام مجرد خيار، بل أصبح ضرورة حتمية تفرضها طبيعة العصر الرقمي، إذ مكَّن المؤسسات الإعلامية من تحسين عمليات جمع المعلومات وتحليلها، فضلًا عن تطوير أدوات متقدمة لإنتاج المحتوى وتوزيعه بطرق أكثر دقة وكفاءة، حيث شهد المجال الصحفي في السنوات الأخيرة تغيرات جوهرية نتيجة التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت هذه التقنيات من أكثر الأطر الابتكارية التي أثرت بعمق على الصناعة الإعلامية.
ووفقًا لأحدث الدراسات، فإن الذكاء الاصطناعي لم يقتصر على مجرد تسهيل العمليات الصحفية التقليدية، بل أضاف بُعدًا جديدًا جعل الأخبار أكثر استهدافًا ودقة، مما أثر على سلوك المستهلكين تجاه الإعلام الرقمي. وتشير التقارير الحديثة إلى أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الصحافة، أصبح أمرًا لا غنى عنه في مجالات تحليل البيانات الضخمة، وتحديد التوجهات الإخبارية، وتطوير نماذج التنبؤ بالمحتوى الأكثر جاذبية للجمهور.
ومن أبرز المجالات التي استفادت من هذه التقنيات هو إنتاج الأخبار الآلية، حيث بات بإمكان الخوارزميات الذكية إنشاء تقارير صحفية مستندة إلى البيانات خلال ثوانٍ معدودة، وهو ما يعزز من سرعة وكفاءة تغطية الأحداث، فضلًا عن ذلك، أتاح الذكاء الاصطناعي أدوات متطورة للتحقق من الأخبار ومكافحة المعلومات المضللة، وهو تحدٍّ بارز يواجه الصحافة الرقمية اليوم. إلى جانب ذلك، شهدت المؤسسات الإعلامية تطورًا في استخدام خدمات رقمية متقدمة لتعزيز تجربة المستخدم، وتوسيع نطاق التغطية الإخبارية، وجذب جمهور جديد عبر منصات متعددة. كما أن تقنيات الذكاء الاصطناعي لعبت دورًا رئيسيًا في تخصيص المحتوى، وفقًا لاهتمامات المتابعين، مما عزز من فاعلية التفاعل الإعلامي، وأسهم في بناء استراتيجيات جديدة لمستقبل الصحافة.
تحول غرف الأخبار باستخدام الذكاء الاصطناعي
أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من غرف الأخبار، حيث تستخدمه المؤسسات الإعلامية في أتمتة إنتاج الأخبار، لا سيما في المجالات التي تعتمد على البيانات مثل التقارير الاقتصادية والرياضية. وقد بينت الأبحاث أن هذه التقنية لم تقتصر على تسريع إنتاج المحتوى فحسب، بل ساعدت أيضًا في إعادة تشكيل بيئة العمل الصحفي، ما أتاح للصحفيين التركيز على الجوانب الإبداعية والتحليلية بدلًا من المهام الروتينية. كما أسهم الذكاء الاصطناعي في تخصيص المحتوى الإعلامي، إذ أصبح بإمكان الخوارزميات تحديد اهتمامات المستخدمين وتقديم الأخبار المناسبة لهم بناءً على تحليل سلوكهم الرقمي. هذا التطور لم يعزز فقط من تجربة المستخدم، بل جعل المؤسسات الإعلامية أكثر قدرة على استهداف الجمهور بفاعلية.
وعلى الصعيد المصري، يشهد قطاع الإعلام تحولًا ملحوظًا مع تزايد الاعتماد على التقنيات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار، بهدف تحسين جودة التغطية الإخبارية وتقليل التكاليف التشغيلية. أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا في مختلف مراحل صناعة الأخبار، بدءًا من جمع البيانات وتحليلها، وصولًا إلى إنتاج المحتوى وتقديمه للجمهور بأساليب أكثر تفاعلية. كما بدأت بعض المؤسسات الصحفية في توظيف تقنيات الواقع المعزز لربط المحتوى الورقي بنظيره الرقمي، مما يسهم في زيادة معدلات التفاعل مع الأخبار وتقديمها بشكل أكثر جذبًا ووضوحًا.
وفي الوقت ذاته، تساعد هذه التقنيات الحديثة الصحفيين في الوصول إلى أماكن يصعب تغطيتها ميدانيًا، مثل المناطق النائية أو ذات المخاطر الأمنية العالية، مما يسهم في تحسين دقة التقارير الإخبارية وتعزيز سلامة الصحفيين. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل المؤسسات الإعلامية المصرية على استكشاف إمكانيات الذكاء الاصطناعي في تحليل الأخبار المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف كشف الشائعات والمعلومات المضللة، وهو ما يعزز من مصداقية المحتوى الإعلامي. كما أن توظيف تقنيات التعلم الآلي يساعد في تخصيص المحتوى ليتناسب مع اهتمامات الجمهور، مما يسهم في تحسين تجربة المتلقي وزيادة التفاعل مع المواد الإخبارية.
دور الذكاء الاصطناعي في تحليل الأخبار والتأكد من صحتها:
من أهم الإسهامات الحديثة للذكاء الاصطناعي في الصحافة، تطوير أدوات متقدمة للتحقق من الأخبار والكشف عن المعلومات المضللة. تعمل هذه الأدوات على تحليل المحتوى الإخباري، ورصد الأنماط المشبوهة، والتأكد من صحة البيانات المتداولة عبر الإنترنت، حيث تعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي على خوارزميات متقدمة لتحليل البيانات الضخمة، ومقارنة المعلومات بمصادر موثوقة، واكتشاف الأنماط التي تشير إلى وجود تلاعب أو تحريف في الأخبار. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، انتشرت مقاطع فيديو تُظهر مشاهد حربية زُعم أنها حديثة، لكن أدوات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في تحليل الوسائط أكدت أنها مقاطع قديمة أُعيد نشرها خارج سياقها. كذلك، أثناء التصعيد بين إسرائيل وغزة عام 2023، انتشرت صور مفبركة لأحداث لم تقع فعليًا، حيث استخدمت برامج الذكاء الاصطناعي لإنشاء مشاهد زائفة، وهو ما كشفته أنظمة متطورة للتحقق من الصور والفيديوهات. وعلى الرغم من هذه القدرات المتقدمة، يواجه الذكاء الاصطناعي تحديات مثل تحيز البيانات التي يتم تدريبه عليها، واحتمالية الخطأ في تصنيف الأخبار، فضلًا عن اعتبارات الخصوصية والأخلاقيات الصحفية. ومع استمرار تطور هذه التقنيات، من المتوقع أن تلعب دورًا أكثر فاعلية في مكافحة التضليل الإعلامي، إلا أن العامل البشري سيظل ضروريًا لضمان دقة وموضوعية التحقق من المعلومات، مما يستوجب تطوير سياسات تنظيمية تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإعلامي.
التحيز والخوارزميات غير العادلة وتأثيرها في العدالة المعلوماتية:
يشكل التحيز في الخوارزميات أحد التحديات الخطيرة التي قد تؤدي إلى تضليل الإعلام وتشويه الحقائق، حيث تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على البيانات التي تُغذى بها، وإذا كانت هذه البيانات غير متوازنة أو منحازة، فقد تعكس نتائج مشوهة تؤثر على تشكيل الرأي العام. على سبيل المثال، أظهرت دراسات أن خوارزميات تصنيف الأخبار في بعض مواقع التواصل الاجتماعي تميل إلى تعزيز المحتوى المثير للجدل، مما يؤدي إلى انتشار المعلومات المضللة على نطاق واسع. كما أن بعض أنظمة التحقق من الأخبار قد تفشل في اكتشاف الأخبار الكاذبة التي تتوافق مع انحيازات مجتمعية أو سياسية معينة، مما يسمح بتمرير محتوى مضلل دون رقابة دقيقة.
ومن الأمثلة الواقعية على ذلك:
– فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” والتلاعب في الانتخابات الأمريكية (2016): كشفت تقارير أن “فيسبوك” استخدم خوارزميات سمحت بوصول الأخبار الكاذبة إلى ملايين المستخدمين، مما أثر على آرائهم السياسية. حللت الشركة البريطانية “كامبريدج أناليتيكا” بيانات المستخدمين المستخرجة من “فيسبوك”، واستهدفتهم بإعلانات سياسية موجهة، مما ساعد في نشر معلومات منحازة ومضللة أثرت على نتائج الانتخابات.
– جائحة كورونا (2020 – 2021): ساعدت خوارزميات “يوتيوب” و”فيسبوك” في انتشار نظريات المؤامرة حول الفيروس واللقاحات. فقد تم الترويج لمحتوى غير علمي يدعي أن فيروس كورونا ليس حقيقيًا، أو أن اللقاحات لها آثار جانبية مدمرة، مما أدى إلى تراجع معدلات التطعيم في بعض الدول.
– أزمة الحرب الروسية – الأوكرانية (2022): مع اندلاع الحرب، انتشرت أخبار مزيفة عبر الذكاء الاصطناعي، حيث تم استخدام برامج “التزييف العميق” (Deepfake) لإنشاء مقاطع فيديو مفبركة لزعماء سياسيين مثل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي ظهر في فيديو مزيف يدعو قواته للاستسلام، ما أدى إلى إرباك الرأي العام.
– تحيز “جوجل” في نتائج البحث: أثبتت عدة دراسات أن محرك البحث “جوجل” قد يظهر نتائج منحازة بناءً على الموقع الجغرافي أو اللغة، أو حتى الميول السياسية، حيث تم الكشف عن أن عمليات البحث حول بعض القضايا السياسية قد تؤدي إلى نتائج تختلف بناءً على الدولة التي يتم البحث منها، مما يوجه المستخدم نحو رؤية معينة.
– تمييز عنصري في الذكاء الاصطناعي: في عام 2020، كشفت تقارير أن خوارزميات التعرف على الوجه التي تستخدمها بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى كانت أقل دقة في التعرف على وجوه الأشخاص ذوي البشرة الداكنة، مما أثار مخاوف حول كيفية تمثيل الأعراق المختلفة في وسائل الإعلام.
هل سيؤثر الذكاء الاصطناعي على الصحفيين والمحررين؟
على الرغم من التطور المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإنه من غير المرجح أن يكون بديلًا كاملًا عن الصحفيين والمحررين، بل سيظل أداة مساعدة تعزز من كفاءة العمل الصحفي وتسهم في تسريع عمليات البحث والتحرير. ورغم قدرته على تحليل البيانات الضخمة، وتجميع المعلومات بسرعة، وإنتاج محتوى آلي في بعض المجالات، فإنه يفتقر إلى المهارات الإنسانية الأساسية مثل الحس النقدي، والإبداع، والقدرة على تقديم تحليل معمق للأحداث. وبالتالي، فإن مستقبل الصحافة لا يتجه نحو الاستغناء عن الصحفيين لصالح الذكاء الاصطناعي، وإنما نحو تكامل هذه التقنيات مع العمل البشري، بحيث يتم توظيفها لدعم الصحفيين في تحليل البيانات، وإنجاز المهام الروتينية، مع الإبقاء على الدور البشري في صياغة المحتوى، واتخاذ القرارات التحريرية، وضمان الالتزام بالمعايير الأخلاقية والمهنية. ومن ثم، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في تطوير الصحافة وتعزيز إنتاجيتها، لكنه لا يمكن أن يحل محل العنصر البشري بالكامل، خصوصًا في الجوانب التي تتطلب الإبداع والفهم العميق للسياقات الاجتماعية والسياسية.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب