رأي

د. عبد الرحمان الأشعاري يكتب.. اتقِ شر من أحسنت إليه

عندما كان العرب والمسلمون يصولون ويجولون في كل الربوع، ويحكمون مشارق الأرض ومغاربها، أظهروا قيما وروحا إنسانية عالية سواء على مستوى السلوك الأخلاقي الفردي أو على مستوى المعاملات، وبصموا على الكثير من المواقف الشجاعة والبطولية، وحركوا العالم طولا وعرضا ليتمثل هذه القيم وهذه المواقف.

صفحات مشرقة ومميزة تتضمن العديد من النقط المضيئة سجلها التاريخ لفائدة العرب والمسلمين في علاقاتهم الدولية مع باقي الشعوب والأمم والأجناس العرقية الأخرى في حالتي الحرب والسلم وعلى امتداد أزيد من اثنى عشرة قرنا من الزمن.

مواقف تاريخية

من الأمور التي تثير الدهشة والاستغراب ونحن نعاين ما يجري حاليا على أرض فلسطين وقطاع غزة على وجه التحديد من عدوان، هو أن العرب والمسلمين كانوا تاريخيا وفي الكثير من الأحيان سببا في إنقاذ اليهود من التشرد والاضطهاد والتنكيل والموت، فقد آووهم وآزروهم ونصروهم ووفروا لهم الأمن والطمأنينة وكل أسباب العيش والحياة.

لقد ظل اليهود يعيشون لقرون عديدة في البلاد العربية بسلام، وعبر كل العصور، وكانوا في كل مرة يضطهدون فيها أو يحاصرون يستنجدون بالعرب والمسلمين، وسأكتفي في هذا الإطار بعرض بعض الاستشهادات التاريخية، ومن ذلك ما ذكره أحمد الطاهري في كتابه “عامة قرطبة في عصر الخلافة” الصفحة 20، لقد كان اليهود في المجتمع الإسباني قبل الفتح العربي الإسلامي “..موضع البغض والتعصب والتحامل يعانون أشد ألوان الجور والاضطهاد وكانت الكنيسة منذ ان اشتد ساعدها ونفوذها تحاول تنصير اليهود وتتوسل الى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة فأجبروا على اعتناق الديانة أو النفي من البلاد أو المصادرة فاعتنق النصرانية عدد منهم كرها أو رياء ولما اشتدت الضغوط على اليهود حاولوا أن يديروا مؤامرة للقضاء على الحكم القائم إلا أن المؤامرة اكتشفت فزاد الضغط على اليهود وانتزعت أملاكهم في سائر الولايات الإسبانية وشردوا وقضي عليهم بالرق للنصارى وأن ينتزع أبناؤهم منذ السابعة ويربون على النصرانية”.

لكنهم بعد الفتح الإسلامي وفي ظل الحكم الأموي، يشير الكاتب والباحث عبدالمطلب مصطفى رجب في كتابه “أهل الذمة في الأندلس” الصفحتين 29 و30، تمتعوا “بتسامح كبير لم تحظ به كافة الطوائف الدينية الأخرى وكان السبب في ذلك يعود الى مؤازرتهم للعرب الفاتحين أثناء عمليات الفتح وقد انتشرت الجماعات اليهودية في معظم المدن الأندلسية كغرناطة ومارده حيث كانت أعدادهم كثيرة وفي قرطبة وجد الحي اليهودي في المدينة بجوار قصر الحاكم والمسجد الجامع كما أطلق على الباب الشمالي إسم باب اليهود وبجوار هذا الباب الشمالي يوجد طريق يتجه ناحية الشمال الشرقي نحو حضيرة خاصة لليهود وهناك في مدينة اشبيلية أعداد منهم على أن أكبر تجمع لهم كان في مدينة إليسانه وأطلق على رئيس الجالية اليهودية اللقب العبري (ناجد) الذي كان يعين من قبل الحاكم في قرطبة وكان كنيس العبادة الخاص لهم يسمى (شنوعة) له أموال كثيرة وأحباس يحبسها أبناء الطائفة للإنفاق عليه ولقد مارس اليهود في المجتمع الاندلسي مهنا كثيرة وبرعوا في ميادين مختلفة حتى أنهم شغلوا مناصب هامة في الدولة”.

وبذلك يكون العرب والمسلمون قد ضمنوا لليهود مجموعة من المكتسبات المهمة أبرزها، رفع الاضطهاد والذل عنهم بإعادة معظم المتنصرين منهم الى دينهم، والتعامل معهم بكل رفق ووفق الأحكام الشرعية الخاصة بأهل الذمة، كما سمحوا لهم بالبقاء على دينهم وممارسة شعائرهم، وأتاحوا لهم حرية السكن بين المسلمين أو في أحياء خاصة بهم، وأيضا تركوا لهم حرية مزاولة ما أرادوا من أنواع النشاط الاقتصادي، وحفظوا لهم أرواحهم وأموالهم وحقوقهم، وشهدوا عدلا وتسامحا وحرية لم يعرفوا مثيلا لها سواء من قبل أو من بعد.

محاكم التفتيش

وبعد انتهاء حكم العرب والمسلمين في الأندلس خلال العام 1492، تعرض اليهود مثل ما تعرض العرب والمسلمون للاضطهاد والنفي والطرد من إسبانيا بعدما قضوا هناك ما يربو على الثمانية قرون عاشوا خلالها كل أشكال وأساليب التحضر والتمدن، وخلفوا حضارة ما تزال إلى اليوم شاهدة على تفوق العرب والمسلمين وبراعتهم في جميع الميادين المعمارية منها والعلمية والثقافية والأدبية والفنية وغيرها..

وهربا من بطش الإسبان الكاثوليك وتحديدا من إيزابيلا وقساوستها ومحاكم التفتيش، توجه جزء من هؤلاء اليهود إلى المغرب الأقصى وهو ما اصطلح عليه في المراجع العبرية بموجة الهجرة الثانية، فيما كانت الهجرة الأولى حسب المراجع نفسها، بعد تدمير الهيكل الثاني في القدس، تقول هذه المراجع “هاجر اليهود الأوائل إلى هذه المنطقة (المغرب الأقصى) بعد تدمير الهيكل الثاني في القدس، أما الموجة الثانية فقد هاجرت من شبه الجزيرة الإيبيرية مباشرة بعد مرسوم الحمراء عام 1492، عندما تم طرد اليهود من ممالك إسبانيا والبرتغال”، بحيث أن سقوط الأندلس كانت فاجعة حقيقية بالنسبة للمسلمين واليهود معا.

الجلاء من الأندلس سيمكن اليهود من جلب عاداتهم وتقاليدهم وحرفهم ومعارفهم، واحتلال أغلبهم مكانة متميزة في المجتمع المغربي، منهم من دخل إلى الإسلام، ومنهم من حافظ على عقيدته الأولى، وضلوا يعيشون في كنف السلطان معززين مكرمين، ووفقا لقواعد النظام القانوني الإسلامي، كانت لهم محاكم قانونية منفصلة تتعلق بـ”قانون الأحوال الشخصية”، والتي بموجبها يطبقون الشريعة “الموسوية”، وأحكامهم الشرعية المستنبطة من الفقه التوراتي ومن التلمود، والذي كان الفضل في إعادة إحيائه وتعليمه واستنباط الأحكام منه يرجع إلى يهودي مغربي يدعى “إسحاق الفاسي”.

أما الجزء الآخر من اليهود (السفارديم) فقد توجه إلى الدولة العثمانية، التي رحبت بهم وسمحت لهم بالعيش في أراضيها، معتبرين أن ذلك مكسبا حقيقيا منحهم الحياة وفرصة للحفاظ على موروثهم الديني.

وفي هذا الصدد قال موريس ليفي، عضو مجلس الجمعيات الوقفية وممثل المؤسسات الوقفية للأقليات الدينية في الجمهورية التركية، “إن إسبانيا نفت اليهود عام 1492 إلى الدولة العثمانية، التي منحتهم حق العيش على أراضيها”، مضيفا في تصريح لوكالة الأناضول بمناسبة الذكرى السنوية الـ527 لنفي اليهود من الأندلس إلى الأراضي العثمانية، “أن منح العثمانيين لليهود حق العيش على أراضيهم أنقد حياتهم، ذلك أنهم واجهوا صعوبات كبيرة هددت كيانهم ووجودهم إبان الامتداد المسيحي باتجاه الأندلس في العصور الوسطى، وأن بقائهم في إسبانيا خلال تلك الحقبة، كان سيعرضهم للقتل أو إجبارهم على تغيير دينهم”.

وأضاف “عاش اليهود بأمان في بلاد الأندلس لعدة قرون في ظل الدولة الأموية، حتى سقوطها بيد الإسبان وتعرضهم لحملات إبادة دفعهم نحو الهروب إلى الدولة العثمانية التي شيدت أركانها وفق المنظور الحضاري الإسلامي”، لافتا في ذات التصريح، إلى أنهم عاشوا في الأندلس كرعايا للدولة الأموية الأندلسية، وأنهم جلبوا إلى الدولة العثمانية التقاليد والثقافة الأندلسية والمنظور الغربي، وأن المطبعة أهم ما جلبوه، واستفادوا من وجودهم في كنف الدولة العثمانية بشكل كبير جدا.

شهادات ومسيرات

واليوم وبعد أن اشتد عودهم وصار لهم كيان وجيش وترسانة عسكرية بدعم مباشر وعلني من العم سام والغرب، تنكر يهود “إسرائيل” لكل ذلك ثم تغولوا وعاثوا في الأرض فسادا وقتلا وذبحا وسفكا لدماء من كان يحسن إليهم بالأمس، يستهدفون كل شيء في فلسطين، حتى الشجر والحجر والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات وسيارات الإسعاف وغيرها..، لا يميزون بين الصغير والكبير والرجال والنساء والشيوخ والعجزة والمرضى، بل إنهم يقتلون حتى الصبيان والأطفال الرضع وحديثي الولادة أمام مرأى ومسمع من الجميع.

وحده ضمير العالم خرج يندد ويستنكر في مسيرات احتجاجية ويكذب الروايات الصهيونية الملفقة والمضللة التي ينشرها الإعلام الغربي والأمريكي المتواطئ، يحركه في ذلك إما وحدة الدين واللغة والتاريخ، أو القاسم الإنساني المشترك والمقصود باقي سكان العالم بما في ذلك بعض الطوائف والجماعات اليهودية المناهضة للكيان الصهيوني، مثل ما جرى أخيرا بواشنطن عندما اقتحم عدد من يهود منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” مبنى الكونغرس، مرددين هتافات وخطابات مؤيدة للحق الفلسطيني، ومنددين بالعدوان على قطاع غزة وأيضا بسياسة أميركا الداعمة لـ”إسرائيل”.

ورغم الحصار والتضييق من جهة، والتجييش في مختلف المنابر الإعلامية والثقافية في كل دول الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، من أجل دعم الكيان الصهيوني وحكومته اليمينية الفاشية في محاولة لإسكات هذا الضمير العالمي، إلا أن كل ذلك لم يجد نفعا، فقد خرجت نخبة من الباحثين والمفكرين والسياسيين والرياضيين والفنانين.. وعبرت بكل صراحة عن رأيها، ومن هؤلاء السياسي الفرنسي، مانويل بومبار Manuel Bompard الذي قال إن “تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي غير مقبولة، إن الحصار المفروض على منطقة يعيش فيها أكثر من مليوني شخص من دون أي إمكانية للفرار هو جريمة حرب يجب على الحكومة الفرنسية أن تخرج عن صمتها”.

جيرار ميلر Gerard Miller، الكاتب والمخرج والممثل المسرحي والسينمائي يصرح خلال ندوة على القناة الفرنسية 5 “لقد كنت دائما مناصرا لفلسطين، وأشير إلى العذاب الفلسطيني وأسلوب تعامل المستوطنين معهم في الضفة، وأسمعهم يتحدثون عن العرب في إحدى القنوات الإسرائيلية ولا أصدق ما أسمع، تماما كما تحدث النازيون عن اليهود، يتحدثون عنهم كحشرات خالصة يجب القضاء عليها”.

الخبيرة الفرنسية في شؤون الشرق الأوسط، آنياس لوفالوا Agnès Levallois، تقول إنه “لا يجب فصل العملية التي قامت بها حماس عن التاريخ منذ 1948، هناك نفي لوجود الفلسطينيين وهناك عنف ممارس ضدهم منذ سنوات عبر المستوطنين وعبر قضم أراضيهم، بسبب الاستيطان والطرق الالتفافية، وكل هذا العنف الممارس ضد الفلسطينيين يفضي إلى أن عملية حماس لم تنطلق من الفراغ، بل من تسلسل العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد القرى والمزارع الفلسطينية ويقتلون الفلسطينيين، وهذه هي الحقيقة التي يجب أن تؤدي إلى الجلوس إلى الطاولة”.

إن ما يجري في فلسطين وتحديدا في القطاع يستلزم كما أكدت إيوني بيلاراIone Belarra، وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بالإنابة، تقديم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، متهمة في رسالة مصورة “الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بالتواطؤ في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل” في قطاع غزة، حسبما نقلت صحيفة إلموندو.

وقالت بيلارا إن “إسرائيل تنفذ إبادة جماعية ممنهجة في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وترتكب جرائم حرب عبر قصف السكان المدنيين، وهو ما يمثل عقابا جماعيا وانتهاكا للقانون الدولي”.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى