إدريس أحميد يكتب.. لبنان بين خيارين “إنهاء المقاومة أو الوعود الأمريكية في ظل انعدام الثقة”

لبنان، ذلك البلد الصغير بمساحته، الكبير بتاريخه، والغني بتنوعه، مرّ بمحطات تاريخية وسياسية عميقة، جعلت منه بؤرة للتجاذبات الإقليمية والدولية، ومنصة دائمة للصراع، رغم ما يمتلكه من إرث حضاري وإنساني وثقافي عريق.
اقرأ أيضا: الشام والعراق في أسبوع.. سوريا تسعى لإعادة بناء مؤسساتها والأزمات مستمرة في لبنان
لبنان منارة الشرق
شكّل لبنان خلال القرن العشرين مركز إشعاع ثقافي وفكري في العالم العربي، وعُرف بـ”باريس الشرق” بفضل انفتاحه، وازدهاره الاقتصادي، وتعدده الديني والثقافي. وعلى الرغم من وقوعه تحت الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، فقد حافظ على هويته العربية، وكان مركزًا للمصارف والسياحة والثقافة.
جبهة للمقاومة وبداية الانقسام
مع تصاعد الصراع العربي–الإسرائيلي، تحوّل لبنان إلى قاعدة للمقاومة الفلسطينية، خصوصًا بعد انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إلى بيروت. غير أن هذا الوجود أثار انقسامات داخلية بين مؤيد ومعارض، وسرعان ما تطورت الخلافات إلى نزاع مسلح، انقسم فيه اللبنانيون طائفيًا وسياسيًا، واندلعت شرارة الحرب الأهلية عام 1975.
التدخل السوري: نهاية الحرب أم فرض السيطرة؟
دخلت القوات السورية لبنان عام 1976 ضمن ما سُمّي بـ”قوات الردع العربية”، وتمكنت من فرض تهدئة مؤقتة. لكن سوريا سرعان ما تحولت إلى لاعب رئيسي مهيمن على مفاصل الحياة السياسية والعسكرية، من خلال دعمها لحركات لبنانية مثل حركة أمل، حزب الله، الحزب التقدمي الاشتراكي، وتيار المردة، إضافة إلى فصائل فلسطينية.
هذا التدخل لم يرق للأطراف المسيحية، فتصاعدت حدة الاغتيالات السياسية، منها اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل، الذي وُجّه الاتهام فيه للنظام السوري.
الاجتياح الإسرائيلي ومجزرة صبرا وشاتيلا
في عام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت، بحجة القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح. وخرجت منظمة التحرير إلى تونس، لكن الاجتياح تخلله مجزرة صبرا وشاتيلا بحق اللاجئين الفلسطينيين، والتي تبقى جريمة مروّعة في الذاكرة الجماعية العربية واللبنانية.
اتفاق الطائف: إنهاء الحرب وتكريس المحاصصة
بعد سنوات من القتال، جاء اتفاق الطائف عام 1989، برعاية السعودية وتوافق إقليمي ودولي، ليضع حدًا للحرب الأهلية. نصّ الاتفاق على توزيع السلطات طائفيًا:
رئاسة الجمهورية للمسيحيين
رئاسة الحكومة للسنة
رئاسة البرلمان للشيعة
رغم أنه أنهى الحرب، إلا أن الطائف كرّس نظام المحاصصة الطائفية، وهو ما اعتبره كثيرون حلًا مؤقتًا وهشًا، لا يليق بدولة تملك هذا القدر من التاريخ والثقافة.
الهيمنة السورية ومرحلة الاغتيالات
في التسعينيات وحتى 2005، استمرت الهيمنة السورية، وسيطرت دمشق على القرار اللبناني، ما أدى إلى سلسلة اغتيالات طالت زعماء بارزين مثل: كمال جنبلاط، رينيه معوض، رشيد كرامي، وإيلي حبيقة. كما شنت سوريا حربًا على العماد ميشال عون، وأجبرته على الخروج إلى فرنسا، بعد خلافه مع النظام السوري ورفضه هيمنته.
اغتيال الحريري وخروج القوات السورية
في 14 فبراير 2005، هزّ لبنان اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ما أدى إلى انتفاضة شعبية عُرفت بـ”ثورة الأرز”، انتهت بخروج الجيش السوري من لبنان بعد ثلاثين عامًا من التواجد.
المقاومة اللبنانية: بين الدعم والرفض
رغم الانقسامات، برز حزب الله كمقاومة فعّالة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وحقق تحرير الجنوب عام 2000 دون قيد أو شرط. ثم واجه حرب تموز 2006 التي شنّتها إسرائيل بعد أسر جنودها، والتي انتهت بتعزيز مكانة الحزب داخليًا وإقليميًا.
غير أن سلاح الحزب بات محل جدل داخلي، بين من يراه ضرورة وطنية، ومن يراه عاملًا لتقويض الدولة وجرّها إلى الحروب.
العدوان الإسرائيلي الجديد ومحاولة تصفية المقاومة
بعد عملية “طوفان الأقصى” في فلسطين، شنت إسرائيل حملة أمنية وعسكرية موسعة ضد حزب الله، بدأت بـ”عملية الهواتف البورجر”، وجاء اغتيال الأمين العام حسن نصر الله بمثابة ضربة هزّت البنية القيادية للمقاومة، ومهدت الطريق لمزيد من الاغتيالات والقصف لمواقع استراتيجية.
رغم الخسائر، لم تستسلم المقاومة، لكنها أصبحت في موقف دفاعي صعب، وسط تعاظم الضغوط الدولية والداخلية لنزع سلاحها.
سلاح الفصائل الفلسطينية وتأزم الوضع الأمني
في ظل الانقسام الداخلي وتعدد مصادر السلاح، بقيت بعض المخيمات الفلسطينية خارجة عن سلطة الدولة، تشهد اشتباكات بين الفصائل تهدد الأمن والاستقرار. وفي خضم المساعي لتسوية شاملة، تم الاتفاق على جمع سلاح الفصائل الفلسطينية التي تتقاتل داخل هذه المخيمات وتؤجج التوتر، في خطوة هدفها تعزيز سلطة الدولة وإنهاء أي مظاهر مسلحة خارج إطار الشرعية.
الضغط الدولي وتشكيل حكومة دون محاصصة
في خضم الأزمة، تم انتخاب رئيس جديد وتكليف رئيس حكومة تحت ضغط أميركي وفرنسي، مع وعود بإنعاش الاقتصاد مقابل تحجيم دور المقاومة. لكن حزب الله وحلفاءه رأوا في ذلك استسلامًا مشروطًا، وسط اتهامات للرئاسة والحكومة بالخضوع للإملاءات الأميركية والإسرائيلية.
لبنان في اختبار وجودي
اليوم، يقف لبنان على مفترق طرق خطير:
الخيار الأول: إنهاء المقاومة وتطبيق الشروط الأميركية، مقابل علاقات اقتصادية ودعم مالي تحتاجه البلاد بشدة، لكنه يفتقر للضمانات.
الخيار الثاني: الإبقاء على سلاح المقاومة، مع ما يترتب عليه من عزلة، وعقوبات، وربما تصعيد عسكري جديد.
خاتمة: دولة في امتحان
في ظل غطرسة السياسة الأميركية، والدعم غير المحدود لإسرائيل، وغياب الثقة بين مكونات الداخل، تواجه الدولة اللبنانية امتحانًا صعبًا، قد يتطور إلى ما لا يُحمد عقباه.
فالمقاومة ترفض التفريط بسلاحها، وترى في أي تسوية أميركية محاولة مكشوفة لتجريد لبنان من عناصر قوته. أما الدولة، فممزقة بين الضغوط الاقتصادية من الخارج، والانقسامات الطائفية من الداخل.
إنه مخاض لبناني جديد، لا يمكن أن يُحسم إلا عبر مشروع وطني شامل، يوازن بين السيادة، والمقاومة، والاستقرار، والسياسات الصهيونية التوسعية المدعومة من الولايات المتحدة.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب