أحمد شعبان يكتب.. إشكالية الاختلاف 3
انتهينا في العدد السابق من أسباب الاختلاف، ومن جانب آخر فاللفظ وعاء للمعنى، واللسان والفكر وجهان لعملة واحدة، أو صنوان كما يقولون، وبالرغم من ذلك يقرون ويعترفون بأن استخداماتنا للغة لا تتماشى مع المنطق العقلاني، وعليه ألا تكون النتيجة أن فكرنا لا يتماشى مع المنطق بالتبعية؟ وحددنا لكل لفظ أكثر من معنى في تعاملاتنا وسحبنا ذلك الاستخدام على ألفاظ القرآن الكريم.
اقرأ أيضا: أحمد شعبان محمد يكتب.. إشكالية الاختلاف 2
ومن هنا حددوا ثلاثة استخدامات لألفاظ العربية:
1- إما أن يكون اللفظ له معنى واحد محدد بدقة ولا يختلف في أي سياق، وهذا الاستخدام نراه بالنسبة للألفاظ الشائعة التي لا لبس فيها، والتي توصف بأنها قاطعة الدلالة.
2- وإما أن يكون للشيء الواحد أكثر من لفظ يدل عليه، وذلك حين تتعدد المعاني الجوهرية التي يحتويها فيطلق على الشيء الواحد ألفاظ متعددة تتحدد حسب السياق الذي نريد معه إظهار هذا المعنى أو ذاك.
3- وإما أن يكون للفظ الواحد أكثر من معنى يدل عليه، وذلك حين يكون هناك التباس في المعنى لا يتوافق مع مذهب المفسر، فيستخدم المعنى الذي يريد ليتماشى حسب السياق ويستخدم معنى غيره ليتماشى مع سياق آخر، وهو ما يقال عنه ظني الدلالة.
فالاستخدامان الأول والثاني استخدامات صحيحة وردت في القرآن الكريم، أما الاستخدام الثالث الذي سحبناه على ألفاظ القرآن الكريم فهو الذي أوقعنا في الارتباك وتعدد المعاني للفظ الواحد، وكثرت التفسيرات وتعددت، كما لو أن هذه التفسيرات نظريات احتمالية نتعامل معها كأنها حقائق ثابتة، وكل فريق يأخذ بالتفسيرات التي على هواه أو التي تتماشى مع رؤيته، وألزم تابعيه على الأخذ بما ذهب إليه، وبذلك تفرقت الأمة وأصبحت على هيئة فرق ومذاهب تتعارض مصالحها حسب تنوع رؤاها إلى الحد الذي نراه أو نسمع عنه منذ صدر الإسلام وحتى الآن.
وللأسف سحبنا هذا الاستخدام على القرآن الكريم، وتناسينا أن هذا الكتاب من عند من يعلم السر وأخفى، فهذا الكتاب له سمتان أساسيتان لا توجدان في أي كتاب آخر “العلم المطلق وألفاظه تعبر عن المعنى الحقيقي لما تحتويه الأشياء”، إنه كتاب فصل على “علم مطلق وليس علم البشر النسبي”، “ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون” (الأعراف 52)، ومعنى هذا أن القرآن الكريم كتاب علم في منهجه ومحتواه، وهو الذي قال عنه الخالق جل وعلا: “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد” (فصلت 42)، فكلمة الله تتمثل بأمره، انظر إلى قوله سبحانه: “إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” (آل عمران 47).
وسيدنا عيسى عليه السلام هو كلمة من الله، وعليه فألفاظ القرآن الكريم تحمل معناها الحقيقي داخلها كما أنه علم مطلق، وهذا الفارق ولا غيره يفرق بين اللفظ القرآني واللفظ الإنساني.
من هنا وجب علينا حين التعامل مع القرآن الكريم أن نتعامل معه بالمنهج العلمي ولا غيره، والمنهج العلمي يحتم علينا أن نتعامل مع كل لفظ بمعنى واحد محدد بدقة كما في الألفاظ العلمية مع الفارق، لأن الألفاظ العلمية تعبر عن الشيء فقط كمدلولات اصطلاحية، ولا يحمل اللفظ معناه الحقيقي داخله كرموز الكيمياء مثلا أو الألفاظ الاصطلاحية المتفق عليها من الجميع ولا يوجد حولها لبس ولا غموض.
فكيف السبيل إلى ذلك؟
لا بد من التعرف على النسق القرآني، الذي يجعلنا نتعامل مع القرآن الكريم ككل موحد، بمنهج علمي منطقي لا حيود ولا شذوذ فيه.
تقديم للنسق
للتعرف على المعنى الدقيق للفظ يجب حصر كل الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ، ثم افتراض أقرب المعاني للصحة، ثم يتم اختبار هذا المعنى في كل الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ مهما كان عددها، فإن استقام اعتبرنا هذا المعنى صحيحا، وإن شذ أو حاد في أي آية أو أكثر اعتبرنا هذا المعنى غير صحيح، ونعيد النظر حتى نصل إلى المعنى الذي يتفق مع كل الآيات التي ورد فيها اللفظ.
مع الأخذ في الاعتبار “التجريد” تجريد المعنى من التحديد أو التشيئ بمعنى أن نخرجه من الأشياء التي يتمثلها، فلا نحجمه داخلها، بل هي تدخل في إطاره مع أشياء أخرى، وبذلك أيضا نقضي على ما يعرف بالمجاز في القرآن الكريم، لأن ألفاظه جميعها ألفاظ حقيقية لا مجاز فيها.
وما دمنا نعيش نحن المسلمين مختلفين فهذا يعني أننا لم نصل إلى المستوى الثقافي وعلى مدى تاريخنا كله الذي يمكننا من التوحد رغما عن كل المحاولات التي تمت في هذا السبيل، وهذا يعكس مدى التخلف الذي نعيشه ويعكس أيضا المطامع التي أراد أصحاب الشأن في هذه الأمة أن يحوزوها سواء بالحق أم بالباطل.
تم بحمد الله.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب