أحمد جويلي: تاجر حرب
إذا كنا قد نبهنا سابقاً وقدمنا مع غيرنا بإسهام كبير في رفع مستوى الوعي عن أنواع وأجيال الحروب المختلفة، وأكدنا على أن القادم حروب الهوية وهي حروب لا تقبل القسمة على اثنين، كما أنها لا تحتوي على أي مجال للرفاهية أو الانتظار، ومن ثم قياس ردود الأفعال، لذا علينا أن نعترف أننا أمام حرب غير مسبوقة، ليس لكونها بين قطب كبير وهي روسيا الاتحادية في مواجهة مباشرة مع أوكرانيا بالوكالة عن الناتو أو الحلف الغربي برعاية أمريكية ليعود العالم مرة أخرى بقسمته المعتادة لموازين القوى التي تغيرت بعد معاهدة كامب ديفيد، ولكن الآن ولأول مرة منذ إعلان انهيار جدار برلين محور الصراع ليس الشرق الأوسط كالمعتاد، الآن نرى أنها حرب مختلفة تماما وفارقة، وإن اتخذت الطابع الكلاسيكي، حيث استخدم فيها الرصاص والذخيرة الحية، ولكنها ذخيرة فيها الكثير من الحسابات والحذر!
ويبدو أن التجار الكبار مالكي مقاليد التحكم في هذا العالم الكبير قد سئموا من العبث في دوائر الصدام في الشرق وقرروا توسعة دائرة الصراع ليكون الشرق هدفا، ولكن بمحاور غير تقليدية تشق طريقها عبر إضعاف الكتل العالمية التي لم تستطع تنفيذ المرجو منها في هذه الحقبة الزمنية.
وعملاً بالقول المأثور عن سهيل بن عمرو حين قال: “هو التاجر في سلم أو حرب.. أعظم المكاسب أو أقل أشكال الخسارة!”
هنا يكمن عمق الصراع أن الأمر ليس مجرد صدام يصل إلى حد الصراع بشكل يمثل تهديداً على المجتمعات والأبرياء في كل مكان على الأرض.
إن الحروب بأشكالها هي عبارة عن توازنات اختل نظم إيقاعها العام، والمستفيد هو التاجر في البداية والنهاية، لأن في البداية عند اختلال الإيقاع الذي يحفظ السلام ويثير الأطماع، ستحتاج إلى سلاح يضمن لك التفوق والجانب المقابل يحتاج نفس الشيء ليضمن الاستواء والحفاظ على حالة الاستقرار، إذا المستفيد هنا هو التاجر من يصنع السلاح ويبيعه، والسبب هو من لم يقم بتحجيم شهوة الأطماع أو السيطرة بداخله، وأثناء الحرب ستحتاج إلى تاجر كي يقوم بإمدادات الدواء للمصابين، وبعد الحرب بالطبع تحتاج إلى تاجر كي يقوم بإعادة الإعمار، ناهيك عن التاجر الخفي الذي يقتات على حروب التجارة الخفية أثناء سقوط الأنظمة وعدم الاستقرار، سواء في المخدرات أو تمرير الإرهابيين أو الإتجار بالبشر.
إذا هو التاجر في سلم أو حرب.. التجار في كل مكان وكل زمان هم من يملكون حق إدارة اللعبة العالمية، وإذا سلمنا بنظرية الأجيال الأربعة للحروب التي تقول إن الجيل الأول منها هي الحرب الكلاسيكية بالسيوف والرماح، حتى ظهور عصر النهضة وابتكار الأسلحة الحديثة فبدأ الجيل الثاني من الحروب، مروراً بحرب أكتوبر عام ١٩٧٣ والتي أكدت للعالم بأسره أنه لا توجد ثوابت حتى وإن اختلت موازين القوة العسكرية وصراع التسليح، فأظهرت الحاجة الماسة لتعديل النظم الحربية من العسكرية إلى الاجتماعية، كونها أقل كثيراً في التكلفة وأكثر انتشاراً وأسرع تأثيراً إذا كانت تقوم على أساس عرقي ومذهبي وأعني “شيعة وسنة”، “مسلم ومسيحي ويهودي”، “اليهود واليهودية والصهيونية”، “أبيض وأسود البشرة”، “العرق الآري وباقي الأجناس” وهكذا تطورت النظرية في فلك الطائفية المتطرفة في نظم جديد من إيقاع الجيل الثالث من الحروب، وصولا إلى الشائعات والثورات الملونة المشبوهة في جيل رابع وخطير من الحروب والتي يساعدها الفساد والإفساد “وشتان الفارق”، ناهيك عن عجز الحكومات عن إدارة السياسات العامة والسيطرة الاجتماعية وبث المتنفس الكافي ومساحات التعبير عن الرأي والتوجيه الإعلاني والإعلامي الفارق “وشتان الفارق”، والإثبات على صحة هذه التحركات التي انطبقت نفسيا واجتماعياً وعسكرياً في الحرب الروسية الأوكرانية، التعريف الأساسي للأمن القومي هو: “قدرة الدولة على حماية قيمها الداخلية”، أي أن الحفاظ على قيمك الذاتية العليا وتدعيم نفوذك هو عمق الحفاظ على الأمن القومي للدولة ككل، إذا هل ما فعلته روسيا هو منطق طبيعي للحفاظ على أمنها القومي!؟
لن أجيب عن هذا السؤال إلا بعد استعراض الجزء الأهم من تعريفات الأمن القومي والتي يجب تفعيلها لتعزيز قدرات الأمن القومي الداخلي للدول ألا وهو: “محاولة التأثير وتوسيع دائرة النفوذ بل ومحاولة تغيير سلوك الدول المحيطة”، أي أنه التأثير العام وتغيير السلوكيات لتكون سلوكيات متعاونة على المدى البعيد ومحو كافة التدخلات التي قد تضمن سلوكا عدائيا في المستقبل تجاه الدول المجاورة، وهكذا استشعرت روسيا التهديد المباشر عبر تحولات في المعادلة الإقليمية الدولية بداية من المخاوف والمخاطر مروراً بالتحدي الجسيم وصولاً إلى التهديد الذي استوجب التدخل العسكري.
وأنا هنا لست لتحليل من على صواب أو على خطأ فكلاهما لهما حساباتهما الخاصة في معادلة الأمن القومي وخاصة روسيا كونها المنافس الأزلي للولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي “ناتو”، ولكن ما أريدك أن تعرفه أن قرار الحرب ليس وليد اللحظة، بل إنه مطروح دوما على الطاولة الكبيرة من أجل الاستمرار، ولكن يتم طبخه على نار هادئة، وإقراره ليس من باب الاستعراض، بل يعني أنه قد مر بدراسات وقياسات مختلفة، وحتى تتحدث عليك أن تعرف أن أوروبا منطقة خالية من الموارد وتعتمد على الغاز الطبيعي، وعليك أن تتفهم أن أكثر من ٦٠% من استيراد الغاز لكل المحور الغربي وتحديداً ألمانيا قاطرة أوروبا الاقتصادية يأتي من روسيا، يعني أن التدخل الغربي في الحرب بشكل عسكري أمر مستبعد، وهنا نستطيع أن نتفهم أن عوامل الحسم والسيطرة على هذه الحرب، هي التجارة، ومن سيتكسب من خلال الأزمة الاقتصادية العالمية التي ستليها أيضا تاجر من نوع آخر!
وهنا وبنظرة أكثر قرباً في داخل هذه الأزمة، نجد أنه تم العبث في المعادلات التي تبقي الوضع الراهن كما هو دون محفزات للتدخل العسكري، فهناك يد عليا أقرت بأن يكون هناك تقارب غير متوازن من أوكرانيا يقر المبدأ العام الواضح لتكون بشكل جلي أوكرانيا وكيلا متصدرا لمشهد الصراع بين المعسكر الشرقي والغربي!
فلا أتصور عقلا في الكون يقبل بأن يكون محور صراع هو ليس جزءا منه من الأساس، من يقبل أن يخوض حربا بالوكالة عن حلف عسكري بالكامل أمام معسكر شرقي بقيادة روسيا والصين!؟
هل يوافق حرب غير متكافئة عسكريا وسياسياً إلا إذا كان هناك من يدفعه حدفا إلى الهلاك؟
هي ليست حربا عالمية بالرغم من كل الأحداث، لكن في تقديري أن الأمر ما زال يدور بحذر وطاولة الشطرنج التجارية تسيطر على الأمر.. نعم نحن أمام نتائج تُظهر بشكل غير مسبوق أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على إدارة الصراع أو حسمه.
هي دورة طبيعية لتغيير كل السياسات العالمية، ولابد من مظاهر القوة حتى يُعاد تشكيل الأحلاف من جديد ويُعاد تقسيم الثروات بناء على موازين القوى الجديدة، حتى يتم إعداد النظام العالمي الجديد.
وهي ليست حربا عالمية رغم كل شيء إلا عندما يتخلى الجميع عن حذره ويُطلق العنان للجنون، حينها فقط فإن الحرب التي ستُعيد كل شيء لن تكون مطلقاً على أسس سياسية.. بل دينية!
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب