دراساتسياسية

“يوم بلا إعلام ” في السنغال: الأسباب والتداعيات

إعداد- نعمة نجيب – باحثة في الشئون الإفريقية 

في يوم 13 أغسطس 2024، شهدت السنغال حدثًا غير مألوف في تاريخها الإعلامي، حيث امتنعت جميع الصحف المطبوعة والقنوات التلفزيونية الرئيسية ومحطات الراديو عن نشر الأخبار وتغطية الأحداث. ويأتي  هذا الحدث كرد فعل على التوترات المتصاعدة بين الحكومة ووسائل الإعلام في السنغال. يُعد هذا الانقطاع الشامل في الصحافة والإعلام خطوة خطيرة في تاريخ الديمقراطية في البلاد، ويطرح العديد من التساؤلات حول ما الذي أدى إلى تصاعد هذه التوترات ومآلات حرية التعبير في الستغال.

 

نبذة عن الحدث

جاء هذا التحرك بعد دعوة أطلقها مجلس موزعي الصحافة والناشرين السنغالي (CDEPS) احتجاجًا على الضغوط المتزايدة من قبل الحكومة على وسائل الإعلام، خاصةً تلك الاقتصادية التي تهدد استمرار عملها. وقد استجابت وكالات الأنباء السنغالية بشكل واسع لهذه الدعوة، حيث امتنعت الصحف عن النشر وتكونت الإصدارات فقط من غلاف أسود يحمل شعار “يوم بدون صحافة” “journée sans presse”، ورفضت بعض محطات الراديو بث الأخبار، فيما اختارت محطات أخرى تشغيل الموسيقى بدلاً من ذلك. وظلت منافذ الراديو مثل RFM وiradio صامتة

  المشهد الإعلامي في السنغال: من الاستقرار إلى التوتر.

أولا –  مرحلة الاستقرار (1960-2021)

تُعتبر السنغال منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، نموذجًا للديمقراطية المستقرة في غرب إفريقيا، قد تمتعت البلاد بحياة سياسية نشطة مع انتخابات منتظمة وانتقال سلمي للسلطة بين الأحزاب، وكانت الصحافة السنغالية حرة نسبيًا، وبرغم حظر بعض الموضوعات على الصحفيين، فإن العنف والانتهاكات ضد الصحفيين لم تكن بنسبة كبيرة، فكانت السنغال بمثابة نموذج نموذج يحتذى به في الاقارة الإفرقية.

ثانيا – تصاعد التوترات (2021-2024)

شهدت العلاقات بين وسائل الإعلام والسلطات في السنغال تدهورًا ملحوظًا منذ عام 2021، حيث تزايدت بشكل غير مسبوق أعمال العنف اللفظي والجسدي ضد الصحفيين، إضافة إلى قطع خدمات الإنترنت، وهي إجراءات غالبًا ما تزامنت مع احتجاجات عامة، مما أثار قلقًا بالغًا بشأن تأثير هذه التدابير على حرية التعبير. وقد انعكس هذا التدهور في ترتيب السنغال على مؤشر حرية الصحافة العالمي، حيث انحدرت من المركز 49 في عام 2021 إلى المركز 94 في عام 2024 وفقًا لتصنيف مراسلون بلا حدود

وفي تقرير صدر في يناير 2023، وثق المعهد الدولي للصحافة عددًا متزايدًا من الانتهاكات ضد الصحفيين، من بينها اعتداءات جسدية، واعتقالات تعسفية، وإيقاف وسائل إعلام، حيث تكرر إيقاف قنوات تلفزيونية مثل Walf TV وZIK FM وSen TV.

تعود جذور هذه التوترات إلى تغطية وسائل الإعلام لأحداث اعتقال وإطلاق سراح زعيم المعارضة “عثمان سونكو”Ousmane Sonko ، مما أدى إلى توتر شديد في العلاقات بين الحكومة والإعلام. وعقب الحكم عليه في عام 2023، اندلعت موجة من الاحتجاجات في السنغال ، تعرضوا خلالها لضغوط شديدة أثناء تغطيتهم لهذه الاحتجاجات وما رافقها من قمع أمني مكثف.

ظهر هذا القمع بشكل أوضح عندما قامت السلطات بتأجيل الانتخابات الوطنية المقررة في 25 فبراير 2024، وهو قرار أثار غضبًا واسعًا وأدى إلى اندلاع احتجاجات جديدة. وخلال هذه الفترة، واجه الصحفيون تحديات جسيمة في ممارسة عملهم، حيث تعرضوا للاعتداءات، والاعتقالات التعسفية، ومنع الوصول إلى الإنترنت، بما في ذلك حالتين من قطع الإنترنت في فبراير 2024، في محاولة واضحة للحد من التغطية الإعلامية للأحداث المتصاعدة. وعلى الرغم من هذه الضغوط، تمكن الصحفيون من تغطية الانتخابات التي جرت في مارس من العام نفسه.

وفي ظل هذه الأجواء، أصبحت القوانين الجنائية مثل المادة (254) المتعلقة بإهانة رئيس الدولة، والمادة (80) المتعلقة بالإخلال بالنظام العام، أدوات فعالة في يد السلطات لقمع الإعلام. حيث يعزز قانون الصحافة في السنغال بيئة الرقابة الذاتية بين الصحفيين، ويحتوي على أكثر من 50 مادة تنص على عقوبات مختلفة.

في المجمل، يعكس تصاعد حدة التوتر بين الإعلام والحكومة في السنغال منذ عام 2021 حالة من التضييق الشديد التي أثرت بشكل كبير على حرية الصحافة وحقوق التعبير. وفي هذا السياق، ازدادت التوقعات من الرئيس الجديد وحكومته، الذين جاءوا من صفوف المعارضة، للالتزام بتعزيز مبادئ الديمقراطية وضمان حرية الإعلام، خاصة في ظل الدور البارز الذي لعبه الإعلام الخاص في وصولهم إلى السلطة.

ثالثا : رئاسة فايي  وتزايد التوتر

ومع بداية حكم الرئيس “باسيرو ديوماي فاييي” Bassirou Diomaye Faye، وتعهدانته بمكافحة الفساد وإرساء مبادئ الديموقراطية، قامت مجموعة من المنظمات الدولية والإقليمية المكرسة لحماية حرية الصحافة، ومنها “مراسلون بلا حدود” (RSF) و”المؤسسة الإعلامية لغرب أفريقيا” Media Foundation for West Africa، بارسال خطاب للرئيس الجديد يتوسمون به دعم الصحافة الإعلام، مطالبين حكومته باتخاذ إجراءات ملموسة لدعم حرية الإعلام وحرية التعبير وتحسين بيئة عمل الصحفيين في السنغال. ويشمل ذلك الإدانة العلنية لجميع التهديدات والاعتداءات ضد الصحفيين؛ إجراء تحقيقات شاملة في جميع الاعتداءات على الصحفيين وضمان محاسبة المسؤولين عنها. بالإضافة إلى إصلاح القوانين التي تقيد حرية الصحافة وحرية التعبير، بما يتماشى مع المعايير الإقليمية والدولية. ومن المهم أيضًا ضمان وصول الصحفيين إلى المعلومات خلال الأحداث ذات الاهتمام العام بما في ذلك الاحتجاجات والعمليات الانتخابية؛ والحفاظ على إمكانية الوصول إلى الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي في جميع الأوقات.

ولكن لم يلبث فايي ورئيس وزرائه سونكو كثيرا حتى قاما بممارسات كان من شأنها تضييق الخناق على وسائل الإعلام مما أدت إلى توتر العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة، ما دفع الأولى لتنظيم ذلك اليوم احتجاجاَ على تلك الممارسات وفيما يلي عرض لها: 

  • تفاقم الأعباء المالية للمؤسسات الإعلامية

 دعت الصحافة السنغالية إلى إعادة تقييم نموذجها التمويلي ومراجعة الضرائب المفروضة عليها، خاصة في ظل الأزمة المالية العميقة التي تفاقمت منذ ظهور جائحة كوفيد-19. وكان الرئيس السابق ماكي سال قد وعد قبل انتهاء ولايته بحل هذه المسألة من خلال إلغاء بعض الضرائب لدعم القطاع الإعلامي. ومع ذلك، لم تلتزم الحكومة الجديدة بهذا الوعد. .

بدلاً من ذلك، شدد النظام الجديد من الإجراءات الضريبية، مع زيادة الضوابط وإشعارات الدفع، كما جمد الحسابات المصرفية لشركات الإعلام بسبب عدم تسديد الضرائب، واستولى على معدات الإنتاج، وأنهى عقود الإعلان بشكل أحادي وغير قانوني، وقام بتجميد المدفوعات.

ونتيجة لذلك، توقفت اثنتان من كبرى الصحف الرياضية اليومية عن النشر في بداية شهر أغسطس، كما أن سبع وسائل إعلام خاصة أخرى تواجه خطر التوقف عن العمل. وقد اتهمت بعض المنظمات النظام الحالي بمحاولة السيطرة على تدفق المعلومات وترويض الإعلاميين لمنعهم من ممارسة دورهم الرقابي، وخلق جبهة عداء داخلية لتحويل الانتباه عن فشله في الوفاء بالوعود الانتخابية المتعلقة بمكافحة الفساد وتحسين مستوى المعيشة.

2 – خطاب الكراهية ضد الإعلام 

قام رئيس الحكومة عثمان سونكو في شهر يونيو 2024خلال مؤتمر جماهيري، بالهجوم على وسائل الإعلام، بإدراجها في القائمة السوداء بتهمة نشر معلومات كاذبة، مؤكدا على أن ضرائبها غير المدفوعة يمكن اعتبارها اختلاسا، والذي يؤثر بالتبعية على حصيلة دخل الدولة ومستوى معيشة المواطنين، كما أنه لن يسمح بعد الآن لوسائل الإعلام بكتابة ما تشاء عن الأفراد، باسم ما يسمى بحرية الصحافة، دون وجود أي مصادر موثوقة.

3 – التضييق على حرية الرأي والتعبير 

في مايو 2024 تم الحكم على شخصين، بالسجن ثلاثة أشهر والغرامة بتهمة نشر أخبار كاذبة وإهانة رئيس الحكومة، بعد تعليقات استهدفت رئيس الوزراء عثمان سونكو وتصريحاته حول المثلية الجنسية.

رد فعل النظام السنغالي 

في اليوم التالي للحدث وأثناء الاجتماع الأسبوعي للحكمومة ، دعا  الرئيس باسيرو ديوماي فاي، إلى تجديد الحوار مع الصحافة الوطنية، وأشار إلى أن الوضع العام يستحق اهتماما خاصا من الحكومة واتخاذ تدابير التعافي المناسبة. وأكد على أهمية الصحافة المهنية والمسؤولة التي تحترم سيادة القانون، كركيزة أساسية للديمقراطية،وطلب الرئيس فاي من الحكومة، ولا سيما وزير الاتصالات، ضمان التطبيق الكامل لقانون الصحافة وكذلك حسن سير عمل الشركات الصحفية، دون تحديد ماهية التدابير التي يجب اتخاذها لتعافي قطاع الإعلام، أو تحديد جدول زمني للحوار المشترك.

التداعيات الداخلية والخارجية 

كان لامتناع وسائل الإعلام عن النشر تداعيات واسعة، ليس فقط على الصحافة وحرية الإعلام ولكن أيضًا على الدولة داخليا وخارجيا. فيما يلي بعض التداعيات الرئيسية لهذا الحدث:

  داخليا، حيث يعتبر الإعلام الحر والمستقل أحد أعمدة الديمقراطية، وتلك التوترات ستؤدي إلى أزمة ثقة بين السلطة ومؤسسات الإعلام، فالإعلام هو الأداة التي تنقل للمواطنين تطورات الأداء الحكومي، وتعكس الرأي العام ومتطلباته،  مما يترتب عليه عدم حصول المواطنون على المعلومات أو يُفرض عليهم رواية واحدة للأحداث، في حالة وجود فجوة بين الإعلام والسلطة.

أما خارجيا، قد أثارت هذه الأحداث قلق المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، حيث تم توجيه انتقادات واسعة للحكومة السنغالية بشأن انتهاكاتها لحرية الإعلام. ودعت منظمات مثل “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش” الحكومة السنغالية إلى التراجع عن سياساتها القمعية واحترام حرية الصحافة، مما يعطي تأثيراً سلبًيا على الثقة في استقرار السوق السنغالي، ويزيد من القلق بين المستثمرين حيث يعتمد الاقتصاد في السنغال بشكل كبير على الاستثمارات الخارجية. 

 

خاتمة

يعد “يوم بلا إعلام” في السنغال حدثًا محوريًا في تاريخ الإعلام والسياسة في البلاد. يعكس هذا الحدث التوترات العميقة بين الحكومة ووسائل الإعلام، ونجح اليوم في لفتت نظر السلطة بطريقة سلمية إلى الإعلام ودوره كأحد دعائم الديموقراطية خاصة بعد ردود الأفعال الدولية من المنظمات المعنية المختصة بحرية الإعلام، وعلى الرغم من أن الحكومة لم تظهر أي نية لتخفيف الضغوط على وسائل الإعلام ، فنجحت وسائل الإعلام بإيصال رسالة تفيد وحدة الصف والقدرة على التنظيم في جبهة واحدة، حيث يدرك النظام وحكومته دور الإعلام في دعم المعارضة، وكيف دعمه من قبل في الوصول إلى السلطة، وإن الدخول في عداء مع الإعلام للتغطية على فشل تحقيق الوعود الإنتخابية لن يؤتي بثماره،  خاصة في توقيت تشهد فيه العديد من الدول المجاورة احتجاجات ضد حكوماتهم، لذلك تتطلب معالجة هذه القضية من الحكومة اتخاذ خطوات حقيقية لضمان حرية الصحافة واحترام الحقوق الأساسية للمواطنين. في المقابل، يجب على وسائل الإعلام أن تستمر في الدفاع عن حقوقها وحريتها في نقل المعلومات بصدق وشفافية.

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب

 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى