الرئيسيةدراساتسياسية

نهب الثروات في أفريقيا.. كيف استولى الأوروبيون على خيرات القارة السمراء؟

إعداد_ حمدي أحمد

مقدمة

إفريقيا هي القارّة الأكثر فقراً في العالم , لكن دون شك هي “الأكثر ثروة” في الوقت نفسه , هذه المفارقة تتجسد في واقع أن القارّة السمراء لا تمثّل سوى 2 بالمائة من إجمالي الإنتاج العالمي بينما تختزن أرضها نسبة 15 بالمئة من البترول الخام في العالم و40 بالمئة من مادّة الذهب الثمينة و80 بالمئة من مادة البلاتين ذات القيمة الإستراتيجية الكبيرة. وهي تمتلك أيضا ثلث حقول المعادن , وهذه الأرقام تؤكد ان إفريقيا هي القارّة صاحبة أكبر ثروة في العالم .

ومع ذلك إفريقيا هي أرض البؤس والأوبئة ونقص الخدمات العامّة والمرافق الصحيّة , والمسؤول عن ذلك يكمن بالدرجة الأولى في “آلة النهب” أو عمليات النهب التي تستهدف الثروات الإفريقية وعلى رأسها البترول وحقول المعادن في الكثير من دول القارة مثل نيجيريا  والنيجر وأنغولا وجنوب إفريقيا وغينيا.

ويمكن الكشف عن حالة الفساد المتغول الذي تمارسه الشركات العالمية الكبرى على صعيد مختلف مراحل استغلال الثروات الطبيعية الإفريقية وتقديم المستفيدين الرئيسيين من «آلة النهب» وتصنيّفهم في فئات ومجموعات من طبيعة المافيا تضمّ رجال أعمال فاسدين ومسؤولين في الإدارات الحكومية وشركات متعددة الجنسيات عملاقة.

ويتم الحديث في هذا السياق عن عصابات وسادة حرب نهّابين يتنقلون بحقائب مليئة بالأوراق المالية بحيث يبدو أن القارئ أمام رواية بوليسية بينما أن الأمر يتعلّق بعملية نهب حقيقية لثروات مستخرجة من أرض إفريقيا لتصل إلى بلدان على بعد آلاف الأميال.

نهب الثروات في أفريقيا

وإذا كانت هذه الورقة  تتعرّض لدراسة مجموعة من الحالات فى البلدان الإفريقية فيما يتعلّق بتأثير “آلة النهب” عليها، فإنها أيضا تناقش الآثار السلبية المترتبة على ما يسمي بلعنة الثروات في إفريقيا التي لا ينال أغلبية الأفارقة أيّة فائدة منها، بل على العكس تتردّى أحوالهم على عكس البلدان التي عرفت كيف توظّف ثرواتها لصالح مواطنيها.

ويبقى الأفارقة هم الأكثر فقراً بين مختلف قارّات العالم  بالتأكيد بأشكال مختلفة على المسؤولية الاجتماعية والإنسانية لأولئك الذين يلجؤون بوعي كامل إلى استخدام “آلة النهب” المبرمجة لثروات القارّة الإفريقية بحيث يتم تفريغها من ثرواتها.

أفريقيا المنهوبة

تقدم هنا شهادات موثقة حول سرقة الثروات الطبيعية لأفريقيا بواسطة الشركات الضخمة المتعددة الجنسية وحكام بعض دول القارة من عملاء دول الغرب الذين زرعهم الاستعمار الأوروبي قبل رحيله بعد أن لقنهم أساليب النهب والسلب وطرق التآمر علي شعوبهم وبث الفتن والحروب الأهلية بينهم وبين أبناء الدولة الواحدة بل والقبيلة الواحدة حتي يستمر نزيف الدم الأفريقي وينشغل أبناء القارة بحروبهم وضحاياهم عما يجري من استنزاف لثروتهم.

وفي السنوات العشر الأخيرة يبدو أن أمراض الشرق الأوسط قد انتقلت الي أفريقيا, فدخل الارهاب ليعصف بسلام عدة دول بالقارة. فالمتطرفون أدعياء الاسلام لم يكتفوا بالفقر والمرض واستنزاف الغرب للثروات الطبيعية وسوء الخدمات التي يعاني منها الأفارقة لكنهم عاثوا في الأرض فسادا يزرعون أحقادهم ويبثون سمومهم ويقتلون النساء والأطفال ويغلقون المدارس والمستشفيات ويشعلون نيران الكراهية بين أبناء الوطن الواحد والقبيلة الواحدة.

من أبرز هذه الجماعات بوكو حرام وداعش , البلاء الجديد الذي بعد أن نشر سمومه في الشرق الأوسط يتجه الآن إلي أفريقيا ولم يعد غريبا أن نري شباب القارة يهربون منها عبر زوارق الموت ليعملوا عبيدا جددا عند الأسياد القدامي في أوروبا.

هناك باحثون يرون أن أفريقيا رغم الاستقلال لم تبرأ ثقافيا من عصور الرق والاستغلال ويتصورون أن بصمات تجارة العبيد الأفارقة يمكن قياسها في الدول التي كانت فيها تلك التجارة مزدهرة فالدول التي انتعشت فيها هذه التجارة هي الآن الأقل نموا والأكثر اضطرابا وتخلفا.

وهناك باحثون يرون أن الأسباب تنحصر في عدد من العوامل الخارجية مثل مساندة الدول الأوروبية القوية للحكومات الديكتاتورية التي كانت تقهر شعوبها خلال سنوات الحرب الباردة, والسياسات الاقتصادية التي فرضتها علي الأفارقة في الثمانينات المؤسسات المالية الغربية والتي طالبتهم بعدم الاستثمار في التعليم والصحة وبقية الخدمات التي هي ضرورية للمواطن الأفريقي.

ومن الباحثين من يلومون ضعف القيادات منذ أن حصلت عشرات الدول الأفريقية منذ الستينات علي الاستقلال, وهؤلاء يرون أن العالم الخارجي كان غاية في السخاء والكرم تجاه أفريقيا وأن المساعدات التي حصلت عليها القارة في العقود الأخيرة تمنعها من أن تلوم الغرب لعدم قدرتها علي النهوض بظروفها الاقتصادية والاجتماعية.

إعادة بناء الكونجو

تعرض هذه الورقة عدة نماذج لأفراد ومؤسسات وشركات ضخمة في عصر العولمة وأساليب استنزافهم لثروات القارة مستخدمين أبوابا غير مشروعة وغير أخلاقية.

فعلي سبيل المثل “أوجستين كاتومبا موانك” كان محاسبا شابا في أحد بنوك جنوب أفريقيا بعد أن ترك موطنه الأصلي في الكونجو لفشله في الحصول علي عمل, لكن أصدقاءه أقنعوه بالعودة الي بلاده للمساهمة في إعادة بناء جمهورية الكونجو الديموقراطية والتعاون مع حكومتها الجديدة برئاسة “لوران كابيلا”.

وبعد عام واحد فوجئ “كاتومبا” بمكالمة تليفونية من رئيس الدولة القادم من إقليم كاتنجا الذي ينتمي اليه “أوجستين” أبلغه فيها بقرار تعيينه حاكما علي الإقليم الذي تبلغ مساحته حجم فرنسا والقيام في نفس الوقت بإدارة واحد من أغني مناجم الماس في العالم.

كان هذا القرار بداية صعود “أوجستين كاتومبا” السريع إلي الثروة والسلطة الي جانب الرئيس ضمن أعضاء الشبكة من المقربين التي تضم كبار المسئولين في حكومة الكونجو ورجال الأعمال الأجانب وأعضاء جماعات الجريمة المنظمة الذين ينهبون ثروة الكونجو الهائلة.

لقد حولوا خمسة بلايين دولار من أموال الدولة إلي جيوب شركات خاصة لا تقوم بأي استثمارات في البلاد, ولكن بعد أن اكتشفت جريمتهم أنشأ كاتومبا حكومة ظل لسرقة خزينة أموال الدولة وشراء الناخبين ورشوة المؤيدين لهم.

أحد الشهود من أعضاء العصابة قال إن كابيلا كان يحصل علي الأقل كل أسبوع علي أربعة ملايين دولارا تملأ حقائبه من شركات التعدين. أما ملايين الفقراء من أبناء الشعب فهم ضحايا لعنة الثروة في واحدة من أكثر دول العالم فقرا بالرغم من الثروة الهائلة التي تقع تحت أقدامهم. تبين أن هناك كما يقول بيرجس- أكثر من حكومة ظل في عدة دول أفريقية تقوم بنهب ثروات البلاد. لكن بينما يؤكد المؤلف استنزاف ثروات افريقيا بواسطة القوي الخارجية إلا أنه لا يغفل تواطؤ القيادات المحلية.

   أنجولا


 جماعة “فوتنجو” التي تضم رجالا من أنجولا يسيطرون علي ثروة البلاد الهائلة من البترول ويحققون منها دخلا كبيرا كما يستخدمونها لحماية النظام الذي يقهر شعبه.

جوزيه إدواردو دوي سانتوس  .

ذكرت مجلة فوربس الأمريكية ذات الاهتمام بشئون المال والاقتصاد أن إبنته “إيزابيل” هي أول مليارديرة أفريقية وعندما قام صندوق النقد بمراجعة حسابات الحكومة الوطنية في أنجولا إكتشف خبراء الصندوق أنه بين سنوات2007 وحتي2010 اختفي32 مليار دولارا من خزينة البلاد وهو مبلغ يساوي ربع عائدات الحكومة سنويا من إنتاجها من النفط والمعادن.

على الرغم من أن السلام تحقق في أنجولا منذ عام2013 الا أن الحكومة تنفق18% من ميزانيتهاعلي رجال “فوتنجو” الذين يسيطرون علي قوات الجيش والشرطة التي تحمي نظام “دوسانتوس” الذى حكم البلاد لمدة 34 عام وهو ما يقدر بأكثر مما ينفق علي التعليم والصحة معا بنسبة40%.

والمأساة أن عددا من قادة الدول في أفريقيا اتخذوا من أنجولا مثالا لنهب ثروات بلادهم

لكن النظام في أنجولا يعتمد علي بعض اللاعبين الذين هم جزء من النظام العالمي وعلي التجاهل المتعمد من آخرين لتبرير الفقر الذي يعاني منه الشعوب فحكومات الغرب لاتزال صامته أمام تجاوزات الحكومة في انجولا والبنوك الكبري وشركات البترول العالمية وتجار السلاح وحتي خبراء صندوق النقد وهؤلاء يقومون بعملية التغطية علي جرائم الحكومة.

في عام2010 بلغت صادرات أفريقيا من البترول والمعادن333 مليار دولار بما يساوي سبعة أضعاف قيمة المعونات التي تلقتها القارة والتي اتجهت إلي طرق بعيدة عن التنمية والاستثمار والدول الأفريقية لم تحصل في الواقع سوي علي نسبة قليلة جدا من عائدات صادراتها.

ويمكن الكشف عن دور المؤسسات المالية بقيادة البنك الدولي وصندوق النقد والشركات الضخمة التي تساندها والتي تمارس الضغوط علي الدول الأفريقية لقبول الحد الأدني من عائدات صادراتها من ثرواتها الطبيعية تحذرها من قيام الحكومات بادارتها وتملكها كقطاع عام وهنا سوف ترفض المؤسسات الأجنبية الاستثمار في هذه الثروات.
كما يتم شرح أساليب الشركات الأجنبية للتهرب من دفع الضرائب المستحقة علي صادراتها بما يضاعف من أرباح الشركات الأجنبية وبمساندة من حكوماتها وبما يؤدي الي خسائر فادحة للأفارقة.

وهنا مثالا صارخا آخر لنهب ثروات أفريقيا من النيجر التي هي من أفقر دول العالم رغم من أنها من أكثرها إنتاجا لليورانيوم وتصدره منذ عقود لفرنسا التي سبق واستعمرتها عشرات السنين ليتبين أن شركة أريفا الفرنسية التي تحتكر شراء اليورانيوم وتصديره تدفع لحكومة النيجر5,5% فقط من قيمته في السوق العالمية, وتفاصيل تعاقد الشركة الفرنسية مع حكومة النيجر لايعلن عنها.

نهب الثروات في أفريقيا
ماذا عن الصين ؟

الصين هى القوة الاقتصادية الجديدة الصاعدة بسرعة الصاروخ , توسم الأفارقة فيها خيرا عندما دخلت أفريقيا منافسة للغرب من باب التجارة والاستثمار مع بداية التسعينات وقد رحب كثير من الأفارقة بقدومها كقوة اقتصادية وتحمسوا للعمل معها خاصة قادة الدول التي يعتمد اقتصادها علي المعادن .

ارتفع نصيب الصين من استهلاك المعادن النقية من5% في بداية التسعينات الي45% في عام2010 وزاد استهلاكها من الوقود خمس مرات في نفس الفترة وفي عام2002 قدرت تجارة الصين مع أفريقيا13 بليون دولار وبعد عشر سنوات ارتفع هذا الرقم إلي180 مليار دولارا وهو ثلاثة أضعاف حجم تجارة أفريقيا مع الولايات المتحدة.

وقد كان الأمل أن يكون دخول الصين منافسا للغرب سوف يحقق للقارة فائدة اقتصادية كبيرة وتعاقدات أفضل, ولكن طبقا لما تبين بعد ذالك فأن المستثمرين الصينيين ركزوا إهتمامهم علي الدول الأفريقية التي تواجه صعوبات في الاقتراض من الخارج أو مقاطعة اقتصادية من الغرب لسجلها الحافل في العدوان علي حقوق الانسان .

اختارت الصين عدة دول أفريقية من بينها من بينها أنجولا والكونجو وغينيا وقدموا لحكومات هذه الدول قروضا مع تسهيلات في الدفع, وفي المقابل وقعت الشركات الصينية تعاقدات مع حكومات هذه الدول أكثر سخاء في معظم الأحيان من التعاقدات مع الشركات الغربية وتعطي للمستثمرين الصينيين شروطا أفضل مما كان القادمون من الغرب يحصلون عليه.

وفي تحقيق تفصيلي عن جرائم استنزاف الثروات الأفريقية يتناول التعاقدات التي وقعتها             ” 88كوينز” واي التي يقع مركزها الرئيسي في هونج كونج وأسسها رجل غامض يطلق عليه “سام با” والذي عمل لسنوات بالمخابرات الصينية والذي يرتبط بعلاقات مع عدد من أكبر الشركات الصينية وأجري لصالحها عدة تعاقدات تجارية مع دول أفريقية بدأت مع أنجولا ثم إمتدت لدول أخري.

اجتمعت الدول الأجنبية شرقا وغربا والمؤسسات المالية الدولية والشركات الضخمة علي استنزاف وسرقة ثروات أفريقيا بتواطؤ مع بعض قادة ورؤساء القارة الذين تدربوا في دول الغرب الاستعمارية علي أساليب قمع الجماهير والتغاضي عن سرقة ثروات بلادهم مقابل الحصول منهم علي المال الحرام, ودور البنك الدولي وصندوق النقد في تسهيل هذه السرقات.

لم يعد أمام الدول الأفريقية سوي الاعتماد علي الأجيال الجديدة من الأفارقة للنهوض بالقارة والاسراع بالقضاء علي الفاسدين عملاء الاستعمار الجديد.

مؤتمرات القمة والمنتديات وجلسات الحوار المتعددة التي انعقدت في السنوات الأخيرة في عدة عواصم أفريقية تعطينا قدرا من الأمل, فهي تؤكد أن الأفارقة يشعرون الآن بالخطر الزاحف عليهم من كل اتجاه.

فلكي يستعيدوا قارتهم التي إختطفت باسم حرية التجارة وكسر الحواجز وفتح الأبواب والالتزام بقوانين العولمة, يجب عليهم أن يعيدوا حساباتهم. لقد تعرفوا علي الأعداء الذين سلبوهم ثرواتهم بالغش والخداع والتآمر ولم يعد أمامهم الآن سوي التقارب مع الأصدقاء الذين يشاركونهم نفس المصلحة ونفس الثقافة ونفس الأهداف إذا كانوا يسعون الي النهوض بقارتهم واستثمار ثرواتهم ومواكبة القرن الواحد والعشرين. وهنا تأتي مسئولية مصر الدولة الأكبر والأكثرتقدما سياسيا وثقافيا .

الأنشطة السياسية والدبلوماسية التي قامت بها الحكومة المصرية في الفترة الأخيرة تؤكد اننا عدنا الي أفريقيا وأصلحنا الخطأ الفادح الذي إرتكبناه بإهمالنا لقارتنا ولكن هذه العودة تتطلب مزيدا من الجهود من كافة المؤسسات المصرية الحكومية والخاصة, نريد السياسيين والدبلوماسيين الذين كانوا يضعون افريقيا ضمن أوائل اهتماماتهم , لقد تعلمنا من التجارب والدروس أن افريقيا دون أي نظرة عنصرية يجب أن تكون للأفارقة.

الجمهورية الفرنسية ومستعمراتها السابقة فى القارة المنهوبة

حصلت فرنسا على الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام تُكتَشف في أراضي مستعمراتها السابقة، كما منح الشركات الفرنسية أولوية في أي أنشطة اقتصادية في هذه البلاد، في حين احتكرت باريس وحدها عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية في هذه البلدان التي أُجبرت، بموجب الاتفاق ذاته، على التحالف مع فرنسا في حال خوضها لأي حرب.

كُشِف عن هذه الشروط وغيرها في منتصف التسعينيات إثر الفضيحة الشهيرة التي عُرفت آنذاك باسم قضية “إلف” نسبة إلى شركة البترول الوطنية الفرنسية “إلف آكتين” المعروفة بـ “توتال” حاليا، التي عملت بمنزلة ذراع استخباراتي لفرنسا في مستعمراتها السابقة تحت قيادة وزير المحروقات الفرنسي السابق “بيير فيوما” وفق الخطة التي هندسها أمين عام الإليزيه للشؤون الأفريقية ورجل فرنسا الأول في أفريقيا “جاك فوكار” بأوامر مباشرة من الرئيس الفرنسي “شارل ديجول” شخصيا.

عُرِف فوكار في فرنسا آنذاك على أنه الرجل الوحيد الذي يُمكنه لقاء ديجول كل مساء، وكانت وظيفته تتلخَّص ببساطة في هندسة أنظمة الحكم في دول أفريقيا، وتثبيت الحكام أو الإطاحة بهم بما يتلاءم مع مصالح فرنسا وكانت البداية في غينيا ، حيث يحكم الرئيس “أحمد سيكوتوري” الذي قرَّر الاستقلال من جانب واحد عن فرنسا، وسرعان ما قرَّرت باريس معاقبته عبر حرمانه من امتيازاتها الاستعمارية.

على الفور غادر ثلاثة آلاف فرنسي غينيا، مُحمَّلين بأموالهم وأملاكهم ومُدمِّرين لكل ما لا يستطيعون حمله، كالمدارس وحضانات الأطفال، والمباني الإدارية والسيارات والمعدات، بل إنهم حرقوا مخازن الغذاء وقتلوا الماشية والأبقار، ولم تكتفِ فرنسا بذلك، بل عمدت إلى تدمير العُملة الغينية الجديدة من خلال إغراق السوق بالعُملات المُزوَّرة التي طُبعت في فرنسا، وسلَّحت مُعارضين غينيين من أجل الإطاحة بـ “سيكوتوري”.

أما في الكاميرون فقد فعلت فرنسا النقيض تماما، دبَّرت عملية اغتيال المعارض الكاميروني الأبرز “فليكس مونيه”، في فيينا، بجرعة من التاليوم شديد السُّمية من أجل تثبيت حكم الرئيس “أحجو” الذي كان يُعرف آنذاك على أنه دُمية فرنسا.

شركة ألف الفرنسية

في الجابون الدولة الغنية بالنفط التي حصلت شركة “إلف” على 70% من عائداتها النفطية بموجب اتفاق مع الحكومة، أعادت فرنسا حليفها الرئيس “ليون أمبا” إلى موقعه بعد الانقلاب عليه من قِبَل صغار الضباط في الجيش الجابونى ، وسرعان ما دبَّرت وصول “ألبير برنارد” المعروف بـ “عمر بونغو”، إلى السلطة خلفا “لليون” من خلال تعيينه نائبا للرئيس عبر تعديل دستوري أُقِرَّ في سفارة الجابون في فرنسا, ليتولَّى “علي بونغو” نجل “عمر بونغو”، السلطة في الجابون بتواطؤ فرنسي، وبموجب انتخابات صورية اعترفت المخابرات الفرنسية بأنها مُزوَّرة.

على النقيض أيضا حاولت فرنسا إسقاط نظام “ماثيو كريكو” الشيوعي في بنين مُستغِلَّةً فريقا من المرتزقة بقيادة “كلب الحرب” الشهير “بوب دينار”، ولكن أُحبِطت المحاولة بواسطة الجيش البنيني، في حين أنها ثبَّتت نظاما شيوعيا آخر هو نظام “دينيس ساسو” في الكونغو برازافيل، بسبب موافقته على تأمين حصة شركة “إلف” في النفط الكنغولي، وعلى الرغم من تأكيد الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا هولاند” والرئيس الحالي “إيمانويل ماكرون” مرارا نهاية عصر شبكات “فرانس أفريك”، وأن فرنسا بدَّلت سياستها الاستعمارية في أفريقيا، فإن الواقع يُخبرنا أن لعبة النفوذ لا تزال تجري على قدم وساق في القارة السمراء من الشرق إلى الغرب، وأنها تأخذ أشكالا جديدة، وتستقطب في كل يوم لاعبين جُدد إلى الرقعة.

استعمار الشركات

ربما تُمثِّل فرنسا النموذج الأسوأ والأكثر صراحة وفداحة في حماية مصالحها على حساب الشعوب الأفريقية، إلا أن دولا مثل بريطانيا وبلجيكا وألمانيا والبرتغال، ومن بعدهم الولايات المتحدة وروسيا والصين، لم تكن أقل شراسة، ففي حين رفعت جميعها شعارات حول أحقية الأفارقة في التمتُّع بحقوق الإنسان والديمقراطية وعائدات التنمية أُسوة بمواطني دولهم، فإنها جميعا ظلَّت تستبطن هذا التصوُّر الذي يرى دوما أن جميع الأمم متساوية، ولكن بعضها يبقى “أقل مساواة” من الآخرين، كما يقول “جورج أورويل”.

ومع ذهاب زمن التدخُّلات المباشرة وانقلابات وضح النهار فإن التلاعب الغربي بمستقبل الأفارقة صار يتخذ أشكالا أقل مباشرة ولكنها ربما أكثر ضراوة، غير أن هذا لم يجعل الشباب الأفريقي غافلا عن إدراك حقيقة أن بلاده لا تزال مُستعمَرة بصور مختلفة، حيث جاءت تظاهرات طلاب الجامعات في جنوب أفريقيا تحت شعار”أسقِطوا رودس” لتُعبِّر دوما عن هذه الحقيقة: أفريقيا لا تزال رهينة القوى الأجنبية، حتى وإن كان ذلك في جنوب أفريقيا التي قطعت شوطا طويلا من أجل تحرير إرادتها. وقد اختار الشباب النيجيري المُحتج ضد البطالة وقلة فرص العمل التظاهر عام 2016 أمام مقر شركة “شيفرون” الأميركية، في مشهد لا يخلو من رمزية تاريخية واضحة.

تمتلك شركات النفط الأجنبية في أفريقيا تاريخا طويلا في دعم الحكام المُستبدِّين حفاظا على مصالحها، على حساب تطلُّعات الشعوب الأفريقية، ففي منتصف التسعينيات وتحديدا في دلتا النيجر قدَّمت شركة “شل” الأموال لصالح الديكتاتورية العسكرية في نيجيريا من أجل قمع تظاهرات شعوب المنطقة ضد أنشطة الشركة المُتسبِّبة في تدمير البيئة والقضاء على مواردها الطبيعية دون أي استفادة مُقابلة لهذه الشعوب من عائدات ثرواتها، بل تَبيَّن فيما بعد أن “شل” قدَّمت رشاوى للمُدَّعين العامين والشهود من الأجل الحكم بإعدام المناضل النيجيري “كين سرو”، وقادة الاحتجاجات في المنطقة الغنية بالنفط، وقُدِّر مجموع الأموال التي دفعتها الشركة من أجل هذه الأنشطة بنحو 383 مليون دولار.

وبالرجوع في التاريخ قليلا، فإن شركة “إلف” الفرنسية كان لها السبق في هذا المسار، حين وظَّفت عوائد النفط الجابوني لدعم الحرب الأهلية في “بيافرا”، التي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص.

ولكن شركات النفط لم تكن المُمثِّل الأوحد لقوى الاستعمار الجديد في أفريقيا، فحيثما وجدت الشركات الأجنبية ومصالحها، ترافقها الأنظمة الديكتاتورية والقمع المُتوسع. وتبقى الكارثة الأكبر التي تلتهم أفريقيا في الوقت الراهن، وتستنزف مليارات الدولارات من مواردها الاقتصادية، هي تلك الإمبراطورية المتنامية للشركات الأمنية الخاصة، التي تنشر عشرات الآلاف من الجنود المرتزقة الذين تكمن مهمتهم في حماية مصالح الشركات الدولية والأنظمة الداعمة لها، وتتوسَّع توسُّعا أخطبوطيا إلى درجة أنها توشك على التهام أفريقيا بأكملها.

تشمل القائمة مجموعة كبيرة من الشركات الأميركية والأوروبية والمحلية، بل والإسرائيلية أيضا، تأتي في مُقدِّمتها شركة “أكاديمي” وريث الإمبراطورية الأشهر في عالم مرتزقة الحروب “بلاك ووترز”، نبدأ رحلتنا من شركة “داينكورب” الأميركية، التي تُوظِّف 17 ألف شخص بحجم أعمال يتجاوز 200 مليار دولار، وانتزعت في عام 2014 عقدا لتدريب قوات حفظ السلام في السودان, وقد صرَّح مدير تطوير الأعمال في الشركة أن أفريقيا هي الهدف المثالي لها، وأنها أبرمت عقودا هناك بقيمة 1.2 مليار دولار على مدار 5 سنوات مع الأمم المتحدة وشركات النفط والتعدين.

ألات نهب متعددة الجنسيات

وهناك أيضا شركة “ساند لاين”  البريطانية التي عملت لصالح الحكومة لقمع التمرُّد في جزيرة “بوغانفيل” في غينيا، مقابل مديونية قُدِّرت بـ 36 مليون دولار، في حين تولَّت شركة “أو بي إس” الفرنسية مسؤولية تأمين رئيس أفريقيا الوسطى السابق فرانسوا بوزيزي من هجوم قاده معارضو السيليكا، فيما تدخَّلت شركات “إكزيكوتيف أوتكمس” ، وشركة “لفدان” (الإسرائيلية)، وشركة “ميليتاري بروفشيونال رسورسيز” (أميركية)، في الأزمات ذات الطابع الاقتصادي بين الشركات الكبرى والشعوب المُتمرِّدة، مثل أزمة النفط في أنغولا، وأزمة الماس في سيراليون. وتُمارِس شركة “جي فور إس” الأميركية، ثاني أكبر شركة أمنية في العالم، سُدس أنشطتها العالمية في أفريقيا، في دول جنوب السودان وأنغولا ونيجيريا وزيمبابوي ضمن قائمة تضم 29 بلدا أفريقيا، ما يجعلها أكبر الشركات الأجنبية العاملة في أفريقيا على الإطلاق.

ومع توسُّع الأنشطة الأمنية مدفوعة الأجر في القارة، فقد عمدت بعض الدول في أفريقيا إلى تأسيس شركات المرتزقة الأمنية الخاصة بها التي تعمل لحساب الأنظمة الحاكمة والشركات الدولية، مثل شركة “أفينت” في زيمبابوي وشركة “تلي سيرفيس” في أنغولا وغيرها، وفي الواقع فإن بلومبيرغ تُقدِّر أن أعداد قوات الأمن الخاصة العاملة في جنوب أفريقيا مثلا يبلغ تقريبا ضِعْف عدد القوات الشرطية الحكومية، بواقع 446 ألف شرطي مسلح خاص مقابل 227 ألفا هو إجمالي عدد قوات الأمن الحكومية .

ومع التاريخ الطويل للأعمال القذرة مدفوعة الأجر التي مارستها الشركات الأمنية الكبرى، من العراق إلى أميركا الجنوبية وحتى في أفريقيا نفسها، فإن التوسًّع المحموم لهذه الشركات والشبكة القوية التي تضمّها مع شركات النفط والمعادن والأنظمة الديكتاتورية في أفريقيا تُمثِّل عائقا قويا نحو تطلُّعات الشباب الأفريقي نحو التغيير، وخاصة في الدول الغنية بالمواد الخام أو تلك الدول التي ترتبط بمصالح أمنية واقتصادية مع القوى الكبرى.

 خاتمة

وفي النهاية يمكن القول أنه في ظل هيمنة هذا الواقع المخزي في التعامل مع أفريقيا فإن الحجة السابقة لم تكن لتلقى على الأرجح نصيبها من الانتشار في مواجهة السرديات المُهيمنة فى النظر إلى القارة الأفريقية ، ليس فقط من قِبَل العوام ولكن أيضا من قِبَل كبار القادة والسياسيين حول العالم وفي مقدمتهم حتى رؤساء الدول “العظمى” حول العالم الذين لا يُدركون ربما أن غانا كانت يوما ما أكثر تطوُّرا معماريا من فيينا أو أمستردام قبل أن يُدمِّرها البريطانيون، وأن مدينة “تمبكتو” في مالي كانت يوما ما أكبر خمس مرات من لندن، وأن إمبراطور مالي “مانسا موسى” يذكره المؤرخون إلى اليوم بوصفه أغنى رجل في التاريخ. كما أن معظمهم لم يسمع يوما بنُظم السلطة في مشيخات مثل “فانتسي” و”موسي” و”شونا” و”خوزا”، حيث لم يكن من الممكن لرئيس ما أن يُملي سياسة أو قانونا مستقلا دون موافقة من مجالس الشيوخ والعشائر، أو حتى بملوك “الزولو” و”الشاكا” الأقوياء، الذين على الرغم من قوتهم لم يكونوا يملكون سوى تفويض الكثير من سلطاتهم.

كان الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب” بحاجة إلى أن يعرف بعضا من هذا قبل أن يُصرِّح، بعنصريته المعتادة، أن الأفارقة “بحاجة إلى الاستعمار لمئة عام أخرى”، وأنهم لا يعرفون شيئا عن الحكم والقيادة بسبب “كسلهم وغبائهم وهوسهم بالطعام والجنس والعنف”.

ولم يكن ايضا بحاجة إلى بذل مجهود كبير لاستكمال نقصه المعرفي حول أفريقيا، فهناك الكثير من الوثائق في مبنى مخابراته المركزية ليعلم كيف أسهمت بلاده في رسم تلك الصورة التي يعتقدها اليوم عن أفريقيا، أما زعماء أوروبا فربما تكفيهم زيارة قصيرة إلى فرنسا، حيث يمكنهم قضاء بعض الوقت مع مَن تبقوا على قيد الحياة من خلية الظل التي كانت حتى وقت قريب وربما لا تزال إلى الآن تُدير مصالح باريس في أفريقيا بأساليب مختلفة.

واخيرأ فأن “ألة النهب” الدولية والمدعومة من الداخل الأفريقى والقوى الكبرى وأحياناً من المنظمات الدولية لم ولن تتوقف ألا أذا توفرت الأرادة الذاتية الأفريقية فى الأبقاء على ثرواتها من النهب والسرقة وذالك لم يتحقق ألا بالتكاتف بين أبناء تلك القارة الغنية والفقيرة, فى نفس الوقت ويمكن بكل بساطة أن نرى ذالك فى القريب العاجل ألا أن القوى الأقليمية والدولية وعلى رأسها فرنسا والصين والولايات المتحدة الأمريكية يدفعون نحو مزيد من السيطرة على القارة السوداء أما عن طريق المساعدات المشروطة أو الأستثمارات المتحكمة فى الاقتصاديات الأفريقية أو عن طريق الرشاوى المدفوعة للسياسين الأفارقة ليبقى الوضع داخليأ كما هو عليه مغروساً فى الفقر والجهل وانتشار الأمراض وتوسع الحروب البينية وخارجيأ أيضاً كما هو عليه من ناحية تكثيف الجهود لنهب ثروات القارة الأفريقية البائسة .

بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك  وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب 

اظهر المزيد

موضوعات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى