دكتور أحمد سالم يكتب.. مستقبل النظام العالمي الجديد وتحديات تحالف العيون الخمس
يشهد النظام العالمي الجديد توجهًا ملموسًا للتحول من القطبية الواحدة إلى عالم متعدد الأقطاب، وهذا ما يخلق حالة من التوتر بين رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في بذل قصارى جهدها للبقاء على عرش القطبية الواحدة والذي سعت إليه بعد بكل قوة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، وما تلاها من فترة الحرب الباردة، انتهاء بتفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1991م، وظهور نظرية صراع الحضارات التي طرحها صامويل هنتنجتون، Samuel Huntingtonوالتي جادل فيها بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون متمحورة حول خلاف أيديولوجيات بين الدول القومية بل بسبب الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى في العالم، وهو جدال تمسك به حتى وفاته سنة 2008م.
اقرأ أيضا: د. أحمد البدوي سالم يكتب.. معهد الأمن القومي الإسرائيلي INSS يستجدي مصر للوساطة باسم السلام
ولكي تبقى الولايات المتحدة الامريكية مهيمنة على القطبية الواحدة قامت بعمل تحالف العيون الخمس The Five Eyesويكتب اختصارا (FVEY) وهو تحالف استخباراتي يضم: أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وهي معاهدة للتعاون المشترك في مجال استخبارات الإشارات، وبحسب جون مايكل ويفرJohn Michael Weaver فإن ثمة شراكة استخباراتية بدأت في عام 1946 بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ففي ربيع 1946، ألقى الزعيم البريطاني ونستون تشرشل خطبة بقيت طويلًا في التاريخ، وربما لم يزل لها حضور فيه إنها الخطبة التي خرج من رحمها تعبير “الستار الحديدي” ليصبح اصطلاحًا رائجًا منذ ذلك الحين ودالًا على عصر كامل ربما لم نزل نعيش آثاره أو امتداده أو انبعاثه من جديد، لكن تشرشل فضلًا عن ذلك صاغ في تلك الخطبة نفسها تعبيرًا آخر كان له نصيبه الكبير من الرواج، وإن لم يبلغ مبلغ الستار الحديدي، وذلك هو “العلاقة الخاصة”.في يوم تلك الخطبة نفسه، وقع حدث تاريخي آخر، مساهمًا بطريقته في تشكيل تاريخ العالم المقبل، وفي ذلك اليوم وقعت معاهدة سرية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، أو اتفاق رسمي لتبادل المعلومات الاستخباراتية بهدف مكافحة الخطر السوفياتي. ولاحقًا، انضمت كندا وأستراليا ونيوزيلاندا إلى تلك المعاهدة أو الاتفاق الذي سيعرف بـ”العيون الخمس”، ولن يكشف النقاب عنها علنًا إلا بحلول عام 2010.
ويرجع تاريخ العلاقات الاستخباراتية قبل ذلك، فأثناء الحرب العالمية الثانية، عمل محترفو الاستخبارات البريطانيون والأمريكيون معًا لفك تشفير الرسائل المشفرة التي أرسلها الألمان في حديقة بلتشلي للتغلب على قوة آلة إنجما وبالمثل، كانت هناك حاجة للتغلب على التشفير المستخدم من قبل اليابانيين وشيفرتهم المسماة Purple، كان الاتفاق الأصلي (UKUSA) يهدف إلى تضمين جمع المعلومات الاستخباراتية وإنتاجها ونشرها لاحقًا فيما يتعلق بالاستخبارات الأجنبية علاوة على ذلك، تضمن الترتيب أيضًا معدات الاتصالات والوثائق، وتحليل الشفرات، وتحليل حركة المرور، والترجمة، بالإضافة إلى ممارسات الاتصالات والمنظمات والمعدات والإجراءات.
وتهدف الاتفاقية إلى تدوين التفاهم بين البلدان وتنطوي على مسؤولياتها الناشئة عن السلوكيات الدولية والالتزام الثابت للدول الأعضاء بدعم أمنها الجماعي، وكان التفاهم، جزئيًا، أن المدى البعيد للدول يمكن أن يساعد في تبادل المعلومات الاستخباراتية خارج نطاق كل دولة في ذلك الوقت.
ولأجل تحقيق تحالف العيون الخمس تم تأسيس FIORC “مجلس مراقبة ومراجعة الاستخبارات التابع لدول العيون الخمس” يتألف المجلس من هيئات الرقابة والمراجعة والأمن غير السياسية التالية في أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة: مكتب المفتش العام للاستخبارات والأمن في أستراليا، وكالة مراجعة الأمن القومي والاستخبارات في كندا، مكتب مفوض الاستخبارات في كندا، مفوض أوامر الاستخبارات ومكتب المفتش العام للاستخبارات والأمن في نيوزيلندا، مكتب مفوض الصلاحيات التحقيقية في المملكة المتحدة، مكتب المفتش العام لمجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة. يتبادل أعضاء المجلس وجهات النظر حول الموضوعات ذات الاهتمام المشترك والقلق المتبادل.
يمارس تحالف العيون الخمس نوعان من طرق جمع المعلومات: الأول: برنامج بريسم الذي يجمع معلومات المُستخدم من شركات التِّكنولوجيا مثل جوجل وأبل ومايكروسوفت، والنظام الآخر: “نظام جمع المنبع ” الذي يجمع المعلومات مباشرةً من الاتّصالات عبر كابلات الألياف الضوئية والبنية التحتية، وقد كشفت هذه الطرق لأول مرَّة في 1972، وفي سنة 1996 قدم الصحفي النيوزيلنديّ نيكي هاجر وصفًا مفصلًا لإيكيلون في كتاب بعنوان «القوَّة السرية – دور نيوزيلندا في شبكة التجسس الدولية» والذّي استشهد به البرلمان الأوروبي بعدَ عامين في تقرير بعنوان «تقييمٍ تكنولوجيًّا السيطرة السياسيَّة.
في أول ديسمبر 2018 قبضت السلطات الكندية على المسؤول التنفيذيّ في شركة هواوي «منج وانزو» في مطار فانكوفر الدولي لمواجهة اِتِّهامات أمريكيَّة بالاحتيال والتآمر. وردت الصين باعتقال مواطنين كنديين، وأعتبر محللون أنَ ذلك بداية صدام مباشر بين القيادة الصينية وأعضاء تحالف العيون الخمس، ثم فرضت الولايات المتَّحدة قيودًا على التبادل التكنولوجي معَ الصين.
وبعد مطالبات من برلمانيين أستراليين ووزير الخارجيَّة الأمريكيّ مايك بومبيو أعلنت حكومة المملكة المتَّحدة أنَّها ستقلل من وجود تقنية هواوي في شبكة جيل خامس الخاصّة بها إلى الصفر، وذكرت جريدة جنوب الصين الصباحية أنَ بكين تُعتبر هذه الأحداث حربًا سياسيَّة «تخوضها معَ أقدم تحالف استخباراتي في العالم وهو العيون الخمس”.
وقد نشرت BBC في 19 نوفمبر 2020 مقالا بعنوان: هونج كونج: الصين تحذر الغرب من أن “العيون الخمس قد تصبح عمياء”. وقد انتقدت انتقدت الصين بشدة المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وكندا بعد اتهامها ببذل جهود متضافرة لإسكات المنتقدين في هونغ كونغ، وانتقدت الدول التي تشكل تحالف العيون الخمس فرض الصين لقواعد جديدة لاستبعاد المشرعين المنتخبين في هونج كونج. وحثوا بكين على التراجع عن مسارها. ورد متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قائلا إنه إذا تجرأت الدول “على المساس بسيادة الصين، فعليها أن تحذر من إمكانية عمى عيونها”.وقال تشاو ليجيان للصحفيين في بكين يوم الخميس “الصينيون لا يثيرون المشاكل أبدا، لكنهم لا يخافون منها أيضا”، مضيفا أنه “لا يهم إذا كان لديهم خمس أو عشر عيون”.
وبحسب التقرير الذي اعده فرانك غاردنر مراسل الشؤون الأمنية في بي بي سي والذي نشره في 5 مايو 2021 ذكر فيه أن تحالف العيون الخمس يمثل ترتيبا للتشارك في المعلومات الاستخبارية بين خمس دول ناطقة بالإنجليزية ذات أنظمة ديمقراطية، هي: الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وقد طُور هذا التحالف خلال فترة الحرب الباردة بوصفه آلية لمراقبة الاتحاد السوفياتي وتبادل المعلومات الاستخبارية السرية. ويُوصف عادة بأنه أكثر التحالفات الاستخبارية في العالم نجاحا، لكنه في الفترة الأخيرة عانى من أزمة محرجة.
وقد انتقد أربعة أعضاء من التحالف معا تعامل الصين مع سكانها من الإيغور المسلمين في إقليم تشانجيانغ. وعبروا عن قلقهم من قيام الصين بالاستحواذ عسكريا، بحكم الأمر الواقع، على بحر الصين الجنوبي، وقمعها للديمقراطية في هونغ كونغ وتهديدها بالتحرك للسيطرة على تايوان التي تعهدت الصين بـ “استعادتها” بحلول 2049، وعلى الرغم من ذلك، انسحبت دولة واحدة من دول هذا التحالف من المواجهة مع الصين، وهي نيوزيلندا.
وقد ظهر توتر في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين مع بداية عام ٢٠٢٣ بعد إسقاط الأولى بالونًا حلّق فوق أراضيها في ٢٨ يناير، زعمت واشنطن أنه كان أداةَ تجسسٍ صينية، بينما ردت بكين أن المنطاد خرج من مساره بسبب تأثير قوة الرياح، وأنه كان لعمل أبحاث مدنية للأرصاد الجوية، وقد أدى الحادث إلى تأجيل زيارة وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن» والتي كانت مقررة في ٥ و٦ فبراير ٢٠٢٣م.
وفي ظل حرب الرقائق (أشباه الموصلات)، والمنافسة العسكرية المحتدمة بين الجانبين الأمريكي – الصيني، سعت الدولتان إلى إدارة المنافسة الاستراتيجية المحتدمة بينهما في ظل تشابك علاقاتهما، وهو ما ترجمته اللقاءات المشتركة بين المسؤولين الصينيين والأمريكيين والزيارات المتبادلة خلال عام 2023، والتي كان آخرها لقاء الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، ونظيره الصيني «شي جين بينج»، في ١٥ نوفمبر ٢٠٢٣، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في سان فرانسيسكو.
وفي يونيو 2024 حذرت دول تحالف “العيون الخمس” (Five Eyes) من أن الصين تتحايل على الإجراءات الرامية إلى وقف تجنيدها للطيارين العسكريين الغربيين الحاليين والسابقين وغيرهم من الأفراد لتدريب الجيش الصيني. وذلك فيما ورد في نشرة عامة أصدرتها وكالات الاستخبارات في دول التحالف الخمس، الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، أن “المجندين الغربيين الذين يدربون جيش التحرير الشعبي (الجيش الصيني) قد يزيدون من خطر نشوب صراع في المستقبل من خلال تقليل قدرات الردع لدينا”. وهذا ما يعكس توترًا بين دول العيون الخمس من جانب والصين من جانب آخر.
وهذا بدوره أيضًا يعكس مدى توتر بقاء النظام العالمي ذو القطبية الواحدة المتمثل في الولايات المتحدة وحلفائها في اتفاقية العيون الخمس، وبين النظام متعدد الأقطاب في صعود الصين وروسيا.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب